هيلْدا جونسون (1/5)

 


 

 

إحلال السلام في السودان

القصة الخفيَّة للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهليَّة في إفريقيا

Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

شدَّ انتباهي إلى كتاب السيِّدة هيلدا جونسون المراجعة الرائعة التي نشرها الأستاذ خالد موسى دفع الله في أربع حلقات في صحيفة السوداني، بعناوين جانبية مصاحبة لعنوان الكتاب الرئيس "إحلال السلام في السودان: القصة الخفية للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا"، وبدأها بـ "قصة محارب الحرية والإسلامي الحذر"، ووسع فضاءها بـ"صراع الفنان والقاضي، وهل صنعت الخصائص الشخصية لقرنق وعلى عثمان السلام؟"، ثم تساءل "هل ساهمت أحداث 11 سبتمبر في توقيع اتفاقية السلام الشامل؟"، وأخيراً عرَّج إلى "جوزيف لاقو وقصة التغلغل الإسرائيلي في جنوب السودان". لا جدال أن القراءات الثلاث الأولى كانت من صلب الكتاب موضوع المراجعة، معضدةً بتعليقات الكاتب ذات الصلة بالقضايا التي عرضها للنقاش، أما الحلقة الرابعة فصيغت في شكل حواشٍ على متون الحوار الصحافي الذي أجرته صحيفة هارتس الإسرائيلية مع اللواء جوزيف لاقو وعلاقاته السرية بدولة إسرائيل. وصبَّ في منهل هذه المراجعة التبصرة الثاقبة التي قدمها السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله عن المحاضرة التي ألقتها السيِّدة هيلدا جونسون بجامعة الأحفاد للبنات في العشرين من مارس 2011م، وعرضت فيها مفردات كتابها المشار إليه، وأجابت عن الأسئلة والتعليقات التي طرح الحضور بشأن اتفاقية السلام الشامل من حيث الصياغة، والتنفيذ، والمآلات التي أفضت إليها. وفي عاموده الصحافي بصحيفة الأحداث، قدم الأستاذ عادل الباز شذرات من "إحلال السلام في السودان"، وذلك في إطار الحوار الذي دار بينه والسيِّدة هيلدا جونسون أثناء اللقاء الذي نظمه  رجل الأعمال أنيس حجَّار في باخرة فاخرة على شاطئ النيل الأزرق بالخرطوم بمناسبة زيارة المؤلفة إلى السودان. وخارج السودان حظي "إحلال السلام في السودان" باهتمام العديد من المؤسسات الأكاديمية، ونذكر في مقدمتها معهد كرستين مكلسن (Chr. Michelsen Institute) بمدينة بيرقن النرويجية، الذي نظم مديره، بروفيسور قونر سوربو  (Gunnar Sorbo)، حلقة أكاديمية مع السيِّدة هيلدا جونسون، ناقش فيها "القصة الخفية للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا "؛ فلا شك أن اهتمام المعهد لم يكن وليد لحظة عبارة؛ لأن بروفيسور سوربو له اهتمام وثيق بقضية الصراع في جنوب السودان، وكانت له علاقة وطيدة مع زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، الراحل الدكتور جون قرنق، فضلاً عن إعداده الجيد لمنتدى بيرقن في 23-24 فبراير 1989م تحت عنوان "إدارة الأزمة في السودان". وفوق اهتمام المعهد ومديره، فإن لجامعة بيرقن كيل آخر، حيث أن المستشار الخاص للسيدة هيلدا جونسون، الدكتور شل حدنبو (Kjell Hodnebo)، من خريجي قسمها للتاريخ في النصف الأخير من عقد تسعينيات القرن الماضي، وكذلك الدكتور إندرا استينس (Endre Stiansen)، ممثل النرويج في سكرتارية إيقاد التي أشرفت على مفاوضات السلام الشامل. فلا عجب أن هذه الشواهد جميعها تؤكد أهمية كتاب السيِّدة هيلدا جونسون؛ لأنه يعكس الطرف الخفي من مفاوضات السلام الشامل التي أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا، وبذلك يكون الكتاب جدير بالمراجعة والتعليق من زوايا مختلفة، بعضها يرتبط الدور المحوري الذي قامت السيِّدة هيلدا جونسون، وكيف كانت جسر عبور لبناء الثقة بين طرفي النزاع؟ وما وجهة نظرها بشأن الديناميات السياسية التي حكمت مفردات التفاوض بين الأستاذ عثمان محمد طه والدكتور جون قرنق؟ وما القضايا الشائكة التي طُرحت على طاولة التفاوض وكادت أن تفضي بمستقبل السلام في السودان؟ وما الظروف السياسية المحلية والإقليمية والعالمية التي أسهمت في دفع مسار المفاوضات، حسب وجهة نظر المؤلفة، ثم أفضت في خاتمة المطاف إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير 2005م؟ وما دور العناصر المناوئة لمخرجات الاتفاقية وانعكاسات ذلك على المشهد السياسي في الخرطوم وجوبا؟ وبناءً على هذه الأسئلة ومثيلاتها نرى أن المراجعة الشاملة للكتاب ستكون ذاته فائدة بالنسبة للقارئ السوداني الذي لم يكن في مقدوره الحصول على النسخة الإنجليزية، ومن زاوية أخرى ربما تحفِّز المراجعة الشاملة الذين كانوا طرفاً في مفاوضات اتفاقية السلام الشامل أن يدلوا بدلوهم، ويوثقوا لنا الجوانب الخفية للاتفاقية التي لم تكن متاحة لمعظم الذين قاموا بتنفيذ بنودها على صعيد الواقع، والذين أكتفوا بقراءة نصوصها وتقويمها دون العلم بالمقدمات التي أفضت إلى صياغاتها النهائية، ومن ثم كانت تقويمات بعضهم أشبه بتقويم سيدنا موسى عليه السلام لمواقف العبد الصالح التي لم يحط بها خُبراً.             

