قرنق الذى أعرف: رمز أفريقي للقيادة الرشيدة الملهمة؟. بقلم: د. لوكا بيونج دينق.. ترجمة: غانم سليمان غانم

 


 

 





قرنق الذى أعرف: رمز أفريقي للقيادة الرشيدة الملهمة؟

بقلم: الدكتور/لوكا بيونج دينق

ترجمة: غانم سليمان غانم

G_ghanim@hotmail.com


نقلاً عن: صحيفة نيو نيشن
سيتذكر شعب دولة جنوب السودان وسكان المناطق المهمشة في السودان قائدهم العظيم الدكتور جون قرنق دي مابيور في يوم 30 يوليو القادم الذى يصادف الذكري السابعة لرحيله إثر حادث تحطم طائرته في 30 يوليو 2005م. إن قرنق المفكر والثائر المتطلع للحرية والقائد العسكري والمثقف ستظل تذكره الأجيال جيلاً بعد جيل بصفته القائد والزعيم الذى أرسى دعائم دولة جنوب السودان الوليدة والذى وضع أهداف مشروع التغيير في السودان. طوال فترة كفاحه ترك الدكتور الراحل قرنق بصمات إيجابية وذكريات لا تنسي بالنسبة للعديد من مواطني دولة جنوب السودان والسودان وأفريقيا والعالم بشكل أكبر. خلال السنوات السبع الماضية حاولت تقييم الأثر الكبير والإرث والمجد العظيم الذى تركه لنا فاكتشفت أن اسمه صار مرادفاً لكفاح المهمشين في السودان.
بالرغم من أن هناك العديد من الناس يعرفون الراحل الدكتور جون قرنق أكثر من غيرهم إلا إنني أعتقد بأن أي مواطن من دولة جنوب السودان عرف قائدنا وزعيمنا العظيم بشكل أو بآخر.  واعتماداً على ذكرياتي معه، فإنني يمكن أن أصف الدكتور جون قرنق بالأيقونة أو الرمز الأفريقي للقيادة الرشيدة الملهمة. وصف الأستاذ/ياسر عرمان الدكتور قرنق بأنه: "هبة للإنسانية وأكثر الزعماء السودانيين تأثيرا في القرن العشرين". نحن شعب دولة جنوب السودان ينبغي أن نكون أكثر اعتزازاً وفخراً لأننا أوجدنا مثل ذلك القائد الموهوب في المرحلة الأخيرة من كفاحنا الذى أثمر في ولادة دولتنا الجديدة. إن الذكرى السابعة لرحيل الدكتور/جون قرنق تمثل مناسبة خاصة لأنها تصادف احتفالاتنا بالعيد الأول لاستقلالنا وطالما نحن نكافح لبناء دولة متطورة وناجحة فنحن نحتاج إلى مراجعة والتفكير في شمائل وأفكار الأب المؤسس التي يمكن أن تلهمنا وتدعم جهودنا في تأسيس دولة جنوب السودان المزدهرة والمسالمة.
لقد عرفت الدكتور/قرنق باعتباره مفكر استراتيجي وسياسي فذ عندما كنت في السنة الأخيرة في جامعة الخرطوم في بواكير الثمانينيات من القرن الماضي حيث نظمنا أنفسنا كطلاب في خلايا سرية لنشر وترويج المشروع السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان.لقد جذبني تحليله وتشخيصه وتشريحه لمشكلة السودان باعتبارها مشكلة المركز وليست مشكلة الهامش والأطراف. لقد حَوَل قرنق بشكل كبير اتجاهات الفكر السائدة حينئذٍ  فيما يتعلق بمشكلة جنوب السودان وأوضح أن المشكل هو المركز.  إنه لم يشخص المشكلة بشكل جيد فحسب ولكنه بمهارة وصف الحل في سياق رؤية السودان الجديد. وبالقيام بذلك، فقد استطاع استنهاض وتعبئة جميع السودانيين حول فكرة السودان الجديد بغض النظر عن انتماءاتهم الجهوية والدينية والعرقية.
