أوجه التمكين العديدة

 


 

 



boulkea@yahoo.com

أوردت صحف الإسبوع الماضي خبر إجتماع الرئيس بقيادات الخدمة المدنية والذي أعلن فيه تحرير الخدمة المدنية من سياسة التمكين والتطهير, وإنتهاء عهد المحسوبية والوساطة والحزبية والتسييس. و أوضح الرئيس إنًَ الخدمة المدنيِّة تلقت ضربات بسبب سياسات التطهير والتمكين, وقال: " تاني ما في حاجة إسمها التطهير واجب وطني إلا من خلال الأداء", وقال أيضاً : " التمكين يكون لكل أهل السودان".
هذه ليست المرَّة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس عن الدَّمار الذي ألحقتهُ سياسة التمكين بالخدمة المدنيِّة فقد تحدَّث قبل سنوات عن ذات المشكلة, وعن آثارها الخطيرة حين قال صراحة : ( إنَّ ضعف الخدمة المدنية هو الذي أدى إلى فشل الاستراتيجية القومية الشاملة وفشل الخطة الخمسية ) ونادى كذلك بضرورة تدارك ذلك (حتى لا تفشل الإستراتيجية ربع القرنية، وكل خطط النهضة المرتبطة بها ).
مرَّ حديث الرئيس الذي قاله قبل عدة سنوات دون أن يترك أثراً يُذكر في أرض الواقع, وأخشى أن يمُرَّ كلامهُ الأخير بذات الطريقة لأنَّ  أزمة الخدمة المدنيِّة – كما ظللنا نقول – ليست إلا جزءاً من " أزمة " الحكم ككل.
فعلى الرغم من إنتقال حكومة الإنقاذ من مربع الحكم "العسكري", إلى خانة الحزب "المُسيطر", إلا أنَّ جوهر وطبيعة النظام لم يتغيرا. فالحزب المُهيمن أو المُسيطر أو الغالب يستمدُّ قوّتهُ من إندماجهِ وظيفياً وآيدولوجياً ونخبوياً في الدولة و الحكومة, وبالتالي فإنهُ لا يُمكن إحداث التطوُّر المنشود والنقلة النوعية في جهاز الخدمة المدنية الا إذا حدث تطوراً موازياً في طبيعة وشكل نظام الحكم ينزع لتكريس الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة. لن يعدو الحديث عن محاولات الإصلاح أن يكون " تسكيناً " للمُشكلة عوضاً عن أن يُمثل علاجاً ناجعاً لها.
غير أنَّ سياسة التمكين التي إنتهجتها حكومة الإنقاذ منذ عام 1989 لم تقتصرعلى التطهير و الإحلال في الخدمة المدنيِّة فحسب , بل إمتدت لتشمل مُختلف جوانب الحياة الدينية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية.
ففي إطار سعيها للتمكين في المجال الديني لم تدَّخر الحكومة وسعاً في تنصيب أتباعها ومنسوبيها " أئمة " على المساجد, و إحكام قبضتها على هيئات "عُلماء" الدين, و تنصيب شيوخ الرقابة " الشرعية " في البنوك والمؤسسات, وعملت على شق بيوتات الطرق الصُوفيِّة بالتمكين للمُوالين لها من تلك البيوت, ولم تسلم من تلك السياسة حتى "خلاوى" تحفيظ القرآن التي شملها الإحلال والإبدال. وامتد أثر التمكين كذلك إلى الدواوين المُرتبطة بتطبيق فرائض الدين مثل ديوان " الزكاة " الذي لن تجد مُنتسباً إليه لا يُوالي الحكومة وحزبها.
وفي الجانب الإجتماعي تمثلت أكبر كوارث سياسة التمكين في إستخدام أعوان الحكومة وتابعيها من أجل تشتيت وتمزيق الإدارات الأهلية و صناعة رموز قبلية موالية للنظام الحاكم خارج أعراف وقوانين تلك الإدارات, وهو الأمر الذي أدى لتفكيك الكيانات الكبيرة وتحويلها " لبطون" و " أفخاذ " متنافسة و مُتناحرة, ممَّا أقعدها عن لعب دورها الذي ظلت تقوم به في إرساء قواعد الأمن والإستقرار والسلم الإجتماعي.
