تتعدَّدُ الأفهامُ والإسلامُ واحدٌ

 


 

 


boulkea@yahoo.com

( القرآنُ بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلمُ به الرِّجال ). لعل الإمام على كرَّم الله وجههُ أراد بعبارته العبقريِّة هذه الإشارة إلى أنِّ عقول الناس ومستوى معرفتهم وفهمهم تتفاوت وتختلف, وبالتالي فإنَّ تحديد دلالات النصوص وصياغة معانيها يختلف كذلك بين الأفراد والجماعات. و ليس أدلَّ على صواب هذه المقولة من ظهور وتبلور العديد من المدارس والتيارات الفكريِّة الإسلاميِّة عبر أربعة عشر قرناً من الزمان.

وإذا كان التفاوتُ بين الناس في فهم القرآن وتحديدُ دلالاته أمراً حتمياً لا يُمكنُ التغاضي عنهُ, فإنَّ الإختلافَ في النظر إلى التجرُبة التاريخية الإسلاميِّة ( بما فيها السُنة النبوية ) والمنتوج الفقهي و قراءتها في ضوء مُعطيات العصر لإنزال مقاصد الشريعة على الواقع المُتغيِّر هو كذلك أمرٌ حتمىٌ .

ولا يقتصرُ هذا التفاوتُ على التباين في الأفكار والأفهام بين أصحاب التيارات الإسلامية المُختلفة , ولكنهُ يمتدُّ إلى داخل كل تيار و مدرسة فكرية, و من هذا ما أظهرتهُ تجربة تيار "الإسلام السياسي" عبر المواقف والإتجاهات المُتباينة للتنظيمات التي ترفع شعارات "الدستور الإسلامي" و " الشريعة الإسلاميِّة" وغيرها.

قد أظهرت حركة النهضة التونسية الحاكمة حتى الآن أنها أكثر حركات الإسلام السياسي تقدماً في فهم روح و دلالات النصوص وقراءة التجربة التاريخية بما يتماشى مع وقائع العصر, حيث يقول القيادي البارز في الحركة سيِّد الفرجاني إنَّ هناك : ( نقاش جار حول الشريعة في الشارع التونسي. إنَّ الحركة (النهضة) تريدُ، بحسب المفهوم الخلدوني، القطع مع نظام الإستبداد، وأن يكون نظامنا نظاماً عقلياً يؤدي الحقوق ويكون نظاماً ديمقراطياً متميزاً). إنتهى

هذه النظرة تنفذ إلى لبِّ الشريعة الإسلاميِّة وجوهرها :  الحُريَّة . وهى نظرة ترَّكز على (العقل) في بناء النظام, وعلى أداء (الحقوق), وهذه هى العناصر التي يقوم عليها النظام الديموقراطي. ويمضى في قوله ليؤكد أنّ :َ (  الحُريِّات والمعرفة هي شروطٌ للدين الإسلامي وللعبادة بمعنى أنَّ الحُريِّات قبل الشريعة ).

هذا الفهم الذي يُركز على الحُرِّية كشرطٍ لازم يأتي قبل الشريعة, وعلى إستخدام العقل, وأداء الحقوق, والمعرفة, ضمن نظام ديموقراطي, يتناقض مع فهم آخر يرى في الديموقراطية كفراً, وفي إستخدام العقل خروجاً على الدين, ويُعادي العلم, و ينتقص من حقوق المرأة وغير المُسلم, وهو الفهم الذي عبَّرت عنهُ الجهة التي ظهرت في السودان مؤخراً تحت مُسمى "جبهة الدستور الإسلامي" وقدَّمت مُقترحاً للدستور لم ترد فيه كلمة ديموقراطيِّة على الإطلاق.

قيادات حركة النهضة التونسيِّة يستصحبُون "المصلحة" في فهم دلالات النصوص, وفي هذا الإطار يقول الفرجاني أنهم لن يقوموا بإلغاء : ( القانون الذي يمنعُ تعدُّد الزوجات لأننا لا نريد أن نرعب المرأة المتزوجة، لأنَّ كثيراً من التونسيات لا يُردنَ التعدد. نحن لا نشجِّعُ على تعدُّد الزوجات. صحيح أنَّ هناك نصاً قرآنياً يُجيز التعدُّد ولكن الزواج نفسهُ سنة مؤكدة، وبالتالي يمكن لمن يحكم أن يُرجِّح المصالح ).

ويمضي القيادي الآخر في حركة النهضة على العريض ليؤكد أنه : ( ليس لنا أيَّ نيِّة لمراجعة تعدد الزوجات، لأنَّ التعدد مشروطٌ في الفقه بشروطٍ كثيرة، وإذا رأى ولي الأمر سوء إستعمال حق أن يُقيدهُ, مُضيفاً أنَّ حركة النهضة ( تحترمُ النمط الاجتماعي، وفي تونس جرى العمل على أنه لا وجود للتعدد ).

