boulkea@yahoo.com
(لا نريدُ أن ندفن رؤوسنا في الرِّمال, إثنان من أشقائي, وصديقي, مُصابون بالسَّرطان والآن يتلقون العلاج).
هذا الحديث مأخوذ من شهادةٍ في غايةِ الخطورة حول موضوع السِّلع الإستهلاكيَّة الفاسدة أدلى بها السيِّد وزير رئاسة مجلس الوزراء أحمد سعد عُمر الأسبوع الماضى أمام نوَّاب المجلس الوطني.
قال الوزير إنَّ السودان (أصبح مركزاً لنفايات بعض الدول وهنالك دول ترسل لنا نفاياتها ، مما يُعرِّض صحة المواطن لأمراض خطيرة ). واشتكى الوزير من ضعف إمكانيات هيئة المواصفات وضعف معاملها ومُختبراتها. وأضاف أنَّ هناك سلعاً فاسدة و مُلوثة تدخل البلاد بكمياتٍ كبيرة خارج لائحة الشراء والتعاقد وعن طريق (صُحبة راكب وفي أمتعة شخصية وكسلع مُعفاة من الضرائب وسلع تدخلها جمعياتٍ طوعية ).
وشدَّد الوزير على ضرورة سنَّ تشريعات وعقوبات رادعة للمُخالفين, و مُعالجة مكامن الخلل والقصور وتعزيز دور هيئة المواصفات وإزالة التقاطعات وتفعيل نظم مُراقبة الأسواق بجانب تفعيل العمل الإعلامي لتبصير المواطنين. وفي ذات الجلسة كشف عضو المجلس الوطني "محمد مصطفي الضَّو" عن إنتشار الأغذية الفاسدة بالأسواق الطرفيَّة وتداوُلها بين المواطنين بأسعار مُخفضَّة ودعا لضرورة وضع اجراءات عاجلة جداً للحدِّ من تلك المُنتجات,وشكك في مقدرة الأجهزة الرِّقابية على القيام بدورها.
لم تعُد مثل هذه الأحاديث – رغم الخطورة الكبيرة التي تنطوي عليها – تحرِّك ساكناً , أو تثيرُ دهشة أحد, ذلك أنها أصبحت تتكرَّر منذ سنوات دون أن تُحدث أثراً في أوساط الناس – حاكمين أومحكومين – وهنا يكمُن جذرالأزمة. ففي الدول المُحترمة تؤدي مثل هذه التصريحات الخطيرة لمُساءلات, وتحقيقات, وإقالات, ومُحاكمات, وتظاهرات ومسيرات, وقد تطيحُ بحكومات مُنتخبة.
فما هو إذاً المدخل الصحيح للتحليل والنظر في هذه المُشكلة ؟
لا شكَّ عندي أنَّ المدخل السليم لتناول هذه المُشكلة وجميع مشاكل السودان لن يكون سوى النظر في "طبيعة الحُكم", وأعني الإستبداد الذي هو عند شيخنا الكواكبي " أصلٌ لكلِّ فساد ", ذلك أنهُ – أي الإستبداد, لقاحُ الخصب الأمثل لبويضة الفساد, "فالسُّلطة مفسدة, والسُّلطة المُطلقة مفسدةٌ مُطلقة" أو كما قال اللورد أكتون.
يتحوَّل الفساد في الدُّول التي يحكمها الإستبداد إلى "مؤسسة", وتتحوَّل الدولة إلى "كفيل" له, ترعاهُ حتى يشبَّ ويترعرع ويُصبح قادراً على خلق منظومتهِ الخاصة من الآليات والقيم التي تضمن إستمراره.
أبرزالعلامات والدلائل على إنتشار و تغلغل مؤسسة الفساد في المجتمع تتمثل في "قبول" الناس وتبريرهم لجميع أنواعهِ, وعدم شجبهم لهُ أوالإعتراض عليهِ, وإفساح المجال لهُ, والتعايش معهُ بحيث يُصبح ظاهرة طبيعية – وليس مدعاة للإستنكار – يتعاطى معها المواطن يومياً دون أن يشعر بوخز الضمير والندم .
إنتشارُ قيم الفسَّاد يضِربُ الدولة و المُجتمع في الصميم . ينخرُ في عِظام ال"سوشيال كابيتال" الذي عمادهُ "الإنسان" , وركيزته ُالقيم الإيجابية, وسقفهُ الأخلاق, وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهم فأقِم عليهم مأتماً وعويلاً.
في ظلِّ سيطرة الإستبداد تزدهرُ لدى كافة الناس نزعاتُ الأنانيَّة والفردِّية والجشع, وتنفتحُ جميع نوافذ وأبواب الثراء في وجهِ الإنتهازيين الذين يُحرِّكهم هدفٌ أوحد : المال, ولو تحقق عَبْرَ تجارة "الموت".
وكذلك يؤدي الفسَّاد الذي يرعاهُ الإستبداد إلى غياب المهنيَّة في العمل. ويستخفُّ الناسُ بالقوانين ويتحايلون عليها, ويتلاشى الدور المُهم المنوط بأجهزة الرِّقابة بسبب فساد الذِّمم, والتفريط في معايير الكفاءة والسمعة الحسنة, ولأنَّ الإختيار لتلك الأجهزة ينحصِرُ فقط في "المُوالين" للإستبداد ومن لفَّ لفهم.
يصبحُ المُوظف العُمومي في ظلِّ الإستبداد فريسة سهلة "للرشوة", وتغيبُ المُحاسبة والمساءلة, و تضحى المصلحة الشخصيَّة الضيِّقة هى الهدف الغائي لكلِّ إنسان, حيث يغيبُ الشعورُ بالتعاونِ والمسؤليةِ الجماعية.