إنَّ أخطر أوجه سياسة التمكين في رأيي الخاص تمثل في التمكين الإقتصادي. فعلى الرغم من أنَّ الحكومة إختارت أن تتبنى سياسة " التحرير الإقتصادي" التى جوهرها وأساسها " المنافسة الحُرَّة " إلا أنها طبَّقت في أرض الواقع سياسة نقيضة تقوم على "الإحتكار" و التمكين للتابعين لها, و " الإقصاء" لغير التابعين.
التنظيم الحُر للإقتصاد يُفترض أن تتوفر فيه الحُريِّة التنافسية بين مختلف الكيانات الإقتصادية، و حُريِّة الوصول إلى العملاء, وهذا الوضع لا يتحقق في الواقع إلا إذا كانت شروط المنافسة المثالية متاحة لجميع الكيانات، لا سيما حرية الدخول للسوق، و نزاهة الممارسة التجارية و الصناعية، وتوفر المعلومات, و تماثل شروطها بالنسبة " لجميع " الكيانات المتنافسة, إذ لا يجب أن تكون هناك ميزة تنافسية لأية كيان.
لقد خلقت حكومة الإنقاذ قطاعاً إقتصادياً فريداً من نوعه, لا هو بالقطاع العام, ولا الخاص, ولكنهُ قطاع خاص "جداً ". رجال أعمال, و شركات وهمية, وأخرى حكومية, و ثالثة تابعة لأجهزة  نظامية تستفيدُ من المعلومات المتوفرة لديها بحكم القرب من أجهزة اتخاذ القرار الحكومي في نشاطها التجاري والصناعي والخدمي. هذه المعلومات تكون غائبة عن جميع الكيانات الإقتصادية المُنافسة مما خلق خللاً جوهرياً في طبيعة النظام الإقتصادي.
هذا القطاع الخاص "جداً " يرتبط – في أغلب الأحيان - بالمسئولين في الدولة ويعملُ تحت مظلتهم, عبر شبكات من العلاقات الحزبية والأسرية والمناطقية والجهوية. و قد تمتع بميزٍ تنافسية غير محدودة متمثلة في إعفاءات الضرائب والجمارك والزكاة. وهو كذلك يُسيطر على " العطاءات الحكومية " دون مُنافسة حقيقية, كما تنفتحُ في طريقهِ كلَّ أبواب " التمويل المصرفي" والقروض التي تغلق في وجه غير الموالين, والتي لا يُحاسب عليها حتى إذا تعثر في سدادها.
إنَّ الأنظمة الديمقراطية الحقيقية لا تجيز للوزير أو شاغل المنصب السياسي والدستوري أن يجمع بين منصبه بسُلطته وحصانتهِ, وما يُتيحهُ له ذلك المنصب من تعرُّف على معلومات , وبين مُباشرتهِ لأعمالهِ الخاصة.
إنَّ "المنافسة" وضعية إقتصادية  تقابل وضعية "الاحتكار"، سواءٌ كان هذا الاحتكار لمصلحة الدولة، حيث لا يمكن في هذا الوضع إعمال قواعد المنافسة، و لكن قواعد التخطيط، أو كان الاحتكار أو شبه الاحتكار لمصلحة شركة أو مؤسسة خاصة، فنكون أمام وضعية "هيمنة اقتصادية" لا تتحقق معها ظروف المنافسة الحُرَّة.
التمكين الإقتصادي لهذا القطاع الخاص "جدا ً" تبَّدت نتائجهُ وآثاره في الثراء الفاحش و المفاجىء لأفرادٍ في المُجتمع لم يُعرف عنهم الإنحدار من عائلات ثرِّية, ولم يُعرف لهم في ذات الوقت نشاط إقتصادي منظور وممتدٌ لسنوات طويلة تسمح بتراكم الثروة بطريقة طبيعية معلومة, ولم يُقدِّم أحدهم " إبتكاراً " في عصر العولمة مثل إبتكار موقع التواصل الإجتماعي المعروف " فيس بوك" أو "كتاب الوجوه" ( هذه ترجمتي الخاصة له), الذي حوَّل صاحبهُ الشاب ( مارك زوكربيرج) إلى ملياردير بين عشيِّة وضحاها.
هؤلاء الخاصُّون "جداً " الذين وصفتهم في مقال سابق بأصحاب الوجوه الرَّطبة و الشالات ناصعة البياض, الذين يتفاخروُن على بعضِهم البعض بعددِ الزوجات والعربات والمنازل, وبعدد مرَّات ذهابهم للحج والعُمرة, صعدوا إلى قمَّة الهرم الإقتصادي والإجتماعي على حساب مجموعة عريضة من أصحاب شركات القطاع الخاص الحقيقي, وهم من كانوا يُعرفون في الماضي  "  بالراسمالية الوطنيِّة " الذين سحقتهم سياسة التمكين الإقتصادي, فدخلوا السُجون, وأفلسوا, وأفقروا, وهاجروا, ومنهم من مات وفي نفسه أشياء من "حتى".
في سياق قريب من حديث الرئيس حول العواقب الوخيمة التي أصابت الخدمة المدنيِّة جرَّاء سياسة التمكين والتطهير والفصل للصالح العام, صدر السنة الماضية قرار رئاسي بتصفية الشركات الحكوميِّة, وجدَّد الرئيس مطلع الإسبوع الحالي دعوته لخروج الحكومة من حقل المنافسة الإقتصادية بصورة كاملة.
هذا القرار صحيحٌ من حيث مبدأ العمل بقواعد التنافس السليمة في فلسفة السُّوق الحر . ولكنه – مثل رؤية إصلاح الخدمة المدنيِّة – لن يؤدي غرضهُ, وسيصُّب في مصلحة القطاع الخاص " جداً " إذا تمَّ التعامُل مع الشركات المُزمع تصفيتها بعقلية " الغنيمة " التي يجب أن توَّزع لمنسوبي المؤتمر الوطني و الحكومة و مؤيديها, بدلاً عن طرح هذه الشركات للمنافسة الحُرَّة المفتوحة بكل شفافية وبعيداً عن المحسوبية و المُحاباة.
إنَّ فلسفة تحريرالسوق تنبني على جانبين يُكمِّل كلاهما الآخر ولا يقوم بدونه. الجانب الإقتصادي الذي يتأسس على المُنافسة الحُرَّة, وتحرير الإقتصاد من الإحتكار, ومن قبضة الدولة. والجانب السياسي الذي يقوم على النظام الديموقراطي بما يشملهُ من تعدُديِّة حزبية حقيقية, وتداولٌ سلمي للسُّلطة, واستقلال القضاء, ووجود الرقابة البرلمانية, والشفافية والمحاسبة.
لا يُمكننا الحديث بجدِّية عن التحرير الإقتصادي في ظل نظام سياسي أوتوقراطي, لأنَّ الأخير – وبحكم طبيعته – يقودُ حتماً لإحتكار النخب الحاكمة لمفاصل الإقتصاد والسياسة مما يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة والي تفاقم الفوارق الاجتماعية والغبن والإحساس بالظلم, وهو ما فعلتهُ سياسة التمكين الإقتصادي.
ختاماً أقول : لا تنفصل الآثار السالبة لسياسة التمكين التي إعترف بها الرئيس عن بقية المشاكل والأزمات السياسية والإقتصادية التي تحيط بالوطن وتهدِّد بتفتيتهِ إلى المزيد من الكيانات المتناحرة والمتحاربة. وقد جرَّبت البلاد نهج العزل والإقصاء والتخوين الذي لم تجن منهُ سوى الفتن والقلاقل, ولا يوجد بديل سوى سلوك نهج الإجماع الوطني الذي يتأسسُ في ظل النظام الدستوري الديموقراطي الذي يُشارك في بنائه كل أبناء الوطن.
أمامك فانظر أىَّ نهجيك تنهج     طريقان شتى مستقيمٌ وأعوج

ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.

 

آراء