أبيي من شقدوم إلى لاهاي (1) … عرض وتحليل: د. أحمد إبراهيم أبوشوك
أبيي من شقدوم إلى لاهاي (1)
تأليف البروفيسور سليمان محمد الدبيلو
عرض وتحليل
أحمد إبراهيم أبوشوك
في عموده اليومي بصحيفة آخر لحظة قرظ الصحافي هاشم الجاز كتاب الأستاذ الدكتور سليمان محمد الدبيلو الموسوم بـ أبيي من شقدوم إلى لاهاي، ووصفه بأنه "سِفْرٌ توثيقي، يجب ألا تكتفي هيئة الخرطوم للصحافة والنشر بنشره، وإنما تكمِّل جهدها بإبتدار نقاشات وحوارات عن محتوياته من معلومات ووثائق، وأن تناصفها في ذلك الأقسام المتخصصة في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، حتى المؤسسات المعنية بالقوات النظامية، وكذلك الممثليات للدول والمنظمات الدولية والإقليمية المعتمدة بالبلاد، ووسائل الإعلام المحلية والخارجية، حتى لا تُختصر أبيي في أنها المنطقة الغنية بالنفط، كما تكرر وسائل الإعلام الدولية هذه العبارة عند إيراد أحداثها." ويبدو أن الإداري المخضرم علي جماع قد انطلق من المناشدة نفسها، عندما طلب مني مراجعة كتاب البروفيسور الدبيلو وعرضه للقارئ السُّوداني؛ علماً بأن مشكلة أبيي، كما وصفها ديفيد كول وريتشارد هنتغتون، "ليست مشكلة محلية ذات تداعيات قومية، بل مشكلة قومية تُركت لتتقيح على المستوى المحلي". ولاشك أن ذلك التقيح المحلي يُعزى إلى سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة التي كانت تفتقر إلى النظرة الاستراتيجية بشأن قضية التعايش والتمازج القبلي في منطقة أبيي، بل سعت في بعض الأحيان إلى إيقاظ فتنتها المحلية المتأثرة بتداعيات جدلية الصراع بين الشمال والجنوب. ولذلك برزت أزمة أبيي في كثير من المحافل التفاوضية بين طرفي القطر المتنازعين قبل أن يُقَسَّم السُّودان إلى قطرين متخاصمين، بدليل أنها عُرضت في ثنايا اتفاقية أديس أبابا لعام 1972م، وأخيراً أخذت حيزاً زمنياً وتفاوضياً مُقدراً في اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005م، التي خصصت لها بروتوكولاً قائماً بذاته. فلا مندوحة أن هذا الواقع السياسي قد جعل قضية أبيي أكثر الصراعات الحدودية في السُّودان تعقيداً؛ إذ تراكمت حولها سلسلة من الدراسات الأكاديمية، والبحوث العلمية، والوثائق الرسمية. فالكتاب موضوع العرض والتقويم هو من أكثر الشواهد التي تؤكد ذلك؛ لأنه يحمل بين دفتيه سرداً تاريخياً مفصلاً عن مراحل تطور الصراع في المنطقة، ويستند ذلك السرد إلى كمٍّ هائلٍ من الوثائق التي تعضد بعض النتائج التي توصل إليها المؤلف؛ لذلك نتفق مع البروفيسور يوسف فضل حسن أن الكتاب سيحظى "بمكانٍ سامٍ ورفيع القدر بين كل ما كتب، بل أساساً لما يُكتب في المستقبل عن هذا الموضوع." إذاً أهمية هذا الكتاب الذي قدم له الأستاذان يوسف فضل ومحجوب محمد صالح، تقودنا إلى طرح أسئلة محورية: مَنْ المؤلف سليمان محمد الدبيلو؟ ومن أي أرضية أكاديمية وتوثيقية انطلق؟ وما طبيعة المصادر الأولية والثانوية التي اعتمد عليها في صناعة مجلديه السمان؟ وكيف استطاع أن يوازن بين انتمائه العرقي إلى أحد أطراف النزاع في المنطقة وعرضه الموضوعي للقضية المتنازع عليها ابتداءً من شقدوم وانتهاءً بلاهاي؟
