تعقيب على موضوع الرق وحرق الكتب الفقهية فى موريتانيا [4-4].بقلم : محمود عثمان رزق

 


 

 

morizig@hotmail.com

فى مقال قيّم عن قصة العبودية وحرق كتب المالكية فى مورتانيا كتب المفكر الموريتانى الأستاذ محمد بن مختار الشنقيطى قائلا: "الأوْلى من حرق الكتب الفقهية باستفزاز والدفاع عنها بانفعال هو قراءتها بعيون مفتوحة تميز بين الدين والتدين، .وبين الشريعة والفقه، وبين الوحي والتاريخ. فالأمر ليس حدثا عابرا في بلد قصيَّ، وإنما هو في جوهره أمر مستقبل الإسلام في عصر الحرية."

وفى الحقيقة ، إن الحديث عن كتب الفقه يضطرنا للحديث عن الثابت والمتحول المتطور فى الدين. فليس كل الدين ثابت وليس كل الدين متطور. فالأصل الأول الذى تأخذمنه الأحكام ثابت لا يتغير وهو القرآن الكريم واللغة التى يفهم بها هذا الأصل ثابتة أيضا لا تتغير ، والسنة النبوية الصحيحة على مستوى الحديث المتواتر ثابتة لا تتغير. هذه الأصول الثلاثة التى لا تتغير ولا تتبدل بها وعليها تستنبط الأحكام الفقهية. أما ما عدا ذلك فهو متحول متطور متجدد قابل للأخذ والرد والرفض. وعلى هذا تكون كتب الفقه عموما من ضمن المتحول فى الدين الذى يتخطاه الزمن فى بعض مقولاته أو كل مقولاته الإجتهادية. والفقه فى حقيقته هو فهم الناس للنصوص وهو فهم ينشأ فى فترة زمنية معينة و يتأثر تأثرا مباشرا بثقافة المجتمع التى تحيط بصاحبه ، ولذلك نجد فى كثير من الأحيان أن يقوم الناس - علماء كانوا أو عامة - بتطويع الدين ليتماشى مع عادتهم التى ورثوها من أجدادهم وأصبحت جزء لا يتجزأ من وجدانهم وتفكيرهم وطريقة حياتهم. وخير مثال لما نقول هو تطويع السودانيون للدين ليخدم عادة سيئة من عاداتهم ألا وهى عادة الختان الفرعونى. فقد أسموا هذه العادة العزيزة عليهم "طهارة" لأن الطهارة هى باب من أهم أبواب الدين ، فطهارة العقيدة من الشرك شئ أساسى ، وطهارة البدن شئ مهم ، والطهارة من أجل العبادة شئ مهم، وطهارة اليد من الغل والبطش وطهارة اللسان من الفحشاء شئ مهم أيضا. فسمى أهلنافى السودان "الختان الفرعونى" طهارة كنوع من الإلتفاف عليه بثوب من الدين والأسلمة حتى لا يستنكره أحد ، وبالتالى تستمر ممارسته كجزء من الدينبعد أسلمته التى إبعدت عنه إسم الفرعون !! هذا فقه شعبى أملته ظروف الجهل ومارسته العامة وسكت عنه الخاصة خوفا من المجتمع ، وفى الحقيقة ليس للدين أى علاقة بهذا الفقه البائس لا من قريب ولا من بعيد. هذا مثال حيّ على تأثير المجتمع على المفاهيم عموما وعلى الفقه خاصة. وعليه يمكننا أن نقول بكل ثقة إن فقهنا الموروث والحاضر فى كل مسألة ليس فيها نص واضح و صريح من القرآن الكريم أو الأحاديث المتواترة ، ليس بالضرورة أن يمثل رأى الدين الصحيح والقاطع فى المسألة، وكل ما نستطيع أن نفعله أن نعمل بالإجتهاد الذى وصلنا له فى المسألة طالما أن أدواته وأدلته صحيحة لا غبار عليها ، ولكننا لا نستطيع ولا يجوز لنا أن نجزم ونقول أن رأينا هو الرأى الصحيح القاطع الملزم لكل الأجيال من بعدنا.