وفي خصوص الدستور يقول على العريض : ( ليس في الدستور الذي ننوي أنْ نصوغهُ من جديد، من تمييز للرُّجل على المرأة في الحقوق والواجبات، وهذا ينطبقُ على حقوق الترَّشح لمُختلف المناصب).

وهو ذات الأمر الذي أكدهُ وزير الخارجيِّة التونسي والقيادي بحركة النهضة الدكتور رفيق عبد السلام حين
قال أنَّ حركة النهضة : ( لا تمانع في انتخاب إمرأة لمنصب رئيس الجمهورية ).

هذا الفهم يُخالف جذرياً الفهم الذي تتبناهُ "جبهة الدستور الإسلامي" التي تميِّز بين الرجل والمرأة تمييزاً واضحاً في الحقوق والواجبات و يمنع  دستورها المُقترح  تولي المرأة للولاية الكبرى أو حتى ولاية القضاء.

ويذهبُ الدكتور رفيق عبد السلام خطوة أخرى قائلاً : ( ولا مانع لدينا أن يصل الشيوعيون إلى الحكم شريطة أن تكون هنالك انتخابات شعبية نزيهة ).

هذا الفهم المُتقدِّم الذي يجعل معيارَ الوصول لسُّدة الحُكم سياسياً متمثلاً في الإنتخابات الحُرَّة النزيهة كوسيلة لحسم الخيارات الجماهيرية , لا يتوافق مع توجهات و أفهام دينية أخرى لا تقيس الخلافات بميزان "السياسة" وإنما تحيلها مباشرة لميدان "العقيدة" وما يستتبعُ ذلك من إقصاءٍ وحجرٍ بدواعي التكفير والخروج عن الملة.

ويقول على العريض : ( إنَّ الدين الإسلامي واحد، وقراءتهُ مُتعددة، وهو يتأقلمُ مع كل مُجتمع بخصائصهِ والمرحلة التي يتطوَّر بها، ونحنُ نريدُ الحفاظ على المكاسب الموجودة وإصلاح التجاوزات. إنَّ حركتنا تؤيِّدُ الدولة المدنية ).

عندما يقول على العريض إنَّ " الدين الإسلامي واحد، وقراءته متعددة " فكأنهُ يستلهم مقولة الإمام على التي صدَّرنا بها هذا المقال. وهو كذلك يُشير إلى عامل آخر في غاية الأهميِّة وهو "الخصوصية المُجتمعيِّة", بما تشملهُ من تطوَّر تاريخي, وموقع جغرافي, وتركيبة ثقافيِّة, وأحوال إقتصادية, وهذه أمورٌ لا مكان لها عند بعض أصحاب الأفهام الدينية الذين يعتقدون بتطبيق قراءتهم للنصوص دون مراعاة لهذه الخصوصيِّة.

الخصوصيِّة المُجتمعيِّة فحواها إستحالة تطبيق نموذج تاريخي واحد على كل الشعوب وفي كل البلدان, وهو ما قصد إليه على العريض عندما قال عن النموذج الإيراني : ( النموذجُ الإيرانيُ خاصٌ بإيران كشعب وجغرافيا وتاريخ ومذهب . نحن بعيدون عن النموذج الإيراني، ولنا كامل خصوصيتنا. ننفتح ونستفيدُ من التجارب الأخرى ).

و بتأكيده على أنَّ حركة النهضة تؤيدُ "الدولة المدنيِّة" فإنَّ على العريض يؤكد أنَّ المواطنة هى أساس الحقوق والواجبات في الدولة, ذلك لأنَّ المُساواة بين جميع المواطنين هو حجرُ الزاوية الذي تقوم عليه الدولة المدنيِّة الحديثة. لا تفرقة بين المواطنين في الدولة المدنيِّة على أساس اللون والجنس والدين واللغة والعرق.

بعض فصائل الإسلام السياسي لا تؤمنُ بالدولة المدنيِّة, ومنها أصحاب جبهة الدستور الإسلامي الذين لا يُجيزون المساواة بين المواطنين ولا يعتمدون المواطنة كأساس للحقوق والواجبات, حيث يمنع دستورهم المقترح المرأة وغير المُسلم من الولاية العامة والولاية الكبرى وولاية القضاء, ويقصِرُها على المسلم الذكر ويقول مشروع الدستور عن أهليِّة الرئيس : ( يكون أهلاً لرئاسة الدولة كل سوداني توفرت فيه الشروط  الآتية : العدالة الجامعة والضابطة لأحكامها وهي أن يكون : مُسلماً , ذكراً, عاقلاً, بالغاً من العمر أربعين سنة, مستقيماً في دينهِ وسلوكهِ ).

