أبيي من شقدوم إلى لاهاي (3) .. عرض وتحليل: أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 



أبيي من شقدوم إلى لاهاي (3)
تأليف البروفيسور سليمان محمد الدبيلو
عرض وتحليل
أحمد إبراهيم أبوشوك

عرضنا في الحلقة الثانية من مُدارسة كتاب الأستاذ الدكتور سليمان محمد الدبيلو أبيي من شقدوم إلى لاهاي البُعد التاريخي لقضية الصراع في منطقة أبيي من منظور المؤلف، المعضد بإرث أهله المسيرية والوثائق التاريخية المصاحبة؛ وكان الهدف من ذلك العرض تمهيد القارئ ذهنيًّا إلى هذه الحلقة الثالثة التي تقدم قراءة تحليلية لموقع أبيي في خارطة النزاع التفاوضي الذي أفضى إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005م، وبروتوكولاتها المرتبطة بقضية أبيي، وطبيعة الواقع النزاعي الذي قاد إلى قرار التحكيم في لاهاي، وموقف الرأي والرأي الآخر من ذلك القرار، وإسقاطاته السالبة على المشهد السياسي في السودان.     

موقع أبيي في خارطة مفاوضات نيفاشا
يرى المؤلف أن أول موقف رسمي لحكومة السُّودان تجاه قضية أبيي قد برز في اتفاقية الخرطوم للسلام لعام 1997م، التي ناقشت مشكلة أبيي، وأحالت أمر حلها النهائي إلى مؤتمر يُعقد بالمنطقة خلال الفترة الانتقالية. (مج 1، ص: 69). وفي فبراير 2000م أوضحت حكومة السُّودان في جدول أعمالها المقدم لهيئة إيقاد أن منطقة أبيي ليست جزءاً من جنوب السُّودان، بل منطقة تعدد عرقي وثقافي ولها مشكلاتها الخاصة، ومن ثم أقترحت عقد مؤتمر جامع لمعالجة مشكلات أبيي. وفي الفترة نفسها قدمت الحركة الشعبية لتحرير السُّودان مذكرة لهيئة إيقاد، تطالب فيها بأن "يتم التأكد من آراء أهالي أبيي فيما يتعلق برغبتهم إما في البقاء ضمن التنظيم الإداري لإقليم جنوب كردفان، أو الانضمام إلى إقليم بحر الغزال عبر استفتاء يتم إجراؤه خلال الفترة الانتقالية، ولكن قبل ممارسة حق تقرير المصير للجنوب. فإذا أثبتت نتيجة الاستفتاء أن أغلبية أهالي دينكا نقوك بمنطقة أبيي ترغب في الانضمام إلى بحر الغزال، يمارس أهالي أبيي، تبعاً لذلك، حق تقرير المصير كجزء لا يتجزأ من جنوب السُّودان." (مج 1، ص: 70). وفي يونيو 2003م عقدت الحركة الشعبية أول مؤتمر لها عن أبيي، وخرج المؤتمرون بالقرار الآتي نصه: "نحن دينكا نقوك أبيي، إننا جزء لا يتجزأ من جنوب السُّودان، ونطالب بعودة الأرض والأهالي فوراً إلى بحر الغزال، وفقاً للاحتفال التاريخي لإعادة توحيدنا الذي أجراه القادة الروحيون لبحر الغزال