الجزيرة (عَاملة رايحة) والقرضاوي صامت
boulkea@yahoo.com
من بليغ عبارات العاميَّة السودانيَّة التي شاعت في الآونة الأخيرة عبارة "فلان عامل رايح", وتعني أنَّ الشخص يتعمَّد إظهار جهلهِ أو عدم معرفتهِ بموضوع ما يُحيطُ به علماً رغبة منهُ في عدم إثارته لغرضٍ في نفسهِ.
تحوَّلت "قناة الجزيرة" الفضائية أبَّان إندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا و اليمن إلى منصَّة "سياسية" تبدي إنحيازها التام لخيارت الشعوب في مواجهة الحكام المُستبدِّين وبطانتهم الفاسدة, حتى أنَّ الكثيرين إعتبروها أحد العوامل التي ساهمت في إنجاح تلك الثورات, وما زالت القناة تلعب ذات الدور فيما يتعلق بالثورة السوريَّة المُستمرَّة منذ أكثر من عشرين شهراً.
غير أنَّ المُتابع لبرامج القناة التي إدعَّت مساندتها المطلقة لتوجهات الشعوب المُتطلعة للحُرية والديموقراطيَّة يُدرك أنها – أى القناة - تستخدمُ "معايير مزدوجة" في تناولها أو تجاهلها للأخبار والقضايا ذات الطبيعة المتشابهة, وهو إستخدام نابع من تحيُّز "آيديولوجي" مفضوح لا تخطئهُ عين المُشاهد, أو أذن المستمع.
القناة التي لا تدِّخر جهداً أو مالاً في سبيل تقصِّي وعكس أنباء إنتهاكات حقوق الإنسان في أقاصي الدنيا ( مثل تلك التي تتعرَّض لها أقليَّة " الروهينقا" المُسلمة في ميانمار ) تتعمَّد تجاهل خبر في غاية الأهميِّة عن إنتهاك حقوق الإنسان في البلد الذي تنطلقُ منهُ.
وكانت السُّلطات القطرية سجنت في شهر نوفمبر من العام الماضي الشاعر "محمد بن الذيب العجمي" و لم تسمح له بأى زيارة عائلية و حكمت عليه الإسبوع الماضي بالسجن المؤبد لا لشىء سوى كتابته أبيات شعرٍ بالعاميَّة الخليجية (شعر نبطي) تمِّجد ثورات الربيع العربي وتنتقد الحُكم المطلق في الدول العربيَّة.
لم تكلف القناة التي تدَّعي مُناصرة الشعوب نفسها بتناول قضيَّة الشاعر السجين في ذات الوقت الذي لا تخلو فيه كل نشرات أخبارها من الحديث عن إنتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وعرض صور ذلك في "درعا" و " دير الزور" و "ريف إدلب", وهو الأمر الذي يضع إحترافيتها المهنيَّة التي تتباهى بها في المحك.
غنىٌ عن القول أنَّ القائمين على أمر قناة الجزيرة يعلمون أنَّ عصر إحتكار المعلومة قد ولى إلى غير رجعة, فقد جعلت فضاءات العالم المفتوحة الأخبار مُتاحة لرعاة الإبل في الصحارى, و قاطني الكهوف في الجبال, وأنَّ تجاهل القناة لمثل هذا الخبر لن يفعل شيئاً سوى ضرب مصداقيتها في الصميم.
الشاعر القطري السجين لم يلبس حزاماً ناسفاً, ولم يُلق قنبلة يدوية في وجه أحد, ولكنهُ كتب أبياتاً من الشعر مساندة للثورات, ومُتحسرة على أوضاع بعض الدول العربيَّة ومن تلك الأبيات :
أجِّج الثورة بـدم الشعـب ياثائرهـا
وانحت انقاذ الشعوب لكل نفسن حيّـة
قلهم في قول من كفنـه يشلّـه كفـه
كل نصرن تستبقه أحـداث مأساويـة
آه عقبال البلاد اللي جهـل حاكمهـا
يحسب أنَّ العزّ بالقـوات الامريكيـة
وآه عقبال البلاد اللي شعَبْهـا جايـع
والحكومه تفتخر في طفـرة الماليـة
وآه عقبال البلاد اللي تنـام مواطـن
معك جنسيه وتصبح مامعـك جنسيـة
وآه عقبال النظام القمعـي المتـوارث.
قناةَ الجزيرة لم تكن وحدها التي إختارت الصمت غير الجميل عن مأساة الشاعر القطري, ولكن الشيخ "يوسف القرضاوي" عرَّاب الآيديولجيا التي حملت الجزيرة على عاتقها بث رسالتها للعالم أجمع إختار كذلك السكوت وهو الداعية الذي سبق لهُ أن تغزَّل في إرادة التحرُّر لدى الشعوب, و سالت دموعه وهو يرى إنتصار الثورة المصريِّة, وبلغ به التعاطف مع الثوَّار الليبيين مبلغاً جعلهُ يُصدر فتوى هوائية ( على الهواء مباشرة) بقتل القذافي, فما الذي حملَ هذا الشيخ الثمانيني على الصمت عن الظلم والإضطهاد في بلده الثاني ؟
إنها أزمة تيار الإسلام السياسي عموماً, وخصوصاً النسخة "الإخوانيِّة", وهى أزمة نابعة من طبيعة الفكر الرِّسالي المُغلق الذي يحتكرُ الحقيقة المُطلقة, ولا يأبهُ بالآخر المختِلف. هذا التيار لا يكترثُ للإزدواجيَّة والتناقض الذي يعتري أفكاره ومنطلقاته ومواقفه ويُشوِّه منظومة القيم والأخلاق التي يدِّعي إنطلاقهُ منها.