نظر قرنق إلى المشكلة بمنظورها الكلي ولم يكن أسير المنظور الجزئي لمشكلة جنوب السودان التي اعتبرها كعرض للمرض، وبدون هذا التفكير الاستراتيجي لم يكن لدولة جنوب السودان الحصول على استقلالها. في حقيقة الأمر، كانت الأهداف السياسية لمشروع السودان الجديد مفيدة لبناء دولتنا الجديدة. إن بناء دولة متماسكة وصامدة وتحقيق تطلعات المجتمعات الريفية ونقل المدن إلى الأرياف هي مسائل ضرورية ومهمة لبناء الدولة الوليدة. دائما ما يذكرني ابن أخي- دانيال فرنسيس دينق - عندما نناقش أي مسألة بـ"حكمة النسر" قائلاً: "إن النسر يحلق عالياً في السماء ليتمكن من الرؤية بشكل أفضل ومن ثم يهبط سريعاً إلى الأرض مميزاً بشكل واضح أهدافه وهو يتجنب الارتكاز على الأرض حيث لا يرى جيداً". لقد استخدم قرنق هذه الحكمة بشكل جيد، وهذه الحكمة مفيدة في حياتنا اليومية وكذلك مفيدة لبناء دولتنا الوليدة، لأننا في بعض الأحيان نضيع جهودنا وطاقتنا في اجترار الماضي والمسائل التافهة بدون النظر إلى الصورة بمنظور شمولي وكامل.إن كل ما نحتاجه هو الصورة الشاملة والرؤية الثاقبة لتحقيق مستقبل أفضل لدولتنا الناشئة.
لقد عرفت قرنق باعتباره مفكراً ومخططاً تنموياً مهموماً بمشاكل الجماهيرعندما كلفنيبالأشراف على "اللجنة الاقتصادية القومية لغرب الاستوائية" المنبثقة من "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وذلك في عام 1991م عندما تم تحرير ولاية غرب الاستوائية. لقد كانت المرة الأولي التي التقى فيها معه وجهاً لوجه وأشاركه رؤيته المرتبطة بكيفية قيام "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بتنمية ولاية غرب الاستوائية أثناء الحرب. لقد طلب منى تشغيل المجمع الزراعي الصناعي في أنزارا وتحفيز المزارعين لزراعة القطن وتزويد مصنع النسيج في أنزارا بالقطن. لقد كان مهتماً بالتنمية الصناعية الزراعية الريفية وكان يرى ذلك أكبر وسيلة فعالة لتمكين المجتمعات الريفية اقتصادياً ونقل الخدمات للجماهير. لقد روج قرنق رؤاه التنموية من خلال خطبه الجماهيرية بعبارات ومصطلحات مشهورة مثل: “نقل المدن للأرياف" و"استخدام البترول لتنمية القطاع الزراعي"، وستظل هذه الأهداف بمثابة الغايات الاقتصادية التي من خلالها نستطيع بناء دولة جنوب السودان المزدهرة والمسالمة. ونحن ما زلنا بعدين عن تحقيق هذه الأهداف لأن جماهيرنا ما زالت متعلقة ومنجذبة للسكن في المدن التي تتوفر فيها الخدمات وقد تجاهلوا تماماً النشاط الزراعي.
