التدخين في أوساط العاملين في الحقل الصحي في العالم

 


 

 


لفت نظري مقال صغير للأستاذة بدور عبد المنعم عبد اللطيف نشر في سودانايل يوم الأحد 27 نوفمبر  2011م عن أن وزارة الصحة السودانية قد أعلنت في تقرير لها أن 51% من أطباء الامتياز يتعاطون السعوط/ "التمباك". ليس من أغراض هذا المقال التعرض لما ذكر في ذلك المقال، والذي فهمت أنه يهدف أساسا إلى انتقاد سياسة و"ثورة" التعليم العالي، وتدني مستوى التعليم الجامعي على وجه العموم. دعاني ذلك المقال للبحث في ما نشر عن التدخين (واستخدام التبغ في أي صورة من الصور) في وسط العاملين بالحقل الصحي، وهي الفئة التي يعهد إليها المجتمع بالحفاظ على صحته وسلامته الجسدية والنفسية، والتي تعد المثال المحتذى، والقدوة الحسنة في نظر العامة في كثير من الأمور، وهي كذلك الفئة التي من أوجب واجباتها حث الناس على ترك استعمال التبغ في أشكاله المختلفة، وعلى عدم الوقوع في "براثن الإدمان" على التبغ بصوره المتنوعة، وضرب المثل للآخرين بالسلوك والممارسات الصحية المفيدة.
لدراسة مدي انتشار  استخدام التدخين في فئة العاملين بالحقل الطبي فوائد عديدة، أهمها المساعدة في التنبؤ بفعالية أي برامج محتملة لمكافحة التدخين في أوساط المجتمع العريض بأسره، ولمساعدة صانعي السياسات الصحية في تقدير الزمن الواجب انقضاؤه قبل أن تبدأ معدلات التدخين في التناقص. اعتمدت في هذا المقال بصورة رئيسة على ما ورد من إحصائيات في البحث المنشور في عام 2004م في مجلة بي أم سي الطب الوقائي بقلم باحثين هما ديريك اسميث (من اليابان) وبيتر لاقات (من استراليا)، ومصادر أخرى متنوعة.
معلوم أن أمر التدخين قد شغل بال جميع المهتمين بأمور الصحة العامة في كل أنحاء المعمورة...وكيف لا؟ وقد عدته منظمة الصحة العالمية السبب الثاني للوفاة في أوساط البشر (السبب الأول هو أمراض القلب والأوعية الدموية، حيث تقتل هذه الأمراض نحو 34% من المرضي في أمريكا مثلا ). ويعد أيضا عامل الخطر الرابع الأكثر شيوعا لحدوث الأمراض.  يقول الخبراء أنه بحلول عام 2020م سيموت نحو 10 مليون شخص في العام بسبب التدخين.
للتدخين أضرار صحية واقتصادية واجتماعية صارت في حكم المعلوم بالضرورة ، تشمل (ولا تقتصر) على حدوث أمراض كثيرة من أهمها السرطان، ليس فقط في الرئة، بل في أعضاء هامة أخرى كالبنكرياس (ويسميه العرب أيضا المعثكلة)، وهو من السرطانات المميتة التي يصعب علاجها، واحتمال حدوثه عند المدخنين ضعف ما هو عليه عند غير المدخنين. لعله من الطريف أن نعلم أن أولى الدراسات الوبائية التي أجريت من قبل وأثبتت الأضرار الصحية للتدخين في البشر كانت قد أجريت في بريطانيا في أوساط الأطباء المدخنين ونشرت في المجلة الطبية البريطانية في عام 1954م. 
أثبتت كثير من الدراسات أن امتناع الأطباء عن استخدام التبغ يعد وسيلة فعالة في إقناع مرضاهم بهجر التبغ بأنواعه المتعددة. بيد أنه ثبت أيضا في مختلف البلاد أن الأطباء لم يضربوا المثل الأفضل للمرضى في التعامل مع التبغ، رغم معرفة هؤلاء – مع غيرهم من بقية العاملين في الحقل الطبي وغيره - بأضرار التبغ.  بل لقد ثبت أن بعض الأطباء في القرن العشرين كانوا يقومون بتقديم إعلانات دعائية عن التبغ! ورصدت أوراق علمية صدرت قبل أعوام قليلة الأعمال الدعائية للتبغ التي قام بها بعض الأطباء في أمريكا في الفترة ما بين عامي 1930 -1953م، وكان التدخين حينها شائعا جدا في أوساط الأطباء. ففي عام 1959م مثلا كان 40% من الأطباء الأمريكيين من المدخنين. ما أن حل عام 1975م حتى انخفضت هذه النسبة إلى 21%، وفي منتصف الثمانيات غدت النسبة 17% لمدخني السجائر، و8% لمدخني الغليون أو السيجار. وفي عام 1982م أعلنت جمعية السرطان الأميركية أن نسبة المدخنين في أوساط الأطباء بلغت 25%، ثم تناقصت تلك النسبة إلى أقل من 10% بين أعوام 1987م و1994م. لوحظ نفس مستوى التناقص في النسبة في البلاد الاسكندينافية، وفي هولندا خلال العقود القليلة الماضية. بيد أن الموقف في إيطاليا كان يختلف عن الدول الأوروبية المذكورة سابقاً. فقد أثبتت الأبحاث المنشورة بين عامي 1985م و2000م أن نسبة المدخنين بين الأطباء الإيطاليين (خاصة في جنوب البلاد) مرتفعة جدا، خاصة في أوساط الطبيبات، بيد أن هذه النسبة ظلت في حالة انخفاض متواصل. قدرت نسبة المدخنين من الأطباء في إيطاليا حتى عام 2007م بنحو 25% من جملة عدد الأطباء، بل إن غالب هؤلاء المدخنين يدخنون أثناء ساعات الدوام الرسمي، مما يشكل بالطبع خطرا مهنيا صحيا بالغ الخطر.