الكتاب والمؤلف
صدر كتاب السيِّدة هيلدا جونسون الموسوم بـ "إحلال السلام في السودان: القصية الخفية للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهلية إفريقيا" في غلاف ورقي، تعلو صفحته الأمامية صورة أكفٍ لأطفال جنوبيين في ملكال تحمل رصاصات فارغة، رمزاً لمخلَّفات الحرب التي أورثت الدمار في جنوب السودان، وفي قاعدته الأمامية صورة للزعيمين الدكتور جون قرنق والأستاذ على عثمان محمد طه، وهما يرفعان وثيقة اتفاقية السلام الشامل بعد التوقيع عليها في التاسع من يناير 2005م، هكذا جمعت الصفحة الأمامية للغلاف بين النقيضين، صورة رمزية للآثار البائسة لسنوات الحرب العجاف، وأخرى للآمال المرجوة من اتفاقية السلام الشامل. وفي الصفحة الخلفية للغلاف الورقي يوجد اقتباس من تقريظ السيِّد كوفي عنان للكتاب، وبين الاقتباس وتبصرة الكتاب تبرز صورة السيِّدة هيلدا جونسون بشعرها الأشقر وثغرها الباسم، وتلي ذلك فذلكة مختصرة عن الوظائف التي تقلدتها، واسم دار النشر التي نشرت الكتاب. صدر الكتاب عن مطبعة سوسكس الأكاديمية البريطانية وأفرعها في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا عام 2011م. ويتكون الكتاب من 264 صفحة في القطع المتوسط، ابتدرتها المؤلفة بتصدير  للسيد كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة السابق، وقائمة للصور المصاحبة للنص، وشكر وعرفان، ونبذة عن المؤلفة، وتنويه عن الطريقة المتبعة في كتابة الأسماء والمصطلحات العربية بالأحرف اللاتينية، والخرائط التوضيحية. وبعد ذلك قسمت المؤلفة سفرها جيدة الصِنَّعة إلى مقدمة وسبعة فصول رئيسة، أعقبتها بخاتمة أطلقت عليها الإنجازات والتحديات، ثم درجت في نهاية الكتاب الحواشي، وقائمة المعاينات والمقابلات الشخصية التي أجرتها، وفهرس الأعلام والأماكن والموضوعات المفتاحية. أما المصادر التي استقى الكتاب معلوماته منها فيعتمد جلَّها على ملاحظات المؤلفة، ومعايشتها اللصيقة لقضية السلام في السودان، والمعاينات والمقابلات الشخصية التي أجرتها مع عدد من الشخصيات البارزة التي كان لها دور في إنجاز اتفاقية السلام داخل السودان وخارجه، فضلاً عن استئناسها بأرشيف وزارة الخارجية النرويجية. وبهذه الكيفية يمكننا القول بأن "إحلال السلام في السودان" مساهمة علمية أصيلة في موضوعها؛ لأن الكتاب يقوم على كمٍّ مقدرٍ من المصادر الأولية والقراءات الثاقبة والتحليلات الموضوعية للمؤلفة التي كانت على صلة وثيقة بحيثيات الاتفاقية.    
وتقودنا هذه الفقرة الأخيرة إلى سؤال منهجي عن المؤلفة: مَنْ هيلدا جونسون؟ وُلدت هيلدا فرافجورد جونسون بمدينة أروشا بتنزانيا عام 1963م، وحصلت على شهادتها الجامعية في علم الانثروبولوجيا من جامعة أوسلو بالنرويج، ثم بدأت حياتها السياسية عضواً في البرلمان النرويجي عام 1993م، واستمرت عضويتها إلى عام 2001م. وإلى جانب نشاطها البرلماني عملت وزيراً لوزارة حقوق الإنسان والتنمية (1997-2000م)، ثم وزيراً لوزارة التنمية الدولية (2001-2005م)، فضلاً عن عضويتها الفاعلة في العديد من اللجان البرلمانية المرتبطة بالطاقة والبيئة، والعلاقات الخارجية، والشؤون الإفريقية، ورئاستها لمنبر أصدقاء إيقاد (الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية)، وعضويتها الاستشارية في البنك الدولي. وتثميناً لهذه الجهود منحها مركز التنمية العالمي والسياسة الخارجية بواشنطون جائرة الالتزام بالتنمية. وبعد أن خسر التحالف السياسي المكون من الحزب الديمقراطي المسيحي، وحزب المحافظين، وحزب العمال عدداً من المقاعد البرلمانية في الانتخابات العامَّة لعام 2005م فقدت أيضاً السيِّدة هيلدا جونسون منصبها في الحكومة الائتلافية الجديدة، وانتقل حزبها الديمقراطي المسيحي إلى صفوف المعارضة، ولذلك تمَّ ترشيحها إلى منصب نائب المدير التنفيذي لليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة)، الوظيفة التي تشغلها منذ عام 2005م. ولا مندوحة أن هذه الخبرات المتعددة وشبكة الاتصالات الواسعة كانت ضمن العوامل الفاعلة التي جعلت هيلدا جونسون خير  "أجواد" لتفعيل التواصل الإيجابي بين طرفي النزاع في السودان. 