مَنْ سليمان الدبيلو وما علاقته بقضية أبيي؟
سليمان محمد الدبيلو من مواليد عام 1948م بقرية الدبكر جنوب كردفان، ومن أبناء المسيرية الذين تلقوا قسطاً وافراً من التعليم الأكاديمي، حيث درس بمدرسة خورطقت الثانوية، وحصل على بكالوريوس الشرف في الفيزياء من جامعة الخرطوم، ثم واصل دراساته العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث نال درجتي الماجستير والدكتوراه في علم الفيزياء من جامعة وسيكنسن. وبعد ذلك عمل محاضراً بقسم الفيزياء بجامعة الجزيرة بالسُّودان، وجامعة الفاتح بطرابلس، ومديراً لعدة شركات بالمملكة العربية السعودية، وأخيراً آثر العودة إلى السُّودان عام 2005م. وإلى جانب عمله المهني ونشاطه الوظيفي كان الدبيلو من قيادات حزب الأمة القومي الفاعلة في السُّودان والمملكة العربية السعودية، ورئيساً لمجلس شورى المسيرية بالمهجر، وعضواً لمجلس حكماء جنوب كردفان، وعضواً في اللجنة التي مثَّلت حكومة السُّودان أمام محكمة لاهاي. فلا عجب أن هذه الخلفية السياسية والجهوية والأكاديمية كان لها انعكاساتها على مخرجات مؤلفه: أبيي من شقدوم إلى لاهاي، حيث تجسد طرفاها الجهوي والسياسي في مرافعة جيدة الصنعة استندت مفرداتها إلى قوله: إن اتفاقية السلام الشامل بنيفاشا لم تراع حقوق أهل حزام التداخل والتمازج القبلي الرابط بين الشمال والجنوب على واقع الأرض. "وفرض بعدها قرار محكمة التحكيم الدولي بلاهاي واقعاً مريراً، تمَّ بموجبه تجاهل حقوق أهل منطقة أبيي عامة، وبصفه خاصة المسيرية، إذ لم يستوعب وجودهم الجغرافي، وإرثهم التاريخي، ومتطلبات حياتهم، وإنه لمن الحكمة أن يتدارك الطرفان هذا الأمر، واستيعاب هذه المتطلبات. منطقة أبيي هي رباط عنقود يجسد وحدة السُّودان، انفصام هذا العنقود ستتسارع تفاعلاته على كافة حزام التداخل، وتتجاوزه تباعاً تفتيتاً لبقية مناطق السُّودان، أخشى ما أخشى أن تكون أبيي شرارة هذا التسارع". (مج 1، ص 26). أما الجانب الأكاديمي المصحوب بالمتابعة اللصيقة والمشاركة النشطة فكان يتجلى في سرد البروفيسور الدبيلو العلمي، وعرضه القيم للحجج والبراهين التي ارتكن إليها، فضلاً عن توثيقه الشامل والحاذق لمعظم الوثائق والمستندات التي كانت تمثل قوام حيثيات النزاع والقرارات التي ترتبت على ذلك؛ فمن هذه الزاوية يُعدُّ الكتاب موضوع مدارستنا، سفراً توثيقاً بالغ الأهمية، لا يمكن الاستغناء عنه؛ سواء اتفقنا، أو اختلفنا مع النتائج التي توصل إليها المؤلف. إذاً هذا التثمين الإيجابي يقودنا إلى استفسار جوهري آخر عن محتويات هذا الكتاب الضخم، الذي تجاوزت صفحات مجلديه الاثنين ألف وأربعمائة صفحة في قضية لا تتعدى صياغة إشكالها الخمسة أسطر!
