الخرطوم والعالم يتفرجان على حال الاقتصاد

 


 

 


tigani60@hotmail.com

ما كان السيد وزير الخارجية في حاجة لنفي ما أوردته "رويترز" على لسانه عند لقائه بالصحفيين عقب اجتماعه بوزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه في باريس مساء الخميس الماضي لبحث مسألة ديون السودان الخارجية وتخفيف وطأتها على اقتصاد البلاد المتداعي بعد التقسيم, خاصة أن خدمة هذه الديون تراكمها سنوياً بنحو مليار دولار.
ما أزعج الوزير ان صحف الخرطوم تواطأت على تلقف مانشيتاً ساخناً من تصريحاته مستلة تعبير"العالم يتفرج واقتصاد السودان ينهار", وله العذر في انزعاجه ومحاولة تدارك الأمر, فالحرج السياسي في هذه الإفادة لا تخطئه العين خاصة في خضم الأوضاع الاقتصادية والسياسية الخانقة التي تعيشها البلاد منذ أن اعتمر الجنرال سلفا كير ميارديت قبعته الشهيرة ورحل بالجنوب إلى دولة مستقلة, تاركاً الشمال متخبطاً في أتون أزماته لا يكاد يفيق من أحدها حتى تعاجله آخرى, ويبدو أن الخرطوم اكتشفت بعد خراب سوبا أن الجنوب الذي استهانت بأمره أعظم شأناً وأبعد أثراً مما كان يتخيله عتاة الانفصاليين الشماليين وتابعيهم بغير إحسان الذين زين لهم ظن آثم أنه يكفي لإدارة شأن الدول توفر "الحلاقيم الكبيرة والشعارات المزيفة والأماني الكذوب" وليس عصارة أفكار وأعمال دهاقنة الاستراتيجيين والمخططين ورجال الدولة المرموقين المدركين أن "المصالح الوطنية" ورعايتها مسألة مصيرية ذات خطر في حياة الأمم لا ينبغي أن تصبح سداح مداح في سوق اللغو السياسي وفي أيدي الهواة.
ما كان وزير الخارجية محتاجاً للنفي, على الرغم من الحرج السياسي الذي لحقه, ببساطة لأن لسان الحال أبلغ من أي مقال, فالنفي لا يغير من حقيقة أن الاقتصادي السودان يواجه شبح الانهيار, ربما كانت كلمة انهيار ثقيلة الوقع على الآذان, حسنأ لنستخدم كلمة آخرى أخف وطأة ومع ذلك ما تغير وصف الحال المأزقي الذي لم يعد مجرد ارهاصات وطلاسم حول خطورة تدهور أداء الاقتصاد الكلي طالما حذر الخبراء والمحللون ومؤسسات دولية من وقوعها قبل سنوات ولا حياة لمن تنادي, بل باتت أزمة خانقة شاخصة تدق بعنف حياة كل سوداني في حياته اليومية, يشكو من بأسها الميسورون بأكثر مما يفعل رقيقو الحال ذوي الدخل المحدود, والذين لا يسألون الناس إلحافاً.
ما كان ينقص تصريح وزير الخارجية من إفادة ليكتمل الوجه الآخر للحقيقة أن ما يقف متفرجاً حقاً على انهيار الاقتصاد السوداني, ليس العالم فحسب, بل من عجب نظام الحكم في الخرطوم, فإن كان للدول النافذة حساباتها ومصالحها في الوقوف متفرجة تتغاضي عن إنقاذ الاقتصادي السودان على الأقل بالتخفيف من حجم الدين الخارجي الكبير الذي يثقل كاهله دعك من تقديم يد العون له وهو يدفع فاتورة باهظة جراء تسليم الحكومة بتقسيم البلاد, ليس مجاناً فحسب بل بالقبول به دون تبصر في عواقبه الوخيمة التي تنذر بذهاب ريح ما تبقى منه, إذا كان ذلك كذلك فما بال نظام الحكم وقف, ولا يزال, متفرجاً عاجزاً عن فعل ما يستوجب درء الخطر الداهم وما كان ذلك أمراً خفياً أو غير معلوم لأركان الحكم.
وقف الحكم متفرجاً حين كان بيده أن يستخدم أقوى ورقة بيده, ربط الموافقة على إجراء الاستفتاء والقبول بنتيجة الانفصال الذي كانت محتوماً بوفاء المجتمع الدولي بتعهداته التي أقر بها وهو يسوق الخرطوم سوقاً إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل, وإلى تنفيذها حتى تحقيق أخطر بنودها, تعامل نظام الحكم بخفة مع استحقاقات تسوية نيفاشا الخطيرة منتظراً أن تتحلى القوى الكبرى ب"الأخلاق الحميدة" وتفي بوعودها المبذولة لوجه الله, ولماذا تمنحك مقابلاً ما دمت مستعداً للخضوع لمطالبها مجاناً, أليس غريباً ومثيراً للتساؤل والحيرة ألا يستفيد الحكم من تجربته في التعاون اللامحدود مع واشنطن في حربها على الإرهاب وأعطت ولم تستبق شيئاً وتجاوزت كل الخطوط الحمراء ورضيت من الغنيمة بالإياب صفر اليدين, أو أن ذلك أنجاها من غضبة ضربة امريكية عسكرية كما حاول عراب ذلك التعاون تبريره لاحقاً.
