برزخ الصحو والغياب .. واليأس بالاكراه !!

 


 

يحي العوض
3 July, 2011

 


كان متميزا بعباراته اللازعة والطريفة , الاستاذ الجنيد على عمر , وفى كل أحواله , فى كمال الصحو أو الغياب . اذا استرسلت فى الحديث , يقول لك دعنا نلعب "بينج بونج " أى بالجمل القصيرة , ويصف احيانا  الاصدقاء والزملاء "فلان من دراويش الحزب " , او من "كلاب لهب " , اذا كان  متشددا ..وتغرينى احدى عباراته , " انه يتطرف وعيا " فى وصفه  للمتحمسين أو المبالغة  والاندفاع  المفرط  فى تعزيز الرأى والحجج ,واستعير عبارته  تلك , فى وصف  حالنا , تلك الايام النواضر.
كاد السودان أن  " يتطرف وعيا " , فى  حقبة  الخمسينيات والستينيات  من القرن الماضى  حتى اطبق عليه " الظلام المستنير" فى  مطلع السبعينيات وما بعدها ,فى الصراع المحتدم بين اليسار واليمين, وكلاهما  تشكل وانبثق من القطاع  الحديث  بتشكيلاته المتعددة ,ومن هنا كان  مصدر قوتهما , ومصدر مأساتنا ! , منذئذ تجلى ابداعنا  فى وضع  الالغام  فى طريق  الآخر , لنطأها   فى النهاية  بانفسنا  ! مضت  مسيرة "اليأس بالاكراه " , والتدمير الذاتى  للذات  فى ايقاع  متسارع , لتشيد "نصبا تذكاريا للدموع " , يدشن رسميا فى التاسع  من يوليو 2011م , معلنا الانشقاق العمودى فى بنية الامة , ونجاح المشروع الاحتكارى " للوطن والوطنية ", الذى لا يماثله الا نجاح مريض السكرى الذى يهمل العلاج المتاح  ويتمادى فى  العناد والعداء لنفسة , ويصم اذنيه من الانذار المبكر ليكون الدواء الاخير, بتر اعضائه  ,جزءا , جزءا !  أسوأ شيىء يمكن ان يحدث حدث بالفعل , ولا نستطيع  اخفائة   تحت  مصطلحات بازخة  فى خداع النفس والثمل الايدولوجى , وشعارات "الحلم الهروبى" الذى  يبشرنا  ب"الجمهورية الثانية " , تتويجا للمشروع الذى بددته رياح الواقع!   تعلمنا حكمة الشعوب ان" الزمن بمثابة  المعلم   اذ  يساعد على  حلول التقييمات  الواقعية  محل  الاوهام  والتخيلات . بامكانك  انكار  الحقائق  لكنك لا تستطيع تغييرها  "! تبدأ المأساة كما يقول برتولد بريخت ,حين ينظر الناس الى الامر غير العادى ,كأنه من الامور العادية , فتصبح القاعدة هى الاستثناء والاستثناء هو القاعدة  وتضطرب  القيم  وتفسد  المعايير !.
وتعمقت  معرفتى  بالكاتب  والشاعر والمخرج  , هادم  الجدار الرابع  فى المسرح ,الشاعر  الالمانى, برتولد بريخت , بفضل  صحبة  الاستاذ الجنيد على عمر , فى مرحلة  كمال الصحو , وكأن  تلك  الصفوة  من مفكرى وقادة الستينات , تتسابق ايضا فى الكسب الثقافى , كنا  نحتفى بكتابات الاستاذ عبد الرحيم الوسيلة , الموشاة  دائما  بأشعار وليم شكسبير ,وتطربنا أشعار المحجوب وبلاغة  الاخوين  الشريفين حسين وزين العابدين  الهندى, وهدير شعارات يحيى الفضلى وجرأة وشموخ محمود محمد طه واجتهادت الصادق المهدى فى ابتكار المصطلحات ,السيندكالية , مثلا , وحربائية  اقنعة الدكتور الترابى ,ومثابرة الدكتور منصور خالد  فى التوثيق,  ومساجلات عمر مصطفى المكى وصلاح احمد ابراهيم ..و كنت اضحك من قلبى فى نهاية لقاء مع الاستاذ  الجنيد وهو يردد مقطوعة  للشاعر  برتولد بريخت , يقول فيها :