لماذا كانت هيلدا جونسون وسيط ناجحاً بين المتخاصمين؟
ترتكز الإجابة عن هذا السؤال على ثلاثة محاور رئيسة. يتمثل المحور الأول في السند الدولي الذي حظيت به الوزيرة هيلدا جونسون من الحكومة النرويج التي أولت اهتماماً فائقاً لقضية السلام في السودان، وعضد ذلك الموقف الإيجابي للحكومة النرويجية رئاستها لمنتدى أصدقاء إيقاد المكون من الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والنرويج، وكندا، وإيطاليا، وهولندا، وسويسرا، فضلاً عن عضويتها الفاعلة في "الترويكا" التي كانت تمثل الدول الثلاث الضامنة لاتفاقية السلام الشامل (الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والنرويج). فموفق حكومة النرويج كان موقفاً مقبولاً لطرفي النزاع، بالرغم من الدعم النرويجي غير المعلن للحركة الشعبية لتحرير السودان، أما عضويتها في الترويكا فقد سهلت عملية اتصالها بالولايات المتحدة الأمريكية لتستخدم أسلوب "العصا والجزرة" لحث طرفي الصراع على الانخراط في مفاوضات جادة، والبحث عن حلول وسطى ترضي تطلعاتهما السياسية، والشاهد في ذلك الضغط الذي مارسته الحكومة الأمريكية على حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان على حدٍ سواء. ويرتبط المحور الثاني بالثقة المفقودة بين طرفي النزاع؛ لأن الصراع في جنوب السودان كان موثوقاً في كلياته بالفعل التاريخي البشري، الذي تتبلور معالمه في مجاهدات إنسان الجنوب المحارب من أجل تراثه المحلي وقسمته في السلطة والثروة، وفي تركة إنسان الشمال الذي ورث سيادة دولة السودان القُطرية المستقلة؛ إلا أنه أغفل مراعاة خصوصيات إنسان الجنوب الذي طعن بموجب ذلك في سيادة النخبة الحاكمة في الخرطوم، بذلك انهارت الثقة بين شقي القُطر الحر المستقل، وتدريجياً تحوَّل هذا الانهيار إلى حالة أزمة، ثم بلغت تلك الأزمة ذروتها في الصراع السياسي المسلح الذي جثم على صدر السودان قرابة نصف قرن من الزمان، واتسع الرتق على الراتق عندما اكتسبت الحرب الأهلية بُعداً دينياً في عهد حكومة الإنقاذ. إذاً فقدان هذه الثقة المتراكم كان يحتاج إلى طرفٍ ثالث محايد ومقبول للطرفين، ويكون في إمكانه إعادة الثقة المفقودة بينهما، وطرح القضايا المشتركة التي تصلح للتفاوض، وتكون أساساً للاتفاق المرجو. ولا غرو أن هذا الواقع قد جعل السيِّدة هيلدا جونسون أفضل البدائل المطروحة للتوسط، وتجسير الهُوة بين الخصوم. ويتمثل المحور الثالث في الإعداد الشخصي للسيدة هيلدا جونسون التي كان لديها إلمام واسع بقضية الصراع في جنوب السودان، فضلاً عن التزامها بموقف محايد بين الطرفين، وجرأتها في طرح القضايا الحساسة التي أكسبتها مصداقية عند "محارب الحرية" الدكتور جون قرنق و"الإسلامي الحذر" الأستاذ على عثمان محمد طه.
(يتبع: علي عثمان ولقاء جون قرن).
صحيفة الأحداث

 

آراء