يقول الأستاذ الشنقيطى: " ليس من ريب أن الشريعة "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها" (ابن القيم: إعلام الموقعين 3/3). لكن فقهنا الموروث –وهو كسب بشري لا وحيٌ منزل- ليس كله عدلا ولا رحمة ولا مصلحة ولا حكمة. بل هو حاصل تفاعل فهمِ الفقهاء للوحي مع المواريث الاجتماعية والثقافية السابقة على الإسلام، ومع واقع القهر الاجتماعي الذي ساد في عصرهم. وقد نجح هذا الفقه في تحقيق العدل حينا، وفشل أحيانا أخرى فشلا ذريعا في الارتفاع إلى مقام المبادئ الإسلامية الجليلة، فانتهى إلى خلاصات غريبة مثل التي سنوردها في هذا المقال نقلا عن كتب السادة المالكية. ولكي يتبين الفرق الهائل بين الشريعة والفقه في هذا المضمار أقتصر على مثالين: أولهما التفاف الفقهاء على مسألة المكاتبة لتحرير الرقيق، والثاني رفضهم المساواة بين الحر والعبد في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها. وكلا الأمرين من المصائب الفقهية الكبرى في التاريخ الإسلامي."

وفي الجدول الآتي يسرد لنا الأستاذ الشنقيطى بعض المفارقات بين النص القرآني والرأي الفقهي. وهي مفارقات تشير إلى تأويل النصوص القرآنية الصريحة ذات الصلة بالرق وصرفها عن ظاهرها كلما تعلق الأمر بالمساواة بين الرقيق والأحرار، تلك المساواة التى كان يرفضها المجتمع بسبب عاداته الجاهلية وللأسف قد تأثر الفقهاء بنظرة المجتمع تلك فحاولوا أن يجدوا لها مبررات دينية بأقيسة فاسدة:

1- القرآن يأمر أمرا صريحا بقبول المكاتبة إذا أرادها المملوك وطالب بها = و كتب الفقه تقول إن الأمر هنا للندب أو الإباحة، وهو غير ملزم للسيد

2- القرآن يأمر صراحة بإيتاء الإماء مهورهن شأنهن شأن الحرائر= و كتب الفقه تقول مهر الأمة ملك للسيد لا للأمة!

3- القرآن يأمر صراحة بمساعدة الأرقاء والإماء علي الزواج = و كتب الفقه تقول إن الأمر هنا للندب أو الإباحة، ويجوز للسيد منع مملوكه من الزواج!!

4- القرآن يأمر صراحة بدفع الدية في قتل أي نفس مؤمنة = و كتب الفقه تقول إن المملوك لا دية له، وإنما له قيمة فقط!!

5- القرآن يأمر صراحة بالقصاص في القتل العمد = و كتب الفقه تقول لا قصاص من حر قاتل فى عبد مقتول قتلا عمدا!!

6- القرآن ينص على أن الطلاق ثلاث مرات دون تمييز بين حر وعبد = وكتب الفقه تقول طلاق العبد مرتان فقط!!

7- القرآن ينص على أن العدة ثلاث حيضات دون تمييز بين حرة وأمة = وكتب الفقه تقول عدة الأمة حيضتان فقط!!



والحمد لله لم تخل كتب الفقه والحديث من رافض لهذا النوع من فقه التمييز، محتكم فى رفضه إلى نص الوحي من غير غواش، حتى وإن ضاعت أصوات هؤلاء بين أصوات الجمهور. فقد استنكر –مثلا- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق خروج الفقهاء على القرآن في موضوع العدة: "روى الدارقطني من طريق زيد بن أسلم قال: سئل القاسم بن محمد عن عدة الأمة، فقال: الناس يقولون حيضتان، وإنا لا نعلم ذلك في كتاب ولا سنة. انتهى وإسناده صحيح" (ابن حجر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/70).