حدث ذات مرة ان رجلا
بدأ   يعاقر   الشراب,
حين  كان فى الثامنة عشر ,وهذا
ماقضى عليه ,
مات فى عامه الثمانين !
والسبب واضح تماما ..!
ويولع الشاعر الالمانى الكبير (1898م -1956 م ) بالتضاد المدهش وهو صاحب عبارة "اذا لم  يوافق الشعب , على استمرار الحاكم , فيمكن للحاكم ان يستبدله بشعب آخر  "!. وافتتن به ايضا الصديق الدكتور محمد سليمان وترجم  له  عدة قصائد اصدرها فى كتاب انيق بعنوان " مختارات من اشعار برتولد بريخت ", ونشرت بعضها فى جريدة "الفجر"واسعدتنى قصيدته فى منفانا  الاول فى تسعينيات القرن الماضى , معزيا فى فقد الاوطان :
لا تغرز مسمارا فى الحائط..
الق السترة فوق الكرسى..
غدا انت العائد ...
لاتتعلم لغة اخرى لا تقرأ كتبا عن لغة اخرى..
ماذا تفعل باللغة الاخرى وغدا يدعوك الوطن بحروف تعرفها انت وينطقها الوطن , لا تنسى , انك للوطن عائد ! .... ولم  تصدق  معنا    نبؤة   بريخت , شاء  قدرنا  , المعاناة  مبكرا  من  يتم  الاوطان ..!
ويزهو الاستاذ الجنيد على عمر, بالمفكر الايطالى انطونيو  قرامشى  وقد كلفه حزبه بترجمة كتابه" الماركسية والفكر ", وفى زمن  مبكر  تفانى رفاق الجنيد فى تطبيق  نظرية " المثقف العضوى" التى بشر بها  قرامشى , وفى وقت وجيز , سمقت  قيادات واعدة من بين العمال والمزارعين وتقدمت الصفوف , وهو انجاز غير مسبوق فى مسيرة احزاب العمال والمزارعين فى العالمين العربى والافريقى, مما اكسبهم صفة اكبر حزب فى الشرق الاوسط, و مواقع    قيادية  عالمية  مرموقة فى اتحاد العمال العالمى ( قاسم امين  , الشفيع احمد الشيخ , ابراهيم زكريا ) ووزنا نوعيا فى الحراك السياسى السودانى( من العمال: هاشم السعيد , الحاج عبدالرحمن , شاكر مرسال , المنبثق- محجوب قسم الله ومن المزارعين الامين محمد الامين  ويوسف احمد المصطفى) .واثار هذا غيرة الحرس القديم مما ادى لاول انشقاق  فى الحزب 1951 -1952م وازعم ايضا انه كان من بين اسباب الانشقاق الثانى والدامى فى مسيرته 1970-1971م , مع تكثيف  الضغوط  الدولية والاقليمية لتصفيتهم .!
سنفصل ذلك لاحقا, ونتوقف  عند مصطلح "المثقف العضوى " . يقول انطونيو قرامشى : " تصور المثقفين كفئة اجتماعية متميزة ومستقلة عن الطبقة ليس الا خرافة , فكل الناس  يمكنهم ان يكونوا مثقفين بمعنى ان لديهم ذكاء , وانهم يستخدمونه , ولكنهم ليسوا جميعا مثقفين من حيث الوظيفة الاجتماعية . وينقسم المثقفون من الناحية الوظيفية الى جماعتين : فهناك اولا المثقفون المحترفون  التقليديون  , كالادباء والعلماء وغيرهم  الذين تحيط بهم  هالة من الحياد بين الطبقات , تخفى تعلقهم بالتكوينات الطبقية التاريخية Traditional  Intellecutals وهناك المثقفون العضويون , وهم العنصر المنظم فى طبقة اجتماعية اساسية معينة                 
Organic  Intellecutals    ولا يتميز هؤلاء المثقفون العضويون بمهنتهم التى قد تكون اية وظيفة فى الطبقة التى ينتمون اليها "عامل أو مزارع مثلا" بقدر مايتميزون بوظيفتهم فى توجيه افكار وتطلعات  الطبقة التى ينتمون اليها عضويا . من هنا كانت  قوة الحزب  ومصرعه فى  آن واحد !
ونواصل.
yahyaalawad@hotmail.com

 

آراء