تبين الإحصائيات المقارنة للتدخين في أوساط الأطباء في مختلف أرجاء العالم تباينا كبيرا، خاصة بين أطباء العالم المتقدم وأطباء العالم النامي (الثالث). ففي الولايات المتحدة كانت نسبة المدخنين بين الأطباء ذكوراً وإناثاً 2 -7%، بينما بلغت معدلات التدخين وسط الأطباء الذكور في الصين61 %، وعند الطبيبات 12% (بمتوسط يبلغ 42%). أما في بلاد كتركيا والبوسنا والهيرسك، واليونان فقد بلغ معدل التدخين وسط الأطباء فيها (دون تحديد للجنس) 38% و40 و49%على التوالي. أما في الدول العربية فقد بلغت النسبة 34% في السعودية، وفي الكويت 45% وسط الأطباء الذكور، و16% وسط الطبيبات، وفي الإمارات العربية المتحدة بلغت نسبة الأطباء المدخنين 44% عند الذكور، و4% عند الإناث. وفي السودان أجري بحث عام 1980م (ونشره د/ بلال عام 1984م في المجلة الطبية لشرق أفريقيا) أثبت أن 46% من الأطباء الذكور هم من المدخنين، مقارنة ب 1% عند الطبيبات. لا شك عندي أن هذه النسب ستكون مختلفة جدا إن تم إجراء هذا البحث مرة أخرى في هذه الأيام لأسباب كثيرة، منها تكاثر أعداد خريجي كليات الطب ((القديمة منها والجديدة)، وتغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.  
في بحث أجري باستراليا ونشر في عام 2006م في "مجلة طب الأسنان الدولية" لمقارنة نسب المدخنين في أوساط أطباء الأسنان في خمسة عشرة دولة حول العالم، ثبت أن نسبة المدخنين في أوساط هذه الفئة متدنية جدا، بالمقارنة مع غيرهم من العاملين في المهن الصحية. كانت أقل نسب المدخنين وسط أطباء الأسنان في الولايات المتحدة، تلتها تايلاند ثم فنلندا واستراليا وكندا. على العكس من ذلك كانت هنالك نسبة عالية نسبيا من المدخنين في أطباء الأسنان في إيطاليا والأردن، وهذا مما يثير القلق، إذ أن أطباء الأسنان من أولى الناس بضرب مثل جيد للمرضى، وقدوة حسنة، خاصة إن علمنا أن أضرار التبغ (مثل "التمباك" عندنا) علي اللثة والفم بصورة عامة واضحة جلية.
في دراسة مسحية (نشرت في عام 2011م) عن السلوك الصحي عند الممرضات والممرضين في بريطانيا، تم سؤال 352 من العاملين في حقل التمريض (96% منهم نساء) أسئلة عديدة شملت سؤالا عن التدخين. أجاب نحو خمس هؤلاء بأنهم يدخنون حاليا. تم تقديم ذات الأسئلة لممرضات وممرضين في اليونان، فذكر نصف هؤلاء بأنهم /بأنهن يدخنون / يدخن في الوقت الراهن، بينما كانت نسبة التدخين في أوساط الممرضين والممرضات في شمال ايرلندا – بحسب دراسة حديثة نشرت هذا العالم (2011م)-  تبلغ نحو 21%.
نشرت في أسبانيا في عام 2004م نتائج  دراسة أجريت في جامعة سراقسطا، بهدف معرفة مدى تأثير التعليم الطبي على سلوك الطالبة/ الطالب تجاه التدخين. تم في تلك الدراسة سؤال مئات من طلاب الطب البشري، والطب البيطري. أثبتت الدراسة عدم وجود علاقة بين معرفة الأخطار الصحية للتبغ، وبين استخدامه،  مما يؤكد فشل التعليم الطبي في تغيير اتجاهات سلوكيات الطلاب، رغم تمام معرفتهم بأخطاره المختلفة. أكدت تلك الدراسات نتائج دراسات مشابهة سابقة في عدة دول آسيوية وفي تونس. 
إن كان هنالك من نقد لهذا النوع من الدراسات التي تعتمد على استبيانات تعطى للأشخاص المستهدفين لملئها وتسليمها إما باليد أو بالبريد، فهو أن مصداقيتها قد تكون موضع شك في بعض الأحايين، وخاصة في بعض الدول "المحافظة"، مثل تلك التي تحرم التدخين، أو تعده من "العيب"، خاصة عند النساء. وهنالك أيضا عامل الخوف من عدم الحفاظ على سرية المعلومات المعطاة. ولكن مهما يكن من أمر، فإن هذا العرض السريع لنسب التدخين في أوساط بعض فئات العاملين بالحقل الصحي يوضح بجلاء أن هنالك نسبا متفاوتة بين أعداد المدخنين بينهم في مختلف الدول، وأن مجرد معرفة أن استخدام التبغ (بصوره المختلفة) يضر بالصحة ليس سببا كافيا في الالتزام بعدم ممارسته أو مكافحته. من الخطورة بمكان أن يظل العاملون في المجال الصحي ينصحون الناس بعدم استخدام التبغ وهم يستخدمونه على طريقة "اعمل بقولي وإن قصرت في عملي.. ينفعك قولي ولا يضرك تقصيري!"، بينما الأولى هو الالتزام بمضمون الآية الكريمة "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم".
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء