ومن الحب ما قتل

 


 

 


بقلم بروفيسور/ محمد زين العابدين عثمان – جامعة الزعيم الأزهرى
Z_Osman@yahoo.com
لقد أجرت صحيفة التيار الغراء لقاءاً وحواراً صحفياً مع السيد أحمد عبد الرحمن محمد أحد شيوخ الحركة الأسلامية السودانية والذى تحدث فيه عن قضايا كثيرة ولا أريد ان أتعرض لها كلها فى هذه العجالة وهذه المساحة المتاحة على الصحيفة ولكن استوقفنى قوله أنهم فى الجبهة القومية الأسلامية أو قل فى الحركة السلامية قد وافقوا بكل أرادتهم وبكامل قواهم العقلية على مقترح الشيخ حسن الترابى بحل الحركة السلامية وقال أن الشيخ قد أقنعهم بهذا الحل دون أن يذكر لنا المبررات التى ساقها لهم الشيخ حسن الترابى. وأيضاً مع ذلك لم يبدئ لنا رأيه فيما اذا كان حل الحركة الأسلامية فى بداية حكم الأنقاذ صحيحاً أم لا بعد مضى أكثر من عشرين عاماً من التجربة  فىحكم الأنقاذ وكان مهماً أن يدلى برأيه ولكن تحاشاه لحاجة فى نفس يعقوب أو كان مسحوراً من شيخه أو أن حب شيخه قد أعمى بصره وبصيرته.
كما أن السيد احمد عبد الرحمن محمد قد قال بعضمة لسانه أنه كان من حمائم الحركة الأسلامية وصار من صقورها وقام بتأييد الأنقلاب والأستيلاء على السلطة بالقوة لأن القوى السياسية قد قامت بأقصاء الجبهة القومية الأسلامية عند تشكيل حكومة القصر فى أخريات الحكم الديمقراطى الماضى وهو تعليل سنرد عليه ونبرهن خطله فى صلب هذا المقال خاصة لحركة اسلامية قامت كل الحركة السياسية السودانية وعلى راسها الحزبين الكبيرين التاريخيين الأمة والأتحادى الديمقراطى بأحتضانها وهى فى طور الرضاعة ولم تفعل بها ما فعل بمثيلاتها فى العالمين العربى والأسلامى من تنكيل وسجن وتشريد. بل مهدت لها طريق النموء الطبيعى أيماناً من الحركة السياسية السودانية الجماهيرية أن الأحزاب العقائدية فى أقصى اليمين واليسار ستكون بمثابة البهارات فى مائدة السياسة السودانية اثراءاً لحراكها الفكرى والسياسى ومتيقنة من عدم مقدرتها ولن تستطيع أن تقود الشعب السودانى جماهيرياً لأن كلا الفكرين اليسارى واليمينى الدينى أبعد ما يكونان عن المزاج العام للمواطن السودانى وهى فى النهاية أحزاب نخبوية صفوية.
كنت أحمل للسيد أحمد عبد الرحمن صورة تمجيدية زاهية فى ذهنى ومكانة فيها كثيراً من التعظيم والتبجيل لأنى كنت اسمع عنه وعن مواقفه كثيراً من الشقيق المرحوم الأستاذ ربيع حسنين السيد وعن مواقفه ومجاهداته وفكره الديمقراطى الليبرالى ايام كفاح الجبهة الوطنية بقيادة الشهيد الشريف حسين الهندى. ولقد كان يعلم السيد أحمد عبد الرحمن وقتها أن الجبهة الوطنية قد قامت وتكونت من أجل أسترداد الحريات العامة والديمقراطية المعتدى عليها والمسلوبة ولم تقم من أجل الدين أو تحكيم الشريعة الأسلامية ولذلك كان كفاح الجبهة الوطنية كفاحاً مدنياً وليس جهاداً مبنى على عقيدة دينية ولم ترفع فى يوم من الأيام شعار قيام الدولة الأسلامية حتى ينضوى تحتها الأسلاميون ولكنها قامت من اجل الحرية والديمقراطية وبهذا المفهوم ألتحقت بها جبهة الميثاق الأسلامى ومثل فى أجتماع تكوينها الأول الشهيد محمد صالح عمر. وكنت اعتقد ان أنتظام الأسلاميون فى الجبهة الوطنية هو أيمان راسخ بالحريات العامة والديمقراطية الليبرالية والعدالة الأجتماعية وليس تقية لقيادة صراع ضد الشيوعيين والفكر اليسارى المناوئ لهم.
لقد أهتزت صورة السيد احمد عبد الرحمن فى ذهنى يوم أن ذهبت للقائه مستنجداً به من أجل غاية وطنية كبرى وبعد انتهاء مقابلتى له مباشرة ورد فى خاطرى القول أن تسمع عن المعيدى خير من أن تراه وهذه كانت رؤية عين ورأى. نحن الأتحاديون تعلمنا من رعيلنا الأول ومن فكرنا الوسطى أن نقدم الشأن الوطنى العام على الشأن الحزبى والخاص أو حتى لو كان على حساب الشأن الحزبى والشخصى. ومن هذا المنطلق بعد ان فشلت كل محاولات راب الصدع بين الأسلاميين السودانيين بمن من الداخل أو اسلاميين من الخارج على راسهم الشيخ يوسف القرضاوى ونحن نرى أن الصراع بين الأسلاميين قد اشعل حرب دارفور وانه صراع مضر بأستقرار السودان وتحقيق السلام فى ربوعه رأيت وطرحت مبادرة شخصية على الأخ الشيخ الدكتور حسن الترابى بأن يتم الجلوس للحوار بين الفرقاء  الأسلاميين من أجل الوطن وتضميد الجروح لأن الأستمرار فى الصراع مضر بمجمل العمل السياسى السودانى. ولأن المبادرة سودانية خالصة ومن مواطن سودانى محايد وبرؤية وأضحة وفيها تجرد فقد وافق الشيخ حسن الترابى على أن يتم اللقاء اولاً بينه والأخ على عثمان محمد طه بحسبان أنهما هما الأدرى بمجريات العمل الأسلامى طوال الحقبة الماضية. ولأن الخلاف هو خلاف فكرى وسياسي فى أمهات القضايا رأى الشيخ حسن أن يتم نقاش نقاط الخلاف بكل الوضوح والشفافية وبسرية تامة وفى دارى وبحضورى وأعطانى تفويضاً فى ذلك. وكان الرأى أنه أذا تم الأتفاق على قضايا نقاط الخلاف أن يجلس الأثنان معاً مع الأخ الرئيس عمر حسن أحمد البشير رئيس الدولة وقائد الجيش منفذ الأنقلاب. وأذا تم أتفاقهما مع البشير أن تسير المسيرة بما اتفق عليه وأذا لم يحدث الأتفاق أن تفك الحركة الأسلامية أرتباطها بنظام البشير وتأخذ جانب المعارضة مع بقية القوى السياسية المعارضة ومعروف أن البشير قد أتت به الحركة الأسلامية لقيادة الأنقلاب كسد طلب بعد قائد العمل الأسلامى داخل القوات المسلحة مختار حمدين الذي أستشهد قبل شهور من قيام أنقلاب الأنقاذ.
لقد أخذت تعهداً وموافقة من الشيخ حسن الترابى على هذا اللقاء وأجراء الحوار وألا أكشف عنه ولكن آن الأوان ليعلم الأسلاميون من هو الرافض للحوار والأتفاق أذ دائماً ما تشير الأصابع لشيخ حسن الترابى. حاولت جهدى الوصول للأخ على عثمان محمد طه بالمذكرة بواسطة العم التجانى محمد أبراهيم الرجل الذى كان متاحاً له دخول القصر فى أى وقت والدخول على الأخ على عثمان محمد طه متى ما اراد واخبرنى أنه سلمه المذكرة التى لم يرد عليها حتى الآن. ثم بعد ذلك لجأت وأستعنت بجيلى من أبناء الحركة الأسلامية وعلى رأسهم الأخوان تاج الدين المهدى وعمر محمد التوم ولم يفلحا فى الأتيان بموافقة الأخ على عثمان محمد طه. ثم من بعدها أستعنت بالأخ الدكتور محمد احمد سالم مسجل الأحزاب وقتها والذى أستطاع توصيلى للأخ عبد العظيم سالم محمد طه أبن عم على عثمان ونسيبه المتزوج لأخته والذى أيد الفكرة ووعدنى أن يأتينى بموافقة الأخ على عثمان محمد طه ولكن ذهبت محاولاته مع أبن عمه أدراج الرياح. وهنا مربط الفرس فقد لجأت للعم احمد عبد الرحمن محمد وقابلته بمكتبه بمجلس الصداقة الشعبية وطرحت عليه الأمر فما كان الا أن أنفعل وثار وبدأ يقول لى أنسى الترابى دا رجل أنتهى معاه حفنة من الأسلاميين يحبونه فى شخصه وقد كنا كلنا نحبه ونفعل له كل ما يريد وان الترابى ليس له مستقبل فى الحركة الأسلامية وخرجت منه غاضباً ووردت على ذهنى مباشرة مقولة أن تسمع عن المعيدى خير من أن تراه فأهتزت الصورة له التى كانت فى مخيلتى سماعاً والآن قد رأيتها رأى العين. ومن بين ثنايا حديثه شعرت بمدى الكراهية والحقد الذى يحمله لشيخ حسن الترابى. وعندما سألت بعض من هم فى عمق الحركة الأسلامية ويعرفون الرجل حق المعرفة افادونى أن السيد أحمد عبد الرحمن كان يمنى نفسه أن يكون الرجل الثانى فى الحركة الأسلامية ولكن الترابى قدم عليه على عثمان محمد طه خاصة فى العهد الديمقراطى الثالث ومن وقتها صار ينفث سمومه فى الترابى وأنحاز للبشير عندما جاءت المفاصلة فأنقلب الحب الى كراهية ونسى أن حبه الأعمى ومن معه للترابى قد أوردنا مورد الهلاك وهذا هو الحب الذى قتل وقتل أمة سودانية بأكملها فى حكم الأنقاذ.
سردت هذه القصة لأدلل بها أن كل قيادات وكوادر الحركة السلامية قد كانت مسلوبة الأرادة  بحبها للترابى الذى اعمى عليها بصرها وبصيرتها وما ذلك الا للفارق الكبير بينه والآخرين ذكاءاً وعلماً ومقدرةً وعطاءاً وفكراً وفهماً للدين والذى كان فيه هو المجتهد الوحيد من بينهم والبقية كلها متلقية. فصارت هذه القيادات لا ترى الا ما يرى الترابى ولا تسمع الا ما يسمع الترابى ولا تتكلم الا بما يقول الترابى. وللأسف هنالك قيادات كثيرة لمعت فى سماء السياسة السودانية والعمل السياسى الوطنى وصار لها بريقاً ولكن ما أن تقترب منها وتسبر أغوارها حتى تندم على جهلك وتجهيلك بواسطة الأعلام على الصورة التى تمت بها صناعة هذه القيادات وهى فى النهاية بو وفارغة أفرغ من فؤاد أم موسى.
الأمر الثانى هو أن القوى السياسية لم تعزل الجبهة القومية الأسلامية من الحكومة التى تم تشكيلها فى القصر من خارج رحم البرلمان وانما رفضت الجبهة القومية الأسلامية ان تشارك فيها لأنها قد دبرت خيانة القيام بالأنقلاب فكبف تنقلب على نفسها وأتخذت ذلك ذريعة لتنأى بنفسها عن الحكومة التى ستنقلب عليها عسكرياً. والأنقلاب أساساً لم يكن ضد الأقصاء من الحكومة لأن الوقوف فى المعارضة هو أيضاً دور وعطاء وطني ولكن الأنقلاب قام لوأد أتفاقية 16 نوفمبر 1988م الموقعة بين الميرغنى وجون قرنق والتى وافقت عليها الجمعية التأسيسية وتحدد معياد قيام المؤتمر الدستورى للأتفاق حول كيفية أن يحكم السودان وليس فيها أى بند لتقرير مصير يقود للأنفصال وحتى الحدود فى قوانين سبتمبر أتفق على تجميدها وليس ألغائها ويتم النقاش حولها فى المؤتمر الدستورى. وما الترويج لأقصاء القوى السياسية للجبهة القومية الأسلامية الا ذر للرماد فى العيون لتبرير الأنقلاب ولا يريدون أن يقولوا انهم يريدون قطع الطريق أمام أتفاق الميرغنى وقرنق ليأتوا بعد ستة عشر عاماً بأتفاقية نيفاشا والتى هى بكل المقاييس أسوأ من اتفاقية الميرغنى قرنق والتى فرطت فى وحدة السودان وأدت لأنفصال الجنوب الحبيب . وهذا الأنفصال يتحمل وزره أولاً الأخ على عثمان محمد طه ومن ثم بعد كل نظام الأنقاذ مجتمعاً لأن هنالك مفاوضين من قبله رفضوا كل ما يؤدى الى تفتيت وتجزئة الوطن.

 

آراء