لقد أبدى وزير الخارجية دهشته أن العالم يقف متفرجاً على تداعي الاقتصاد السوداني "على الرغم من أنه لم يعارض تقسيم البلاد", ولكن هل كان على العالم أن يفاوض نفسه نيابة عن الحكومة السودانية ويدافع عن مصالحها لأنها ببساطة لم تفعل ذلك, منتظرة أن تتبرع العواصم الكبرى بذلك من تلقاء نفسها؟!
لا يخرج الأمر من أحد احتمالين, إما عدم وجود رؤية لاستراتيجية واضحة للأمن القومي تستتبعها غفلة وقلة كفاءة وخبرة وعجز عن إدارة المصالح الوطنية والمسألة هنا لا تتعلق بأداء وزارة الخارجية بل بنظام الحكم كله, والاحتمال الثاني أن الحكم يستصغر من شأن الأوراق التي يملكها ويخشى من إثارة غضب الدول الكبرى وعواقب ذلك إن استخدمها لتعديل كفة استحقاقات عملية السلام الخطيرة بما يضمن على الأقل اقتصارها على تقسيم سياسي لا تمتد آثاره الكارثية على الاقتصاد وعلى فرص الحفاظ على وحدة ما تبقى من البلاد.
لا يستطيع الحكم في الخرطوم لوم العالم على تقاعسه عن الحفاظ على مصالح البلاد متحملاً وحده تبعات التقسيم, وما يدعو للاستغراب أنه حتى واشنطن التي يعتبرها نظام الحكم, الشيطان الأكبر وعدوه اللدود على الرغم من تعاونه اللامحدود معها رجاءً في كسب ودها, أقرت في استراتيجية أوباما بشأن السودان التي أعلنها في أكتوبر 2009 بضرورة أن تخلف دولة السودان الموحد دولتان قابلتان للحياة في الشمال والجنوب إن حدث التقسيم, لأن عدم الاستقرار في أي منهما سيؤثر بالضرورة سلباً على الأخرى, بل إن وزيرة الخارجية هيلري كلينتون أعلنت في محاضرة لها بإحدى مراكز صنع القرار الأمريكية العام الماضي, أنه لا يمكن أن يتصور أحد أن يفقد الشمال ثمانين بالمائة من موارده بانفصال الجنوب دون أن يتعرض للانهيار وأنه عطفاً على ذلك فإن مصلحة دولة الجنوب تستلزم أن تتوصل لصيغة لاقتسام النفط مع الشمال تجنبه مخاطر هذه الصدمة.
لكن ذلك كله مر دون أن يستفيد نظام الحكم من الفرص التي أتاحتها تلك المعطيات المهمة في حسابات الإدارة الأمريكية في سودان ما بعد التقسيم, والأدهى من ذلك أن واشنطن التي راودتها شكوك من أن الخرطوم ستمارس هوايتها في "نقض العهود" ولن تسمح بتمرير الاستفتاء والقبول بالتقسيم مما سيبدد كل استثمارها السياسي في عملية السلام, سارعت  في سبتمبر من العام الماضي, قبل اشهر قليلة من موعد الاستفتاء, إلى عرض خريطة طريق على الحكومة السودانية وتضمن العرض الامريكي سياسة حوافز خطوة خطوة  تربط التقدم بإتجاه تنفيذ الاستفتاء والقبول بنتائجه وصولاً إلى تطبيع العلاقات بين البلدين في خاتمة المطاف والذي تعتبره الخرطوم سقفاً لمطالبها, لقد جاءت الفرصة للخرطوم على طبق من ذهب لتفرض شروطها أخيراً من أجل تحقيق شئ من مطالبها, وكانت المفاجأة أن مفاوضي الحكومة أعادوا على مسامع المبعوث الرئاسي الأمريكي السابق للخرطوم قريشن الذي جاء حاملاً العرض المغري, الاسطوانة المشروخة أن واشنطن ظلت تتهرب من عدم الوفاء بتعهداتها للخرطوم وأنها لم تعد تثق في وعودها, وكانت المفارقة التي ربما ألجمت لسان المبعوث الأمريكي أن المسؤولين في الحكومة السودانية بدلاً من أن يهتبلوا الفرصة التي جاءتهم أخيراً أبلغوه ببساطة أنهم ملتزمون بإجراء الاستفتاء في موعده وبنتائجه بغض النظر عن الوعود الأمريكية معتبرين أن ذلك التزاماً أخلاقياً من جانبهم للوفاء بما تعهدوا به في اتفاقية السلام!!!.