و من يقرأ للشيخ الأكبر محى الدين بن عربى فى مسائل الفقه يجده ظاهرى المذهب يتوقف على ظاهر النص لا يتعاداه إلا بدليل قاطع وحجة قوية. وعندما يناقش الشيخ محى الدين بعض المسائل الفقية عادة يورد كل الآراء فيها وأخيرا يصرح برأيه فى المسألة ، وعندما يجد أن آراء بعض الفقهاء تتعارض تعارضا صريحا مع أمر صريح من الله ورسوله يعلق قائلا : "هذا خلاف بين الفقهاء وبين الله ورسوله ، أما نحن فنتبع ما أمر به الله ورسوله" ، وهذا العبارة تتكر كثيرا فى مناقشاته الفقهية. وإذا نظرنا للجدول الذى أورده الأستاذ الشنقيطى يتبين لنا صحة مقولة الشيخ الأكبر محى الدين بن عربى. وكان ابن حزم قد سبق إبن عربى على هذا الموقف من تلك الفتاوى التى تخالف القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة. ففي قضية المكاتبة وقفابن حزم للفقهاء " بالمرصاد ببيانه وبيناته، وبين أن عزوف أغلب الفقهاء هنا عن ظاهر القرآن خطيئة لا مسوغ لها. قال ابن حزم: " وأمْر الله تعالى بالمكاتبة – وبكل ما أمر به- فرضٌ، لا يحل لأحد أن يقول له الله تعالى: افعلْ، فيقول هو: لا أفعل"( (ابن حزم: المحلى 8|221). ثم أوضح أن وجوب المكاتبة هو مذهب الصحابة، وكان الأوْلى بالفقهاء أن لا يخالفوهم فيه. قال ابن حزم: " فهذا عمَر وعثمان يريانها واجبةَ، ويُجبِر عمر عليها ويضرب في الامتناع عن ذلك، والزبير يسمع حمل عثمان الآية على الوجوب فلا ينكر على ذلك، وأنس بن مالك لما ذُكِّرَ بالآية سارع إلى الرجوع إلى المكاتبة وترك امتناعه. فصحَّ أنه لا يُعرَف في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. وخالف في ذلك الحنفيون والمالكيون والشافعيون فقالوا ليست واجبة، وموَّهوا في ذلك بتشغيبات... وهذه وساوس سخِر الشيطان بِهِم فيها، وَشَوَاذُّ سَبَّب لهم مثل هذه المضاحك في الدِّين، فَاتَّبَعوه عليها" (ابن حزم: المحلَّى 8|222-223). [الشنقيطى]

تأمل معى عزيزى القارئ قوله : " وهذه وساوس سخِر الشيطان بِهِم فيها، وَشَوَاذُّ سَبَّب لهم مثل هذه المضاحك في الدِّين، فَاتَّبَعوه عليها" ، فإذا كان إبن حزم وإبن عربى وغيرهممن فقهاء العصور السابقة يعتقد إعتقادا جازما أن هناك فى كتب المذاهب الأربعة فتاوى هى فى الأصل بلاوى مضحكة "وشر البلية ما يضحك" من وسواس الشيطان لا توافق روح ونصوص القرآن، فنحن فى هذا العصر ثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك أن تلك الفتاوى كانت كما وصفها إبن حزم تماما ، و هى بالفعل خلاف بين هؤلاء الفقهاء وبين الله ورسوله كما ذكر إبن عربى.

إن الذى يجب أن يعقله كل مسلم معاصر هو أن كل المكتوب عن الرق- أو قل معظمه - فى كتب الفقه يخالف نصوصا صريحة فى الشريعةالإسلامية و يخالف روحها التى تعلى من قيمة الإنسان وتعلى من قيمة العدل و الحرية والكرامة ،ولهذا ننصح فقهاء تلك المذاهب فى عصرنا هذا بأن يجددوا روح مذاهبهم ويكتبوا كتبا فقهية جديدة فى إطار المذهب لتدرس فى كليات الفقه ، وأن يسقطوا من دراساتهم وكتاباتهم الجديدة مواضيعا عفى عنها الزمن مثل موضوع الرق. فبالله عليكم ماذا يستفيد طلاب الفقه من دراسة "فقه الرقيق" فى عصرنا هذا؟؟ لماذا تضيعون وقتكم ووقتهم فى دراسة موضوع عفى عنه الزمن؟ ولماذا يطبع مختصر خليل أو غيره ومعه الجزء المختص بفقه الرقيق وغيرها من المواضيع التى عفى عنها الزمن ، أليس ذلك إسراف فى مضيعة المال والورق والوقت؟

اما بخصوص مسألة الرق فى موريتانيا فقد أكد الشيخ محمد الحسن ولد الددو، رئيس جامعة عبد الله بن ياسين بنواكشوط، أنه لا يوجد بموريتانيا بيع وشراء رقيق، مشيراً إلى أنه إذا وجدت ممارسات من هذا النوع فهي ممارسات فردية متفلتة. وردًّا على سؤال ببرنامج "لقاء الجمعة" على قناة "روتانا خليجية" قال: إن النظام الموريتاني منذ أيام الاستعمار إلى زماننا هذا يمنع البيع والشراء فى الرقاب، إلى أن جاء إعتاق الرقاب من قِبل الدولة، ثم جاء بعد ذلك قانون تجريم التعبيد، وهو القانون المعمول به الآن.