خلال المؤتمر." (مج، ص: 70). وبعد ذلك عرضت الحركة الشعبية لتحرير السُّودان هذا الموقف في نيفاشا الأولى في سبتمبر 2003م، وأخيراً تمَّ تضمينه بصفة غير مباشرة في بروتوكول أبيي الذي صاغه السيناتور جون دانفورث، عندما وصل طرفا المفاوضات إلى طريق مسدود بشأن قضية أبيي. وقد عرَّف البروتوكول منطقة أبيي بقوله "أنها منطقة زعامات دينكا نقوك التسع التي نزحت إلى كردفان عام 1905م" وأن "المسيرية والمجموعات البدوية الأخرى نُظر إليها من واقع حقوقها "التقليدية المتمثلة في رعي الماشية والتنقل عبر المنطقة"، واقترح البروتوكول قيام مجلس محلي ينتخبه السكان المقيمون لإدارة منطقة أبيي. وأن يجري سكان أبيي اقتراعاً منفصلاً ومتزامناً مع إجراء استفتاء جنوب السُّودان وذلك وفق الخيارات الآتية: (أ) أن تحتفظ أبيي بوضعها الإداري في الشمال؛ (ب) أن تكون أبيي جزءاً من بحر الغزال؛ (ج) تكون حدود الأول من يناير 1956م بين الشمال والجنوب كما هي عليه، فيما عدا ما هو متفق عليه أعلاه. وبشأن ترسيم حدود منطقة أبيي أوصى البروتوكول بأن "تنشئ الرئاسة لجنة حدود أبيي لتحديد وترسيم منطقة زعامات دينكا نقوك التسع التي نقلت إلى كردفان عام 1905م ... تحدد الرئاسة شكل وإطار لجنة حدود أبيي، وتضم اللجنة ضمن آخرين الخبراء والممثلين من المجتمعات المحلية والإدارة المحلية، وستنهي اللجنة عملها خلال العامين الأولين من الفترة المؤقتة ... تقدم لجنة حدود أبيي تقريرها الختامي للرئاسة فور فراغها، وبمجرد تقديم التقرير الختامي تتخذ الرئاسة الإجراء الضروري لوضع الوضعية الإدارية الخاصة لمنطقة أبيي موضع التنفيذ الفوري".
يرى البروفيسور الدبيلو أن اتفاقية شقدوم لسنة 1994م كانت واحدة من الأسباب التي أسهمت في صياغة بروتوكول أبيي؛ لأنها أقرت تقرير المصير لجنوب السُّودان، الأمر الذي لم يكن "من أدبيات أي سوداني ناهيك عن حزب كبير مثل حزب الأمة القومي." وتعليله لذلك أن الحركة الشعبية لتحرير السُّودان قد استثمرت تلك الاتفاقية لصالح كسبها السياسي، وأدرجت المناطق الثلاث كقضايا خلافية في صلب اتفاق القرارات المصيرية الذي وقعه التجمع الديمقراطي المعارض في أسمرا عام 1995م. وانطلاقاً من عتابه لحزب الأمة القومي، الذي يعد محل نظر عند قادة حزب الأمة، جعل الدبيلو عنوان كتابه: أبيي من شقدوم إلى لاهاي، بحجة بأن حزب الأمة قد "أسهم في تعقيد قضية أبيي، متناسياً بذلك كماً كبيراً من أسّ عضويته، وأبكار مهديته." (مج 1، ص: 77).