لقد عرفت قرنق كذلك باعتباره مفاوضاً بارعاً خلال مفاوضات اتفاقية السلام الشامل عام 2003م في كينيا لأنه كان متميزاً في استعراض مهارته القيادية والمعرفية و بنجاحه في إدراج معظم رؤاه المتعلقة بالسودان الجديد في اتفاقية السلام الشامل، وبدون قيادته لم يكن من الممكن توقيع اتفاقية السلام الشامل. إنني أتذكر تلك الأوقات التي واجه فيه ضغوطاً كبيرة من المجتمع الدولي وحتى من بعض قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان للتنازل عن مسألة أبيي ومنطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق نظراً لأن الجنوب نال حق تقرير المصير،ولكن قرنق وقف بثبات فيما يتعلق بمسألة سكان أبيي ومنطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. تمتع قرنق كذلك بروح الدعابة والمرح حيث كان مرحاً جداً في هذه المفاوضات وتبادل القصص والنكات مع نظيره الأستاذ/على عثمان محمد طه لأجل إيجاد جو مشجع للمفاوضات. كنا في بعض الأحيان ننتظر بفارغ الصبر في الردهات خارج غرفة اجتماعاتهما وكنا نتفاجأ باستماع ضحكاتهما المجلجلة من وقت لآخر. وبالرغم من أن دولة جنوب السودان نالت استقلالها يجب علينا عدم التنازل عن تضامننا مع الجماهير المهمشة في السودان وسيكون ذلك بمثابة جريمة أخلاقية بل خذلان إذا أدرنا ظهورنا لجماهيرنا ورفقاءنا في جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان ودارفور.
لقد عرفت قرنق كذلك باعتباره قائداً متديناً وملتزماً عندما أعطاني أنجيله الخاص به والمطبوع عليه أسمهلأجل أداء قسم اليمين بصفته النائب الأول للرئيس في يوم 9 يوليو 2005م وقد اندهشت عند مطالعتي صفحات ذلك الإنجيل وعندما أدركت من تعليقاته وحواشيه أنه قراءه بتمعن شديد. وعندما أخبرت وزير شئون رئاسة الوزراء بأن الدكتور قرنق يرغب في استخدام إنجيله الخاص به لأداء القسم أفادني بأن القصر يحفل بالعديد من الأناجيل وقد حاججته بأن بعض الجنوبيين كانوا يجبرون علي القسم بالحلف زورا على المصحف بدلاً من الإنجيل. هذا التصرف البسيط من قرنق أوضح كيف أنه كان متديناً وملتزماً. وكان قرنق يُعنى حتى بالتفاصيل الدقيقة التي كانت ضرورية للقيادة، وقد لاحظت ذلك خلال مفاوضات السلام حيث راجع تفاصيل مسودات جميع بروتكولاتاتفاقية السلام الشامل وقرأ بعناية شديدة كامل الاتفاقية قبل التوقيع عليها نهائياً.
تابع الدكتور قرنق تاريخ شعب السودان في الإنجيل وبدأ بتاريخ مملكة كوش وكان دائماً ما يستشهد بسفر أشعياء وخاصة الإصحاح الثامن عشر حيث ذكر النبي:"اذْهَبُوا أَيُّهَا الرُّسُلُ السَّرِيعُونَ إِلَى أُمَّةٍ طَوِيلَةٍ وَجَرْدَاءَ إِلَى شَعْبٍ مَخُوفٍ مُنْذُ كَانَ فَصَاعِداً أُمَّةِ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ وَدَوْسٍ قَدْ خَرَقَتِ الأَنْهَارُ أَرْضَهَا َ"*. لقد تنبأ أشعياء بشكل قاطع بالأحداث التي شهدها ورآها العالم أجمع عندما مات شعب كوش بالآلاف وأكلت أجسادهم الطيور الكاسرة والحيوانات المتوحشة. على كل، أطلق أشعياء على هذه الفترة "الْحَصَادِ عِنْدَ تَمَامِ الزَّهْرِ وَعِنْدَمَا يَصِيرُ الزَّهْرُ حِصْرِماً نَضِيجاً يَقْطَعُ الْقُضْبَانَ بِالْمَنَاجِلِ وَيَنْزِعُ الأَفْنَانَ وَيَطْرَحُهَا"*. لقد رأى قرنق مأساة حرب جنوب السودان الكبرى باعتبارها صورة كبيرة من البعث والتجديد، ومثل طائر العنقاء فإن مصير شعب دولة جنوب السودان سيكون الرخاء في وقت السلام بعد ولادتهم مجدداً من رماد الحرب.