رحم الله الزعيم الراحل أنور السادات فقد انتشاته أسهماً كثيراً حين وقع اتفاقية كامب ديفيد, فإن كان فرط في الدور القومي لمصر على صعيد القضية الفلسطينية فإنه يحسب له أنه لم يفرط في مصالحها الوطنية فقد خرج من تلك الاتفاقية التي فرضتها توازانات القوة الإقليمية والدولية وقتها بمكاسب لبلاده لا تخطئها العين فقد استرد لها أرض سيناء المحتلة, وضمن لها مساعدات أمريكية عسكرية ومدنية بمليارات الدولارات سنوياً, صحيح انه يمكن المجادلة إن كان ذلك ثمناً كافياً يوازي حجم مصر ودورها القومي, لكن المؤكد أن القاهرة لم تصالح إسرائيل سياسياً مجاناً, وتلك هي قواعد لعبة الأمم لا تدار بالصدف ولا بالنيات الطيبة, ولكنها لعبة توازنات ومصالح يتقنها من يرتقون فعلاً لمصاف دهاقنة رجال الدولة, وتلك هي طبيعة الاشياء ونواميس الكون لا أحد ضعيف على الإطلاق, ولا أحد قوى على الإطلاق, فللقوة حدود أيضاً, ولكن الفرق يأتي من براعة الساسة والحكام في فهم قواعد اللعبة والحذق في ممارستها.
ولئن كان ذلك تفرجاً من الحكم وهو يبدد أهم أوراق قوته في دهاليز السياسة الدولية مشترياً تقسيم السودان بثمن باهظ, مبدداً وحدة البلاد ليس مجاناً فحسب بل أصبح يتعين عليه أن يدفع اغلى من عنده ليشتري بضاعته بدلاً من أن يبيعها فإن لم يكن من ذلك بد, إن جاز التشبيه والتعبير, ألم تكن تستحق عائداً مجزياً. فالحفاظ على حدة السودان لم تكن أبداً مسألة عاطفية ولكنها في صلب معادلات وحسابات أمنه الوطني الحقيقية, إن كان هناك وعي بها أصلاً, فهل يعقل أن تطفئ النار في حوش دارك ليكون البديل إشعالها داخل غرفة نومك؟!!!.
سيظل العالم يتفرج, بمن فيهم من يحسبهم نظام الحكم من حلفائه وأصدقائه, ليس فقط على الاقتصاد السوداني ينهار, بل والنظام نفسه يتداعى, لأنهم يرونه بأعينهم يدمن التفرج على أزمات البلاد, ويعيد إنتاجها ببراعة لا يحسد عليها, ولماذا لا يحدث ذلك والطاقم الحاكم بعد أكثر من عشرين عاماً لا تزال شهيته للبقاء في السلطة مفتوحة, لم تلهمه تجارب مريرة ولم تسعفه السنوات الطوال ان يتعلم شيئاً أو ينسى شيئاً, مستكثراً أن يفسح المجال لدماء جديدة ذات كفاءة وقدرات حتى من داخل حوش حزبه, دعك أن تسمح طبقة السلطة المنغلقة بفتات لمن هم خارجه. فمن أين يأتي الرجاء في الإصلاح!!!.
ولا يزال الحكم يتفرج والاقتصاد ينهار, حتى وهو يحذر بالثبور وعظائم الأمور بمضاربين أنحى عليهم باللائمة في محنة الاقتصاد الحالية, وهو أمر لا يعدو أن يكون مجرد هروب من الأسباب الحقيقية المرة لهذه الزلزال الاقتصادي الذي غشي كل دار, فالمشكلة ليست هي غلاء الاسعار ولا انفلات التضخم من عقاله ولا حتى الانهيار السريع لقيمة العملة الوطنية, فهذه كلها مجرد أعراض ونتائج وليست أسباب, وما تحاول الحكومة فعله لتدارك الأمر لا يعدو ان يكون جرياً وراء سراب, وعلاج لمظاهر لا لأسباب المرض, المشكلة الحقيقية هي أننا نواجه الآن نتائج الإدارة الكارثية للاقتصاد الوطني على مر السنوات الماضية, المسالة ببساطة هل لديك وفرة إنتاج , هل لديك صادرات تستطيع المنافسة, هل لديك استثمارات أجنبية مباشرة يعتد بها, هل لديك توظيف رشيد لموارد البلاد, وقبل ذلك هل لديك استراتيجية اقتصادية خلاقة, هل لديك تخطيط سليم, هل لديك إدارة كفؤة وفعالة قادرة على تحريك قطاعات الإنتاج وموارد البلاد الكامنة, هل لديك شفافية وعدالة ورشد ومكافحة حقيقية للفساد, هل لديك توظيف صحيح لموارد البلاد للصالح العام, إن كان لديك شيئ من هذا فلن تحتاج لإجراءت صارمة ولا جزاءات رادعة ضد أعداء متوهمين في حين يظل الأعداء الحقيقيون حريصون على استمرار الوضع الضي حقق لهم مصالحهم. بيد أن ما هو أهم من ذلك كله لا سبيل لإصلاح اقتصادي حقيقي بدون إصلاح سياسي عميق الجذور.

عن صحيفة إيلاف السودانية
5 أكتوبر 2011

 

آراء