وبموجب توقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير 2005م، أضحى تنفيذ بروتوكول أبيي ملزماً لطرفي الاتفاق، وتجسدت خطوات الإلزام الأولى في ملحق بروتوكول أبيي الذي حدد عضوية مفوضية حدود أبيي بخمسة عشر عضواً، منهم خمسة خبراء أجانب يكون رئيس المفوضية من بينهم، وخمسة ممثلين للحركة الشعبية لتحرير السُّودان وخمسة لحكومة السُّودان؛ وقلص فترة عملها إلى ستة أشهر بدلاً عن عامين. بدأت لجنة مفوضية حدود أبيي أعمالها في نيروبي في العاشرة من أبريل 2005م، باجتماع إجرائي مع ممثلي الحكومة والحركة الشعبية للاستئناس بوجهات نظرهم، وبعدها سافر أعضاء المفوضية إلى السُّودان للاستماع إلى إفادات المسيرية ودينكا نقوك، ثم مضاهات تلك الإفادات مع الوثائق ذات الصلة المحفوظة في دار الوثائق القومية بالخرطوم، ودار الوثائق العامة بلندن، وأرشيف السُّودان بدرهام. وفي ضوء تلك الإجراءات صاغ الخبراء الأجانب التقرير النهائي، وقدموه إلى رئاسة الجمهورية في 14 يوليو 2005م، دون التشاور مع بقية أعضاء اللجنة الممثلين للحكومة والحركة الشعبية. ويرى الدبيلو أن التقرير النهائي لمفوضية حدود أبيي كان معيباً من الناحية  الإجرائية، والموضوعية؛ إجرائياً لم يلتزم الخبراء بالإجراءات القانونية الخاصة بصياغة التقرير وتسليمه، وذلك عندما قاموا بتسليمه مباشرة إلى رئاسة الجمهورية دون التشاور والاتفاق مع بقية أعضاء اللجنة الممثلين لطرفي النزاع؛ وموضوعياً تجاوزوا حدود تفويضهم القائم على تحديد منطقة مشيخات دينكا نقوك، التي حولت إلى مديرية كردفان عام 1905م؛ لأنهم قاموا برسم حدود جديدة للمنطقة المشار إليها في البروتوكول بمشيحات دينكا نقوك التسع، وبذلك وسَّعوا رقعة مساحة الأراضي التي يسكنها دينكا نقوك شمال بحر العرب، وشملوا مناطق تعد جزءاً من دار المسيرية ومصايفهم التقليدية، مثل الميرم، وهيجليج، وناما. ولذلك علَّق المؤلف في حينها على محتويات التقرير، بقوله: "نحن نعتقد أن عدم وضوح صلاحية تكليف مفوضية أبيي أسهم إلى حد كبير في تقرير الخبراء الظالم، وعليه لا بد أن يبذل الطرفان جهداً لتحديد تكليف واضح للمفوضية الجديدة ... حيث أن البروتوكول يدعو إلى إيجاد المنطقة التي أحيلت من بحر الغزال إلى كردفان في عام 1905م، ولا بد من تكليف باحثين مستقلين للبحث في الأرشيف في مصر وتركيا والمملكة المتحدة والكونغرس لإيجاد هذه المنطقة حتى يتم التمكن من تطبيق بروتوكول أبيي." (مج، ص 267م). وبذلك ساهم التقرير في شحذ وتيرة الخلاف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السُّودان، وبلغ ذلك الخلاف ذروته عندما جمدت الحركة الشعبية نشاطها في حكومة الوحدة الوطنية في 11 أكتوبر 2007م. ثم أفرز ذلك الواقع صراعاً مسلحاً بين المسيرية وجيش الحركة الشعبية الموجود في الحدود الجغرافية لشمال السُّودان، وأفضى ذلك الصراع إلى تدمير مدينة أبيي في منتصف مايو 2008م، ونزوح أهلها إلى مناطق متفرقة في جنوب كردفان.