وفي إطار إستنباط الدلالات من القراءة التاريخية للتجربة الإسلامية, فإنَّ حركة النهضة لا تنادي بعودة       " الخلافة ", حيث يقول على العريض في هذا الخصوص إنَّ : ( الخلافة الإسلامية ليست من أصول الدين، ونحن مع إتحاد المسلمين والعرب وتقوية التكامل بينهم، ولسنا من دعاة الخلافة بمفهومها التقليدي ). إنتهى

هذا الفهم لموضوع الخلافة يتعارض مع أطروحات تيار داخل إطار الإسلام السياسي يمثله "حزب التحرير" الذي يرى أنَّ إقامة دولة الخلافة الإسلامية هى أهمَّ قضيِّة في وجه المُسلمين على الإطلاق، و الذي يقول إنَّ جميع مشاكل الشعوب الإسلامية ستحل بإقامة هذه الخلافة. و يُحرِّم حزب التحرير "الديمقراطية" تحريماً تاماً، ويعتبرها " نظام كفر" لايجوزُ الإحتكام لها، ولا الدعوة إليها، بل يعتبر الدعوة إليها دعوة إلى باطل.

رؤية حركة النهضة للعلاقات الدوليِّة كما عبَّرت عنها بلسان على العريض تقول : ( نحن منفتحون على كل القوى والبلدان التي لها علاقات مع تونس، وسنسافرُ إلى كل بُلدان العالم بحثاً عن مصالح تونس والإستثمارات الأجنبية ). إنتهى
هذه الرؤية كذلك تستلهمُ القاعدة التي تقول "حيثما وجدت المصلحة فثمَّ شرعُ الله ", وهى تعني أنَّ أحكام الشريعة الإسلامية قائمة في مُجملها وتفصيلها على ما تقتضيهِ مصالحُ العباد. ولكن هناك مدارس ضمن تيار الإسلام السياسي لها وجهة نظر أخرى في القاعدة التي يجب أن تحكم العلاقات الخارجيِّة.
يقولُ مقترح الدستور الذي تقدَّمت به جبهة الدستور الإسلامي : ( تضبط عقيدة الولاء والبراء الدولة في علاقاتها الخارجية ). وبهذا فإنهم ينقلون عقيدة الولاء (حب الله ورسوله والصحابة والمؤمنين ونصرتهم) والبراء ( بغض من خالف الله ورسوله والصحابة والمؤمنين ) من حيِّز التعامل بين الأفراد إلى ساحة العلاقات بين الدول.
إنَّ خطورة إستخدام هذه العقيدة تتمثل في أنَّ مدلول " البغض" يُفيدُ معنى التوتر و العداء و الترَّبُص و الخصومة, لا الإنفتاح والتعاون والتبادل والمشاركة مع كل الدول غير المسلمة, تستوي في ذلك الهند "الهندوسية", والصين " البوذية –الشيوعية", والغرب "المسيحي", و روسيا "الأرثوذكسيِّة ", و دول أمريكا اللاتينية والدول الأفريقية.
وبخصوص موضوع الإقتصاد يقول سيِّد الفرجاني : ( ليس هناك أسلمة للإقتصاد وليس هناك رفض لأي أساليب أو وجوه أو أنواع من الاقتصاد الإسلامي. بالنسبة إلينا كل ما ينفع شعبنا مرحب به ).
هذه النظرة لموضوع الإقتصاد تنبني على "المنفعة" ولا تستند على توجه عقدي صارم, و هى رؤية تدركُ أنه ليس هناك ثمَّة شيء إسمهُ "الإقتصاد الإسلامي", ولكن هناك بعض "الأساليب" في المعاملات نابعةٍ من القيم والتوجهات الإسلاميِّة الكليِّة والتي لا مانع من إستخدامها بطريقة ذرائعية متى ما وجدت فيها مصلحة للإقتصاد.
هذه الرؤى والأفكار المتقدمة لحزب حركة النهضة التونسية, والتي تركز على الأمور الجوهرية  المتمثلة في تقديم الحُريِّة حتى على الشريعة نفسها, وفي بناء النظام الديموقراطي الذي يقوم على المواطنة, وفي إستخدام العقل, والإستناد إلى المعرفة, والإنفتاح على العالم, جعلت هذه الحركة في طليعة حركات الإسلام السياسي المُرَّشحة لتحقيق نجاحات كبيرة على مستوى الحُكم وبناء الدولة.
على العكس من حركات الإسلام السياسي الأخرى في المنطقة ( الإخوان المسلمين في مصر) ساهمت أفكار حركة النهضة التونسية في إجتياز الثورة التونسيِّة لمرحلة الخطر بقدر كبير من السلاسة ودخولها مرحلة التوافق الوطني بعيداً عن الفوضى والإضطرابات الشاملة, حيث شاركت الحركة في تنصيب أحد رموز العلمانيِّة ( المنصف المرزوقي ) رئيساً لتونس, وكذلك (مصطفى جعفر ) رئيس المجلس التأسيسي, مما خلق التوافق الوطني المطلوب في مرحلة الإنتقال الديموقراطي.

 

آراء