“طبيب في المنزل”
خالد التيجاني النور
4 August, 2011
4 August, 2011
Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]
من يصنع من؟! هل تنجب الأمم العظيمة قادة كبار, أم أن الزعماء العظماء هم الذين يصنعون المجد لشعوبهم ويرفعوا من قدرها ويدفعوا بها إلى مكانة متقدمة بين الأمم؟ ليس سهلاً بالطبع الإجابة في عجالة على سؤال بهذا العمق فهي ليست مسألة رياضية, ولكنها قضية من صميم مشاغل علم الإجتماع البشري عني بها المفكرون والباحثون طويلاً واختلفوا حولها كثيرا, كما أن الإجابة تخضع للكثير من المعطيات المتغيرة والظروف والملابسات الموضوعية المحيطة بكل حالة على حدة.
ولكن مع ذلك ما من شك أن التاريخ والحاضر أيضاً يحدثان أن هناك قلة من القادة عبر العصور هم الذين استطاعوا أن يحدثون تحولاً جذرياً في حياة شعوبهم ويغيروا واقعها من حال البؤس والتخلف إلى حال النهوض والإزدهار, وللمفارقة ينطبق الأمر أيضاً على قادة فعلوا العكس تماماً فشلوا حتى في الحفاظ على حال أوطانهم فأزروا بها وأسلموها إلى مزيد من التراجع والتقهقر.
من بين قادة عظماء معدودين رفيعي الشأن برزوا في القرن العشرين يطل الدكتور محاضر بن محمد, الزعيم المبرز الذين نجح خلال عقدين فقط من تحويل ماليزيا من بلد مغمور متواضع يعتمد بالكامل على اقتصاد زراعي محدود الآفاق إلى اقتصاد صناعي حديث أهلت قوته ماليزيا لاحتلال مكانة سابع عشر أكبر اقتصاد عالمي.
ولكن ذلك لم يحدث بدون أن يكون مثيراً لجدل كبير حول شخصية الدكتور محاضر, إن كان ديكتاتوراً أم زعيماً ملهماً, فالغربيون يصفونه بأنه متسلط, عنصري, معاد للسامية ومغرور, وعلى الجهة المقابلة ينظر إليه في العالم النامي بحسبانه بطلاً ذو رؤية ثاقبة وقدرة قيادية فعالة وصاحب نموذج ناجح يستحق أن يُحتذى, ومنح الناس في العالم الثالث سبباً للفخر, والمفارقة أن عتاة منتقديه لا ينكرون عليه أنه صاحب القوة الدافعة وراء النهوض الماليزي المشهود.
حين وجدت كتاباً ضخماً يحمل غلافه صورة الدكتور محاضر مبتسماً يحتل مقدمة الكتب المنشورة حديثاً المعروضة في واجهات المكتبات في كوالا لمبور, اعترف أنني ترددت قليلاً في اقتنائه على الرغم من ولعي بتتبع سيرة هذا القائد المحنك الذي منح نموذجه في الحكم الأمل لشعوب الدول المهملة في إمكانية النهوض من عثراتها متى ما حباها الله زعماء من هذا الطراز عالي الهمة, بعيد النظر, كبير النفس, وقلت في نفسي ما الجديد الذي يمكن أن يقوله, فقد قرأت معظم كتبه بعد أن التقيته في العام 1998 بمكتبه وأدرنا معه, ضمن ثلة من الصحافيين العرب, حواراً واسعاً حول أفكاره وتجربته, وقادني الإعجاب به إلى الحماسة للإشراف على ترجمة ونشر اثنين من أهم كتبه, اخترت للكتاب الأول له اسم "المستقبل المسروق" في طبعته العربية المترجمة من الكتاب الصادر باللغة الإنجليزية تحت اسم "صدمة جديدة لآسيا" الذي روي فيه قصة هجمة تجار العملات الدوليين على اقتصاد النمور الآسيوية في العام 1997 وأصابوها في مقتل بالمضاربة في أسعار عملاتها حتى انهارت جميعاً كحجارة الدومينو, وهو ما اعتبره الدكتور محاضر محاولة لسرقة مستقبل دول جنوب شرق أسيا المزدهرة, وحكى في الكتاب كيف استطاع انقاذ بلاده, وانقاذ رصيده في وقت كان يتأهب فيه للتقاعد.