واحتواءً للوضع المتفجر في منطقة أبيي دعت مؤسسة رئاسة الجمهورية في 8 يونيو 2008م إلى وضع خارطة طريق تسهم في إيقاف الاقتتال بين الطرفين المتنازعين، وتؤمن عودة المهجرين من ديارهم، وأوصت الطرفين بالالتجاء إلى "هيئة تحكيم مهنية متخصصة ... للفصل في خلافهما حول ما توصل إليه تقرير خبراء مفوضية حدود أبيي." (مج 1، ص: 300). ولا جدال أن ذلك الواقع أفضى إلى ظهور المحكمة الدائمة للتحكيم الدولي في لاهاي، التي حُددت صلاحياتها في أن تجيب عن الاستفسارات القانونية الآتية: "المادة 2/أ: هل تجاوز خبراء مفوضية حدود أبيي التفويض الممنوح لهم، بموجب اتفاقية السلام الشامل، والخاص بـ "تحديد منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع التي أحيلت لكردفان عام 1905م"، كما هو موضح في برتوكول أبيي وملحقه وصلاحيات مفوضية حدود أبيي وقواعد إجراءاتها، أم لم يتجاوزوا؟ المادة 2/ب: إذا قرر المحكمون وفق ما جاء في 2/أ أن الخبراء لم يتجاوزا تفويضهم يتم إعلان ذلك، ويصدر قراراً بالتطبيق الفوري لتقرير الخبراء. المادة 2/ج: إذا قرر المحكمون وفق ما جاء في 2/أ أن الخبراء تجاوزوا تفويضهم يجب أن يصدروا قراراً بذلك، وتبدأ المحكمة في تحديد وترسيم حدود مشيخات دينكا نقوك التسع التي أحيلت لكردفان سنة 1905م، وأن تستند في ذلك إلى الوثائق المقدمة لمحكمة التحكيم من الطرفين. ويكون قرار التحكيم في هذا الشأن نهائياً وملزماً للطرفين. (مج 1، ص: 304-305).  وبموجب ذلك قدم الطرفان اتفاقية التحكيم إلى أمين عام محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي في 11 يوليو 2008م. وبناءً على طلب الطرفين أُنشئت هيئة التحكيم المكونة من الأعضاء المذكورين أدناه في 30 اكتوبر 2008م:
•    البروفيسور بيار - ماري دوبوي.
•    سعادة القاضي عون شوكت الخصاونة.
•    البروفيسور غرهرد هافنر.
•    البروفيسور و. مايكل رايزمان.
•    سعادة القاضي ستيفان شويبل.

وعملاً بأحكام المادة 3.8 (أ) من اتفاقية التحكيم وجدول المحكمة الإجرائي، وضع الطرفان مذكراتهما الخطية في 16 ديسمبر 2008م، ومذكراتهما المضادة في 13 فبراير 2009م، ومذكراتهما التعقيبية في 28 فبراير 2009م. أما المرافعات الشفهية فقد أُجريت بقصر السلام بلاهاي  من 18 إلى 23 أبريل 2009م، وحضرها أكثر من 200 ممثل عن الطرفين. وبعد دراسة مرافعات الطرفين والوثائق المصاحبة لها خلصت المحكمة إلى قرارها الذي يقضي بأن الخبراء قد تجاوزوا جزئياً الصلاحيات الممنوحة لهم. وبناءً على ذلك عدلت المحكمة قرار الخبراء من ناحية الحدود الشمالية، والشرقية، والغربية، حيث حددت الحدود الشمالية لمنطقة مشيخات دينكا نقوك التسع المحولة إلى كردفان عام 1905م بخط عرض 10 درجات، و10 دقائق، و10 ثواني شمالاً، وذلك ابتداءً من خط طول 27 درجة، و50 دقيقة شرقاً؛ ووضعت الحدود الشرقية على خط مستوٍ على طول 29 شرقاً من خط عرض 10 درجات، و 10 دقائق، و10 ثواني شمالاً إلى جنوب حدود كردفان مع النيل الأعلى لعام 1956م؛ وجعلت الحدود الغربية لمنطقة المشيخات تمتد على خطٍ مستوٍ على طول 27 درجة، و50 دقيقة شرقاً، وخط 10 درجات، و10 دقائق، و10 ثواني شمالاً إلى جنوب حدود كردفان ودارفور لعام 1956م.  بهذا التعديل أخرجت المحكمة الدائمة للتحكيم منطقتي هيجليج والميرم اللتين شملهما قرار الخبراء وضمتهما للشمال، وبذلك أضحت المساحة المستثناء من قرار الخبراء لصالح الشمال تقدر بـ 66%، أو ما يعادل 21,000 كيلو متراً مربعاً، وفي المقابل قُلصت منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع التي حُولت إلى كردفان عام 1905م إلى 10,480 كيلو متراً مربعاً. وإلى جانب ذلك أقرت المحكمة حقوق دينكا نقوك والمسيرية الثانوية في استخدام الأرض الواقعة شمال الحدود التي رسمتها وجنوبها. وفي الوقت نفسه اعترفت المحكمة بأن ترسيم الحدود ربما يؤدي بطريقة غير متعمدة إلى تقسيم بعض القرى أو المدن، ويؤثر على أنماط الحياة فيها. ولذلك حثت المحكمة الطرفين على الشروع في محادثات فورية، بهدف التوصل إلى اتفاق سريع يزلل الصعوبات على الأرض، ويسهل معالجة المشكلات الماثلة. وأوضحت المحكمة أن قرارها نهائي، وملزم للطرفين.