صدر كتاب الدبيلو أبيي من شقدوم إلى لاهاي عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر عام 2011م، في وقت عصيب من تاريخ السُّودان السياسي، أي بعد صدور قرار المحكمة الدائمة للتحكيم في قضية أبيي في 22 يوليو 2009م، وقبيل إجراء استفتاء جنوب السُّودان في التاسع من يناير 2011م، الذي كانت نتيجته الكاسحة لصالح انفصال جنوب السُّودان عن شماله، وذلك قبل أن يُجرى الاستفتاء بشأن منطقة أبيي: هل تكون تابعة للشمال أم الجنوب؟ يتكون الكتاب من مجلدين من القطع المتوسط، إذ يبلغ عدد صفحات المجلد الأول 676 صفحة، والمجلد الثاني 810 صفحة. وجاء المجلد الأول في أربعة أبواب؛ يسبقها فهرس المحتويات، وكلمة الناشر، والإهداء، وشكر المؤلف وعرفانه، وتقديما البروفيسور يوسف فضل حسن والأستاذ محجوب محمد صالح، ثم مدخل عن الكتاب؛ وفي الجزء الأخير للمجلد الأول توجد ثلة من الملاحق المهمة، وثبت للمصادر والمراجع. أما المجلد الثاني فقُسِّم إلى مقدمة قصيرة، وثلاثة أبواب طوال، وحزمة من الصور والملاحق، وثبت للمراجع. صدر الكتاب في غلاف ورقي، تظهر على واجهته الأمامية صورة الزعيمين الراحلين الناظر بابو نمر علي الجلة والناظر دينق مجوك، عنواناً للتعايش السلمي والتمازج القبلي الذي كان سائداً في المنطقة، بفضل قيادتيهما الرشيدة، وفضل رجال آخرين رسموا قواعده، وضبطوا جدلية حراكه المحلي، ووثقوا طرفاً من مخرجات حواراتهم واتفاقاتهم ومجالس أجاويدهم، وحفظوا الطرف الآخر في صدورهم إلى أن واراه الأسلاف الثرى بعد رحيلهم. ومن زاوية أخرى تعكس الصورة الرمزية للزعيمين طرفاً من أطروحة المؤلف التي تنشد حل النزاع محلياً بدلاً طرحه على موائد اللجان الدولية وقضاة التحكيم، لكن يبدو أن مثل هذا الطرح قد أضحى أثراً بعد عين، بعد أن دُوِّلت قضية أبيي، وأمسى طرفا النزاع فيها يعيشان على حدود دولتين متخاصمتين، ولهما مصالح نفطية مشتركة في المنطقة المتنازع عليها. وحملت الصفحة الخلفية للغلاف صورتي البروفيسور يوسف فضل حسن والأستاذ محجوب محمد صالح، وبعض الاقتباسات المناسبة من تقديميهما للكتاب.
في عرضنا لمجلدي كتاب أبيي من شقدوم إلى لاهاي سنركز على ثلاثة محاور رئيسة، يرتبط المحور الأول منها بالبُعد التاريخي لقضية الصراع في منطقة أبيي من منظور المؤلف، المعضد بإرث أهله المسيرية والوثائق التاريخية المصاحبة؛ ويسلط المحور الثاني الضوء على موقع أبيي في خارطة النزاع التفاوضي الذي أفضى إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005م، وبروتوكولاتها المرتبطة بقضية أبيي، وطبيعة الواقع النزاعي الذي قاد إلى قرار التحكيم في لاهاي؛ وأخيراً نعرض أهمية الكتاب المتمثلة في الكم الوثائقي الهائل الذي جمعه المؤلف بين ثنايا مجلديه الاثنين، ومدى أهمية تلك الوثائق بالنسبة لحيثيات القضية موطن النزاع، وبالنسبة لطلاب الدراسات القانونية والتاريخية المرتبطة بالنزاعات الحدودية.
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]