أما الكتاب الثاني فاخترت لطبعته العربية عنوان "كيف تبني أمة" والذي كان عنوانه في الطبعة الاصلية "الطريق إلى الأمام" والذي يروي فيه تفاصيل أزمة الصدامات العرقية التي شهدتها ماليزيا في العام 1969, بسبب احساس الملايو باستمرار تخلفهم الاقتصادي أمام هيمنة الماليزيين الصينيين حتى بعد أكثر من عقد من الاستقلال, وكان نتيجة تلك الأزمة الخطيرة إطلاق الدولة ل "السياسة الاقتصادية الجديدة" التي هدفت إلى تبني سياسية تمييز إيجابي لصالح السكان الأصليين من فائض التنمية لترفع نسبة مساهمتهم في الاقتصاد الوطني من أقل من نحو سبعة بالمائة إلى ثلاثين بالمائة في غضون عشرين عاماً, ودون أن يكون ذلك خصماً على الوضع الاقتصادي المتميز للصينيين الماليزيين.
وقلت لنفسي ما الذي يمكن أن يضيفه الدكتور محاضر بعد أن ترك السلطة طواعية قبل ثمانية أعوام, بعد اثنين وعشرين عاماً قضاها رئيس منتخباً لوزراء بلاده؟, وكنت سأرتكب خطأً جسيماً لو لم ينتصر على أخيراً فضولي فقررت اقتناء الكتاب الجديد الذي اختار له مؤلفه اسماً لافتاً "طبيب في المنزل" وعنوان فرعي "مذكرات تُن د. محاضر محمد", والإشارة هنا بالطبع إلى تقاعده السياسي وعودته إلى سيرته الأولى "طبيباً" متقاعداً أيضاً. فالدكتور محاضر المولود في العام 1925 تخرج في كلية الطب بجامعة الملايا بسنغافورة في العام 1953, على الرغم من ولعه بالسياسة وانخراطه مبكراً بالمنظمة الوطنية للملايو المعروفة اختصارا ب"أمنو" منذ تأسيسها في العام 1946, مارس مهنته طبياً في المستشفيات الحكومية لعامين فقط لينصرف بعدها لممارسة الطب في عيادته الخاصة حتى العام 1964 عند انتخابة نائباً برلمانياً للمرة الأولى.
في مقدمته لكتابه "طبيب في المنزل" تساءل الدكتور محاضر متشككاً إن كان سيكون مقروءاً, وعلق قائلاً إنه متأكد من أنه يستحق القراءة, ولكن مع ذلك قال إنه شكوكه باقية, وسبب الظنون التي ساورت الدكتور محاضر حول مقروئية مذكراته تعود إلى ضخامة حجم الكتاب الذي تبلغ عدد صفحاته أكثر من ثمانمائة صفحة من القطع الكبير.
ومن المؤكد أن الدكتور محاضر مخطئ في ظنه, فما أن تشرع في قراءته حتى تعجز عن الانصراف عنه لاية قراءة آخرى حتى تتمه, فعلى مدار اثنين وستين فصلاً والثمانمائة صفحة نثر الزعيم المعروف عصارة تجاربه وخبراته فجاءت مذكراته غنية بالدروس والعبر والأحداث, تحدث بشفافية كاملاً عن نشأته الأولى, وعن تكوينه, وخلفيته العرقية, أحلامه وإحباطاته, معاركه السياسية, انتصاراته, هزائمه, نجاحاته, إخفاقاته, وأورد الاتهامات الموجهة له بممارسة التسلط والديكتاتورية, والمحسوبية واتهام أبنائه بالفساد ورد عليها, باختصار تحدث عن كل شئ بشجاعة ووضوح, وقال آرائه في الجميع, وأظنه كان منصفاً إلى حد كبير, انتقد خصومه بشدة لكنه في الوقت نفسه أقر لهم أيضاً بميزاتهم ونجاحاتهم.
وخلافاً لكثير من الزعماء والقادة المرموقين الذين لا تمتد مواهبهم إلى عالم الكتابة ولذلك يستعينون بكتاب محترفين عند الحاجة للتعريف بأفكارهم أو كتابة مذكراتهم, فإن الدكتور محاضر يمتلك ناصية القلم وعُرف بأسلوبه السلس والقوى أيضاً في التعبير عن أفكاره ومواقفه, ولذلك فهو يكتب مؤلفاته بنفسه إذ أنه ليس غريباً على صنعة الكتابة, فهو من أرباب القلم حيث مارس الكتابة الصحافية منذ وقت مبكر من حياته بل كانت مصدراً إضافياً لدخله عندما كان يكتب بانتظام في صحيفة "ستريت تايمز" إبان دراسته للطب بسنغافورة أواخر أربعينيات ومطلع خمسينيات القرن الماضي, كما اشتهر بكتابه "مأزق الملايو" الذي ألفه عقب طرده من حزب "أمنو" في العام 1969 بسبب انتقاداته العلنية لزعيم الحزب حينها, وأول رئيس وزراء ماليزي, تُنكو عبد الرحمن.
يصف الدكتور محاضر مذكراته بأنها "قصة ماليزيا كما أراها, ولكنها أيضاً قصتي", ويشرح التحولات الكبرى التي شهدتها بلاده وأدت لنهضتها والمكانة التي تبوأتها عالمياً, لكنه يقول بتواضع "لعبت بعض الدور في كل ذلك, ولكن سيكون إهمالاً مني لا يمكن غفرانه, إن لم أرد الفضل لإسهام من سبقوني في القيادة ودورهم في ظاهرة التقدم الماليزي, لقد وضعوا الأساس, وكل ما فعلته أنني بنيت عليه", ويمضي قائلاً في وفاء نادر لا يملكه إلا ذوي النفوس الكبيرة "بدون رؤيتهم وحكمتهم العميقة كانت مهمتي ستكون أصعب بكثير", ويقول إنه يكتب عن حكمة الأباء المؤسسين الذين ابتدعوا نظاماً سياسياً خلاقاً مكن ماليزيا بديمقراطية وبسلام من حل مشاكلها والتحديات التي واجهتها في مجتمع معقد التركيب.
يكتشف القارئ من خلال مذكرات الدكتور محاضر أن النهضة التي حققتها ماليزيا لم تأت إعتباطاً, ولا خبط عشواء, كما لم تصنعها مجرد رفع شعارات فارغة ولا أمان كذوب لا يسندها فكر عميق ولا رؤية ثاقبة ولا عمل جاد دؤوب, وأهم من ذلك قيادة عالية الهمة, حية الضمير, مترفعة عن الصغائر, تتمتع بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية.
واستميح القراء الكرام أن يأذنوا لي بالخروج مؤقتاً من أجواء "الجوطة السياسية" التي كنا ولا نزال نعيشها منذ أطلق السياسي الراحل صاحب الجمرات الأستاذ محمد توفيق تصريحه الشهيرة "خرجت من الجوطة" مبرراً استقالته من منصب وزير الخارجية الذي كان يشغله في آواخرالثمانينيات, أن يأذنوا بالمواصلة في استعراض مذكرات الدكتور محاضر التي تقدم دروس مجانية في فن القيادة, ولا شك أن هناك كثيرون معجبون بالنموذج الماليزي ويودون أن ينقلوه إلى هنا, ولكنهم في الغالب رأوا ثمراته ولكن ربما لم يجدوا الفرصة أو الصبر على سبر أغواره, "وما ينبئك مثل خبير" ومن هو أولى من تُن محاضر ليكشف اسرار المعجزة الماليزية.