وأثناء قراءة حيثيات القضية وإصدار الحكم، أوضح رئيس المحكمة أن سعادة القاضي عون شكوت الخصاونة، قد أبدى رأياً مخالفاً، أعاب فيه قرار المحكمة إجرائياً وموضوعاً؛ بحجة أنه "مزيج متناقض بين رغبة الأكثرية في صون تقرير الخبراء من الطعن، والوصول إلى حل وسط يعطي حكومة السُّودان بعضاً من حقوقها في النفط، ولكنه لا يأخذ بعين الاعتبار حقوق القبائل العربية في جنوب كردفان. وأن الترسيم الذي قامت به المحكمة مبني على تفسير مغالط لآراء الموظف البريطاني هاول 1951م، التي ترى أن دينكا نقوك يعيشون تقريباً بين خط الطول 29 شرقاً وخط الطول 27.5 شرقاً، وأن هذا قد يكون صحيحاً عام 1951م، ولكنه لم يكن كذلك عام 1905م، وحسب رأيه أن كل الوثائق والشهادات أثبتت أن الدينكا نقوك كانوا في منطقة صغيرة محصورة بين بحر العرب ورقبة أم بيرو.  وعليه يرى الخصاونة أن المحكمة قد تجاوزت صلاحياتها؛ لأن التفويض الممنوح لها لم يخولها الإبطال الجزئي لتقرير الخبراء، بل خيرها بين القبول الكامل، أو الرفض الكامل، وفي حالة الرفض يجب أن تقوم المحكمة بتحديد الحدود على أساس المرافعات. وأما محاولة إيجاد حل وسط فهي ليست من عمل المحاكم أصلاً؛ ولذلك يرى الخصاونة أن المحكمة قد حطمت الأساس المنطقي الذي قام عليه تعليلها لتقرير لجنة الخبراء، بينما لم تستطع أن تصل إلى حل وسط عادل يرضي الفرقاء المعنيين (قبائل الدينكا والمسيرية). ويصف القاضي الخصاونة القرار بأنه "يفتقر إلى الدقة في تحديد الحدود"، وفيه "صفعة لعلم تحديد الحدود". وواضح أن منطقة أبيي "لم تكن قط داراً لدينكا نقوك"؛ لأن المسيرية كانوا يتحركون فيها بحرية كاملة حسبما هو موثق بشهادات المحايدين من الموظفين البريطانيين وغيرهم. وفي ضوء هذه المسوغات خلص القاضي الخصاونة إلى القول بأن: "المحكمة ضيعت فرصة ذهبية ونادرة للمساعدة في إحلال السلام"؛ لأن "الحل الوسط الذي توصلت إليه لم يأخذ بعين الاعتبار حقوق المسيرية"، وقد يؤدي إلى حرمان المسيرية من حقوق الرعي التي تقوم عليها حياتهم منذ أكثر من قرنين من الزمان، إذا ما تمَّ ترسيم الحدود بالكيفية التي حددتها المحكمة.