هناك نماذج عديدة لتواصلي مع الدكتور قرنق بصفته قائد وزعيم أعجبت به واعتبرته نموذج ورمز للقيادة الرشيدة الملهمة، فعندما مات فجأة في حادث تحطم طائرته في 30 يوليو 2005م كنت في رمبيك في رفقة اللجنة التي كانت تقوم بصياغة الدستور الانتقالي لجنوب السودان التي اجتمع بها الدكتور قرنق قبل ثلاثة أيام من رحيله. في حقيقة الأمر لم أشاهد على الإطلاق أمة بكت قائدها كما بكى السودانيون قرنق. وعندما أحضر جثمانه إلى رمبيك كنت في المطار حيث مررت بطفل عمره حوالى 10 سنوات يبكي بحرقة فجلست إلى جانبه وسألته لماذا يبكي؟ فقال لي:" بموت القائد قرنق لا أعرف من سيهتم بتعليمنا". وفى هذه الأوقات العصيبة تأثرت بشكل كبير برباطة جأش زوجته ربيكا دي مابيور، لقد كانت الأم الحقيقية للأمة وقد عزت كلماتها المؤثرة الجماهير. إن المرء يتمنى لو واصلت الرفيقة ربيكا لعب دور أم جميع مواطني دولة جنوب السودان وفى ذات الوقت تعطي الاهتمام المطلوب لقضايا مواطني تويك وبور وجونقلي.
وبالطبع هناك أناس أفرحهم موت الدكتور قرنق بشكل كبير وكان أحد زملائي في لجنة صياغة الدستور والذى يتبوأ الآن منصباً كبيراً في الحكومة قد قال لي في رمبيك وبدون أي مشاعر حزن بعد تلقى تلك الأخبار الحزينة لموت زعيمنا الكبير قرنق: "لقد صرت يتيماً الآن يا لوكا! وقد ولى زمانكم بموت الدكتور قرنق". وبمعايشة ذكرى قائدنا العظيم فإن الطريقة الوحيدة لتخليد هذه الذكري هي استكمال وإنجاز مشاريعه التي لم تكتمل. لقد قام الرئيس سالفا كير بإنجاز الكثير ليس فقط بتحقيق الاستقلال وحماية سلامة ارضى دولتنا ولكن بقيامه ببناء ضريح الراحل وتكريمه بصك صورته في عملتنا الجديدة.
على أية حال، فإن التحدي الكبير هو تحقيق أحلام الدكتور قرنق المتمثلة في: "نقل المدن للأرياف" و"استخدام البترول لتنمية القطاع الزراعي"، والتحدي الثاني يتمثل في رعاية أسر شهداءنا وتقدير  تضحياتهم الكبيرة التي جعلتنا اليوم أحرارا. إن ميلاد دولة جنوب السودان يضع على كواهلنا مسئوليات جسيمة فيما يتصل بالحوكمة الرشيدة والرقابة الاقتصادية والمحاسبة والشفافية وحقوق الإنسان وحكم القانون والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبدون تطبيق هذه المبادئ والقيادة الملهمة الرشيدة فإن حصاد النبي أشعياء كما رآه الدكتور قرنق مبكراً سيكون حصادا مراً وحصرماً. وبكل ذلك فإن الفاكهة الحلوة التي زرعها شعب كوش لن يتمتع بها الجيل الحالي فحسب بل الأجيال القادمة كذلك.
* لتفسير سفر أشعياء - الإصحاح الثامن عشر، يرجي مراجعة شرح الكتاب المقدس، العهد القديم، في موقع القس أنطونيوس فكري على الإنترنت.

 

آراء