غاية أصحاب هذا التيار هى الوصول للسُّلطة بأىِّ ثمن و كيفية, هُم مثل الهاتف الجوَّال الذي يملك خاصيَّة العمل بشريحتين مُختلفتين : ديموقراطيون في البلاد التي يستطيعون فيها الوصول لكرسي الحُكم عبر صندوق الإقتراع, و إنقلابيون في البلاد التي يعجزون فيها عن المنافسة الديموقراطية.
أمثلة التناقض في المواقف الأخلاقية المبدئية تجاه قضايا الحُريَّة و كرامة الشعوب لدى تيار الإسلام السياسي كثيرة, و منها – للمفارقة - موقف حركة "حماس" الفلسطينية, وهى حركة تناضل وتقاتل من أجل تحرُّر شعبها في قضيته العادلة, ولكنها لا تظهر "حماساً" كافياً تجاه قضية التحرُّر لدى الشعوب الأخرى.
قال "خالد مشعل" رئيس المكتب السياسي للحركة في برنامج "في العمق" بقناة الجزيرة في إطار حديثه عن علاقة الحركة بالقيادة البعثية السوريَّة : ( قبل الأزمة نصحناهم إستباقاً أن يقوموا بخطوات إستيعاب لأن تطلعات الشعوب حق والسياسة الداخلية مُهمَّة كما السياسة الخارجية ولا تعارض بين أن تكون بسياسة خارجية جيدة وتدعم المقاومة ولا تخضع للضغوط الخارجية وبين أن يكون هناك ديمقراطية وإصلاح ومحاربة للفساد والاستبداد وأن تعيش الشعوب بكرامة. نحن مع الشعوب نحن مع القيم والمبادئ ). إنتهى
هذا الرَّجُل – خالد مشعل – الذي يتغنى بالحُريَّة و يقول أنه يُساندُ كرامة الشعوب وتطلعاتها, والقيم والمبادىء, لم يفتح الله عليهِ بكلمة واحدة في حق الشعب السوداني المسكين الذي ظلَّ يرزحُ تحت حكم "إخوانه" لأكثر من عقدين من الزمان حُكماً أحادياً لا يسمحُ بالديموقراطية الحقيقية والتداول السَّلمي للسُّلطة.
جناية الشاعر السجين تتمثل في تذكيره للحكام العرب أنَّ كرسي الحُكم لا يدوم, وأنَّ الأوطان ليست حكراً عليهم وعلى أبناءهم, وأنَّ الشعب هو صاحب الكلمة العليا :
لا متى وانتم عبيـد النزعـة الذاتيـة
ولا متى والشعب مايدري بقيمة نفس
هذا ينصـب ذا وراءه كلهـا منسـيـة
ليه مايختار حاكم بالبلـد يحكـم لـهيت
خلص من نظام السُّلطـة الجبريـة
علم اللي مرضيٍ نفسه ومزعل شعبـه
بكره يجلّس بدالـه واحـد بكرسيـه
لا يحَسْب ان الوطن بسمه وبسم عياله
الوطن للشعب وامجاد الوطن شعبيـة
ولا ينسى الشاعر في قصيدته أن يطرح في وجه الحٌّكام و الحكومات العربيَّة السؤال المؤرِّق الذي يدور بذهن كل مواطن بسيط وهو : لماذا تستلفون من الغرب كل شىء سوى القيم المصاحبة لأنظمة الحُكم التي ترعى كرامة الإنسان وحقوقه ؟
كلنا تونس بوجه النخبة القمعية
الحكومات العربيـة ومـن يحكمهـا
كلهـم بـلا إستثنـاء حراميـة
السؤال اللي يؤرّق فكـرة المتسائـل
لن يجد اجابته من كم جهـة رسميـة
دامها تستورد من الغرب كل أشيـاءه
ليه ماتستورد القانـون والحريـة..؟؟
الشاعر السجين يُحسن الظنَّ بقناة الجزيرة, ويعتبر أنها قناة رائدة وتعبِّر عن إنفتاح المُجتمع القطري, وعندما سئل عن حبسه قال : " هذا خطأ, لا يمكن أن تكون لدينا قناة الجزيرة في البلاد, ويضعونني في السجن لأنني شاعر". فهل نطمحُ أن تستفز كلماته القائمين على أمر القناة حتى يلتفتوا لقضية الحُرية في البلد التي ينطلق منها بثهم للعالم ؟ و هل نأملُ في أن يُفاجئنا الشيخ القرضاوي في إطلالتهِ الإسبوعيَّة ويقول كلاماً ينصف الشاعر في محنته ؟