ومن زاوية أخرى نقل البروفيسور الدبيلو موقف أهله المسيرية الذين قابلوا قرار التحكيم بالرفض، ووصفوه بأنه "قرار سياسي"، لم يستند إلى مسوغات قضائية؛ لأنه يقسم قبيلتهم وأرضهم الموروثة من أسلافهم إلى جزأين، أحدهما في الشمال والآخر في منطقة أبيي المتوقع تبعيتها إلى جنوب السُّودان، فضلاً عن أنه يسلبهم كل مناطق مصايفهم، ومواردهم المائية، ومراعيهم؛ ولذلك فإنهم "لا يتصورون أن هناك أية قوة في الدنيا تستطيع نزع أرض أجدادهم وطردهم منها". (مج 2، ص 739). وتأكيداً لذلك الموقف عقدوا مؤتمراً عاماً في منطقة الستيب في الخامس من أكتوبر 2009م، ووصوا برفض قرار محكمة التحكيم في لاهاي،"ورفض ترسيم الحدود إلا وفق ترسيم عام 1956م"، وأجمعوا على التفاوض مع دينكا نقوك وبسط التعايش السلمي معهم حسب الأعراف المرعية في المنطقة إذا تنازل دينكا نقوك عن قرار التحكيم. (مج 2، ص: 755). وفي مقابل ذلك رحب نشطاء دينكا نقوك بالقرار، واعتبروه عادلاً ومنصفاً لحقوقهم المهضومة في المنطقة، دون مراعاة لأهمية التعايش السلمي مع جيرانهم في جنوب كردفان.  
وواضح من هذا العرض أن قضية أبيي أخذت منحاً سياسياً خطيراً، عندما ارتضى طرفا النزاع على المستوى القومي بقبول قرار التحكيم والالتزام بتنفيذه على صعيد الواقع الذي لا يملكانٍ كامل السيطرة على ردود أفعاله المحلية، وعند هذا المنعطف التاريخي برزت جدلية التحدي بين القومي والمحلي التي يؤكدها قول الدكتور رياك مشار بأن "القضية ليست نزاعاً قبلياً بين المسيرية والدينكا نقوك، وإنما هي بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني الذي يمثل الحكومة." (مقابلة في صحيفة الخرطوم، نقلاً عن الدبيلو: مج 2، ص: 741). ولا عجب أن هذا الموقف يؤكد ما ذهب إليه ديفيد كول وريتشارد هنتغتون "بأن قضية أبيي ليست مشكلة محلية ذات تداعيات قومية، بل هي مشكلة قومية تركت لتتقيح على المستوى المحلي". ولذلك أضحت أسباب المواجهة العسكرية متوفرة بين الطرفين القوميين اللذين تحولاَ إلى ممثلين لدولتين متجاورتين ومتنازعين في كثير من القضايا المشتركة، بما فيها قضية ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب وإجراء الاستفتاء في منطقة أبيي. إذاً المتضرر الأول من هذا النزاع هو الإنسان البسيط الذي يعيش في منطقة حزام التداخل الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة، ولا يعرف الخيط الرابط بين شقدوم ولاهاي، وتأثيره المباشر على واقع الحياة البدوية في جنوب كردفان.
إذاً ما المخرج من هذا المأزق السياسي؟ حسب مبلغ ظني أن المخرج يكمن في الدراسة الجادة للمقترحات العشرة التي قدمها البروفيسور الدبيلو في صلب كتابه أبيي من شقدوم إلى لاهاي (مج 2، ص: 790-794)، ثم وضعها على مائدة تفاوض يجلس حولها أهل المنطقة، سواء كانوا تابعين لدولة الشمال، أو الجنوب، ويعيدوا النظر في ترتيب شؤونهم المحلية، التي تضمن لهم تعايشهم السلمي، وتواصلهم الاجتماعي والاقتصادي. ويجب على طرفي النزاع على المستوى السيادي للدولتين أن ينظراَ إلى قضية أبيي في إطار تمتين عرى التواصل الاستراتيجي في مناطق التماس، دون التأثر بالانفعالات والتشنجات العارضة التي تحدث بين الخرطوم وجوبا، وتجعل القضية تتقيح على المستوى المحلي، وبذلك تتضاعف آلام أهل الوجع.
(تبيع: الحلقة الرابعة، تقويم الكتاب)
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء