الإعلام والفساد في الديكتاتورية الخضراء

 


 

 


boulkea@yahoo.com


الدكتاتورية الخضراء مُصطلحٌ سكهُ الألماني "هيرمان أوكتمان" المُعارض لقرار مجلس مدينة "ماربورغ" القاضي بإلزام سُكان المدينة بإستعمال الألواح الشمسية  لتوليد الطاقة  في إطار الجهود الرامية إلى حماية البيئة. وفرض القرار مبلغ 1000 يورو كغرامةٍ على المخالفين.

وقد إعتبر سُكان المدينة -  المُنتقدون لقرار مجلسهم - أنّه يُشكل هجوماً سافراً على حقوق المواطنة. و قال هيرمان إنَّ إرغام الناس بدلاً عن إقناعهم بإستعمال الألواح الشمسية يُمثل توجُهاً خاطئاً لأنَّ تلك الطريقة القسريَّة ستخلق أعداءً للطاقة الشمسية بدلاً من أنْ تخلق لها أصدقاء.

وقد قام الكاتب الأردني الدكتور شاكر النابلسي بإستلاف المصطلح من (الحقل البيئي) وطبَّقهُ على (الحقل السياسي) في إطار تحليلهِ لأنظمةِ الدكتاتورية العربية التي قسَّمها إلى دكتاتوريةٍ خضراء وأخرى حمراء. ويقول النابلسي إنَّ :

( الدكتاتورية الخضراء يعيثُ فيها الفساد والمحسوبية والقمع والطغيان. وكذلك الحال نفسه بالنسبة للدكتاتورية الحمراء.

الدكتاتورية الخضراء يكون على رأسها دكتاتور يتجدَّد إنتخابهُ (أو هو ينتخب نفسه، ويقول إنَّ الشعب قد إنتخبهُ، مُعتبراً أنهُ هو الشعب والشعب هو) من فترةٍ لأخرى. وربما قضى في الرئاسة طوال عمرهِ إلى أن يموت. وكذلك الحال في الدكتاتورية الحمراء.

الدكتاتورية الخضراء تتيح للمُعارضة ولإعلام المعارضة هامشاً من الحرية لكي تتحرَّك قليلاً فيه. في حين أنَّ الدكتاتورية الحمراء لا تتيحُ هذا المجال.

في الدكتاتوريةِ الخضراء يُمكنُ العفوَ عن بعض المُعارضين والمُنتقدين، بينما لا يعفو الدكتاتور الأحمر عن أيٍ من معارضيه وربما يتركهم يموتون في السجون مرضاً وقهراً وجوعاً، أو يغتالهم كما فعل صدام حسين بزملائه في حزب البعث.

في الدكتاتوريةِ الخضراء من السهل الإطاحة بالحُكم ، لأنَّ هذه الدكتاتورية تدرك معاني الثورة، وأهدافها، وتخضع أخيراً لإرادة الشعب وهو ما تمَّ  في تونس ومصر. ولكن الدكتاتورية الحمراء تأبى ذلك. وتتمسك بالحكم، وتصِّرُ على البقاء، وتقول دائماً : من بعدي الطوفان. ونتيجة لذلك يفقد الوطن الكثير من أبنائه، ومن الأرواح البريئة، كما هو الحال الآن في ليبيا وسوريا واليمن.

تزوير الإنتخابات العامة سُنَّة معروفة في الدكتاتورية الخضراء والحمراء على السواء ). إنتهى

سأحاول في السطور التالية النظر في جدوى هامش الحرية الإعلامية وحرية الصحافة في مُكافحة الفساد في ظل الدكتاتورية الخضراء. إذ أنَّ هناك رأيان مختلفان حول جدوى ذلك الدور.
يعتقد أصحاب الرأي الأول إنَّ كشف الفساد بواسطة الصحافة – في الدكتاتورية الخضراء - لا يؤدي إلى مُحاسبة المُفسدين أو مُعاقبتهم, وغالباً ما تتجاهل الحكومة موضوعات الفساد المُثارة في الصحف وتتركها ليطويها النسيان.

وبحسب وجهة النظرهذه فأنَّ التناول المُتواصل لقضايا الفساد في الصحف دون أن يرى المواطن نتائج ملموسة يؤدي للتشكيك في مدى صحة الأنباء التي تتحدث عن الفساد, ويتحوَّل في نهاية المطاف إلى عائق للتغيير وليس عاملاً مُساعداً له وهو ما ترمي إليهِ الدكتاتورية الخضراء.

أصحابُ وُجهة النظر هذه يستندون إلى حقيقةِ أنَّ القارىء لما يكتبهُ أنصار الديكتاتورية الخضراء في الصُحف يشعُر بأنَّ بلدهُ ليس مُجَّرد دولةٍ عاديةٍ كمُعظم الدول, ولكنها دولة رائدة وعصرية وحكومتها حكومة مثالية , ويخرُج بعد قراءة هذه الكتابات بأنه "ليس في الإمكانِ أبدع مما كان".

ومن ناحية أخرى فإنَّ من يقرأ  أخبار الفساد في الصحف يشعُر أنَّه مُتغلغلٌ في كل شيء, وأنَ  الأصل في العملية السياسية والإقتصادية هو الفساد والإستثناء هو النزاهة , وأنَّ هذا الوضع مستمرٌ منذ سنواتٍ طويلة, وهذا يُوقع مُعظم المواطنين في تناقضٍ خطير مع أنفسِهم فهُمْ لا يعرفون من يقول الصدق ومن يكذب عليهم ( أنصارُ الحكم أم الساعين لكشف الفساد ), وتجدهُم في ذات الوقت يتساءلون : إذا كانت الأقلامُ التي تتناول الفساد غيرُ صادقةٍ فيما تقول , فلماذا تترُكها الحكومة دون مُحاسبةٍ على ما تنشرهُ من أخبارٍ كاذبة عن الفساد والمُفسدين ؟

من الأمثلة التي توَّضح تجاهل السلطة والجهات المعنيَّة لما تكتبهُ الصحافة عن الفساد ما أوردهُ أحمد المصطفى إبراهيم عن تجاوزات ديوان الزكاة حيث كتب : (  كتب علي يس في عموده "مُعادلات" أنَّ ديوان الزكاة يصرُف أموال الزكاة في غير مصارفها المنصوص عليها في كتاب الله وضرب لذلك مثلاً مستنده  تحت يده وذكر رقم الشيك ومبلغهُ والموِّقع عليه والمسحُوب لهُ ولم نسمع بتحقيقٍ في ديوان الزكاة ؟ هذا الديوان كتبت عشرات الأقلام عنه والفادني يتربعُ على عرشه أكثر من عشر سنوات يفعلُ ما يشاء. يبني معهد علوم الزكاة بمليارات الجنيهات ومن أموال الزكاة ولا يسألهُ أحد عن مصير المعهد ). إنتهى

أصحاب وجهة النظر الأخرى يقولون إنَّ هامش الحُريَّة الذي تتيحهُ الدكتاتورية الخضراء للصحافة, والسماح لها بالتناول المستمر لقضايا الفساد سيؤدي في خاتمةِ المطاف للتغيير الجذري لنظام الحكم , ولن يُشكل بأية حال عائقاً في سبيلهِ حتى إذا لم تقم الحكومة بمحاسبة المُفسدين ومُعاقبتهم, و يسوقون ثورة  25  يناير المصرية كبرهانٍ على صحة رؤيتهم هذه.

يقول الكاتب سامي النصف إنَّ أول أسباب الثورة المصرية هو ( مُتوازية الفساد وحُريَّة الإعلام ) ففي عهد عبدالناصر كان فساد المُشير عامر وصلاح نصر وزمرة ضبَّاطهِ أكثر إستشراءً وإتساعاً دون مردودٍ على الدولة, إلا أنَّ الشعب لم يغضب أو يثر, كونهُ لا يعلمُ عنه شيئاً بسبب سيطرة النظام على الإعلام (دكتاتورية حمراء ), بينما سمح عهد مبارك بالحُريَّات الإعلامية من صُحفٍ وفضائيات تابعت كشف قضايا الفساد دون ردٍ من النظام بتصحيح المسارأو بتفنيد الإدعاءات, حتى تكوَّنت صورة شديدة القتامة والسواد عن العهد .

يُدعِّم أصحاب وجهة النظر الثانية رؤيتهم بالقول إنَّ الفشل في مُحاسبة المُفسدين وإجتثاث جذور الفساد في الديكتاتورية الخضراء يُعزى لأسبابٍ هيكلية مرتبطة بطبيعة النظام وتقعُ خارج مسئولية وسلطة الصحافة والإعلام. ومن تلك الأسباب عدم إستقلال القضاء, وضعف السلطة التشريعية وتغوُّل السلطة التنفيذية على كليهما, إضافة إلى تغلغل شبكات الفساد في أجهزة الدولة العُليا ومراكز صُنع القرار بحيث يعمد القائمون على الأمر إلى عدمِ الشروع في الكشف عن المُفسِدين خوفاً من تأثير "الدومينو" الذي سيطال العديد من الرموز والقيادات الحاكمة وبالتالي يشكل تهديداً حقيقياً لوجود النظام.

ومن أمثلة ذلك ما جرى في السودان قبل عدة سنوات حين كثر الحديث عن فساد الحكومة في مشروع طريق الإنقاذ الغربي. وبعد أن تسرَّبت الأخبار عن ضياع أموال المشروع التي دفعها أهل إقليم دارفور من حصة السُّكر المُخصَّصة لهم ومن الضرائب والجبايات المُضاعفة, وجَّه البعض إتهاماتٍ للدكتور علي الحاج محمَّد المسئول عن المشروع والذي ردَّ عليهم بمقولتهِ التي ملأتْ الدُنيا وسارتْ بها الرُّكبان : " قضية طريق الإنقاذ دي أحسن تخلوها مستورة", وهى مقولةٌ تُفيدُ تورُّط جهاتٍ حكوميةٍ نافذة ممَّا منع تقديم ملف المشروع للقضاء حتى يومنا هذا.

و على ذات المنوال تلاشت العديد من القضايا التي يُجزم الكثيرون أنَّ قضيَّة التقاوى الفاسدة لن تكون آخرها. ففي حين طالب بعض نوَّاب البرلمان بإقالة وزير الزراعة ( المتعافي ) وقررَّوا تحويل الملف للقضاء, ردَّ عليهم المتعافي بالقول إنَّ هذه القضيَّة : (  ستُطيحُ برؤوسٍ كثيرة ). وهو ردٌّ شبيهٌ بما قالهُ على الحاج وينطوي على تهديدٍ صريحٍ لمسئولين آخرين.

الفسادُ من الخصائص البنيوية للنظام الديكتاتوري ( أحمراً كان أم أخضراً ) إذ هو يتعامل مع السلطة بصفتها غنيمة, وكل ما يتمُّ في الدولة من فسادٍ مالي فهو يتمُّ بعملٍ من النظام نفسهُ أو بمعرفته والسكوت عنه. ولا تستطيعُ الصحافة وحدها محاربة الفساد في ظل هذا النظام وإنْ كان دورها مُهِماً في تبصير الرأي العام بمدى إستشرائه وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى التغيير.      

 

آراء