فإذا كان الرق محرما فى موريتانيا منذ أيام الإستعمار وجاءت الحكومات الوطنية وأعتقت ما تبقى منه وأصدرت قانونا يجعل إسترقاق الأحرار جريمة ، فمن أين أتى الرق الذى تتحدث عنه منظمة "يارا" وحرقت بسببه كتب الفقه؟؟ إذا كان مصدر هؤلاء الرقيق هو القنص فذلك حرام شرعا وكتب الفقه لم تقل بذلك. وإذا كان المصدر هو بيع الأسر لأبنائهم فذلك حرام شرعا وكتب الفقه لم تقل بذلك. وإذا كان مصدره الإعسار وبيع الإنسان لنفسه فهذا حرام أيضاوكتب الفقه لم تقل بذلك. وإذا كانوا أسرى بسبب حروب قبلية بين قبائل مسلمة فإسترقاق المسلم الحر جريمة وأى جريمة وهذا معلوم فى كتب الفقه. وإذا كان مصدر هؤلاء الرقيق حروب بين قبائل مسلمة وأخرى كافرة فمن هو الإمام الذى سمح بإسترقاق هؤلاء الأسرى والآية تنص على المن أو الفداء؟

يبدو لى أن الدولة فى موريتانيا لا تستطيع أن تفرض هيبتها ولا تستطيع أن تطبق قوانينها التى وضعتها، وأمر الرق فى موريتانيا هو أمر فوضى وضعف دولة ليس لكتب الفقه المحروقة علاقة به ، وما ذكرته كتب الفقه المحروقة – بالرغم من إعتراضنا عليه - لا علاقة له بهذا النوع من الإسترقاق البتة وإنما له علاقة بإسترقاق الأسرى ، وطالما أن الرقيق الذي يباع الآن ويشترى فى موريتانيا - حسب زعم المنظمة- ليسوا بأسرى فبالتالى لا علاقة لكتب الفقه بهؤلاء الرقيق ولا تنطبق عليهم المقولات الفقهية رغم علاتها وسخفها . ولا شك عندى أبدا أن أسباب وجودالرق منتفية تماما قانونا وشرعا فى موريتانيا وفى كل بلاد المسلمين. و إذا رأيتم يوما ما رقيقا فاسألوا صاحبه كيف صار هذا الشخص مملوكا لك؟فإن أجاب بأى شيئ فالرجل مجرم والمملوك حرا على الفور. وحتى إسترقاق الأسرى حرام فى زمننا هذا بإتفاق المسلمين مع غيرهم من الدول. فأى إجابة لتبرير الرق هى جريمة شرعا وقانونا.

إن العالم الإسلامى محتاج الآن لفقه جديد فى مجال تداول السلطة سلميا ، وفقه جديد لتوزيع الثروة، وفقه جديد لتوزيع السكان ، وفقه جديد للزراعة ، وفقه جديد للصناعة ، وفقه جديد لتخطيط المدن والارياف، وفقه جديد للتربية والتعليم، وفقه جديد للترفيه ، وفقه جديد للعسكرية، وفقه جديد للإستخبارات، وفقه جديد لمحاربة الفساد ، وفقه جديد لكيفية تطبيق العقوبات الإسلامية............الخ فإذا كانت كليات الفقه فى عالمنا الإسلامى ما زالت تشغل طلابنا بمختصر خليل و فقه معاملة الرقيق فمتى يا ترى سنرى فقها جديدا فى المجالات التى ذكرناها سابقا؟

وخلاصة الأمر فى موضوع الرق أنه لا يوجد نص واحد فى كتاب الله ولا سنة رسوله تأمر بإسترقاق الأحرار ولا بإسترقاق الاسرى أيضا وإنما وجد نص صريح بتحريم الإسترقاق تحريما أبديا مغلظا وذلك بحديث قدسى من أعلى مراتب الحديث.، فلهذا نقول لمن أراد أن يتبع الله ورسوله هذا هو الطريق واضح ، ونقول لمن أراد أن يتبع فلان وعلان أنتوشأنك، أما نحن فلا يهمنا ما هو مكتوب فى تلك الكتب ، ولن يسطيع أى شخص كائنا من كان أن يحاسبنا بها ولا يلزمنا بما فيها ، ولذلك فاليوفّر أعداء الإسلام وقتهم فى النبش فى تلك الكتب ليخرجوا لنا منها باقتباسات فى مسألة الرق ليوجعوا بها رأسنا يحسبونها من الدين وما هى منه فى شئ ، فهذه الكتب ليست بمقدسة عندنا ، ولا ملزمة لنا ، ولا نؤيد كل ما فيها. وإن حدث أن خدمت جيلا من الأجيال أو مجتمعا من المجتمعات التى خلت ، فشعارنا نحوها هو قول الله تعالى : "تلك أمة خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" والحمد لله الذى بيّن الهدى فمن إهتدى فإنّما يهتدى لنفسه ومن ضل فعليها.

 

آراء