يعيشُ المواطنُ البسيط مُنزوياً , تلاحقهُ همومُ الحياة وأعبائها, و يتسِّمُ سلوكهِ وتصرُّفاتهِ "باللامبالاة" التي يُغذيها شعوره بأنهُ ما عاد مُواطناً له من الحقوق مثل ما عليهِ من الواجبات, بل أصبح ضيفاً طارئاً على أصحاب النفوذ والسُّلطة في وطنهِ.
تفشي الفساد يؤدي إلى إصابة مُكونات المُجتمع – حُكومة وشعباً- بحالةٍ أشبه "بالموت الدِّماغي" الذي لا يملكُ صاحبهِ من أسباب الحياة سوى نبضات القلب, ولا يؤمَّلُ في شفائهِ إلا بوقوع "مُعجزة". وهذا ما يُفسِّر – على سبيل المثال- ردود الأفعال على ظاهرة إنتشار السِّلع الفاسدة.
فالرأي العام والصحافة والمسؤلين الحُكوميين ظلوا يتحدثون منذ سنوات عديدة عن قضايا التقاوى الفاسدة, والمُبيدات الفاسدة, والدواء الفاسد, والأطعمة الفاسدة, ولكن حديثهم هذا كان على الدوام يتبخَّر في الهواء ولا يترُك أثراً ملموساً على الأرض. و في نفس الوقت تستمرُّ هذه السِّلع الفاسدة في حصد أرواح آلاف المواطنين عبر الإنتشار غير المسبوق لأمراضٍ قاتلة مثل السَّرطان, والفشل الكلوي, والتهاب الكبد الفيروسي, وغيرها.
ليست المشكلة إذاً مُشكلة ضعف في "الإمكانيات" الماديَّة, أو نقصٍ في قدرات معامل هيئة المُواصفات والمقاييس كما يقول الوزير أحمد سعد عمر, فعندما كان المُجتمعُ في الماضي مُحصَّناً ضدَّ أدواء "مؤسسة" الفسَّاد وقيمها , كانت البلاد مُعافاة رغم قلة الإمكانيات وشح الموارد. هذه المُشكلة, وغيرها من مشاكل السودان ليست سوى أعراض لمرضٍ فتاكٍ وحيد : مُتلازمة "الإستبداد/الفساد".
إنَّ دعوة الوزير لسنِّ "تشريعاتٍ وعُقوباتٍ رادعةٍ" على المُتاجرين في السِّلع الفاسدة ستذهب أدراج الرِّياح, مثلما ذهبت دعواتٍ سابقة, و إذا أظهر الوزير جديَّة وعزماً على المُضي في طريق علاج بعض جوانب المُشكلة مدفوعاً بتعاطفهِ مع أخويهِ وصديقهِ الذين أصابهم السَّرطان فإنهُ حتماً سيدخلُ في "جُحُور الأفاعي" التي ستكون كلفة لدغتها مُغادرتهِ "للكرسي" العزيز على نفوس الكثيرين, وهو أمرٌ عسيرٌ في زماننا هذا, و بالتالي فإنهُ سيستسلمُ للأمر الواقع وسيكتفي في أفضل الأحوال بإبراء ذمَّته مثلما فعل السيِّد الفاتح عزالدين رئيس لجنة العمل والإدارة بالمجلس الوطني, والذي قال في حديثهِ في ذات الجلسة حول إمتلاء الأسواق بالسلع الفاسدة أنهُ ( برَّأ نفسهُ بإبراز كل المشاكل في هذه القضيَّة عبر تحرُّكات داخلية وخارجيَّة ).
صحيحٌ أنَّ السِّلع الفاسدة تضرُّ بعُموم المواطنين, ولكن صحيحٌ أيضاً أنَّ ضررها الأكبر يقعُ على الفئات الضعيفة رقيقة الحال التي لا تملك أن تختار ما تأكلهُ وتشربهُ فتضحى فريسة لتلك السِّلع التي - كما قال نائب المجلس الوطني محمد مصطفى الضَّو - يكثرُ إنتشارُها في الأسواق الطرفيَّة حيث يقطنُ فقراء المدن.
أمَّا المُتنفذين من أعوان الإستبداد الأثرياء فيختارون ما يأكلون, بل إنَّ بعضهم يجلبُ طعامهِ من خارج البلد. وعندما يُصابُ الفقراءُ بالأمراض الفتاكة لا يكون أمامهم خيارٌ سوى العلاج بالمستشفياتِ العامَّة – إن وُجدت - بكل ما فيها من مآسي ومُعاناة تفوق آلام وأوجاع المرض نفسهُ, بينما يُسافرُ الأثرياء من أصحاب النفوذ و الإمكانياتِ لتلقي العلاج بالخارج.
تزايدت مُعدلات الوفيَّات في البلد بصورة تدعُو للإستغراب, بل الذهول, ونحن هُنا لا نعترضُ على الجانب الغيبي المُتعلق بإرادة المولى عزَّ وجل –حاشا لله – ولكننا فقط نُشيرُ للجانبِ المُرتبِط "بالأسباب", ففي الماضي كان الناسُ يؤرِّخون للأحداثِ بالوفيَّات, فيقولون لك إنَّ هذا الأمر قد وقع في عام وفاة "فلان", أمَّا اليوم فقد أصبح المُواطنُ يترَّدد على المقابر عدِّة مرَّات خلال الإسبوع الواحد دعك من السنة. أصبحَ الموتُ ظاهرة "إعتياديَّة" يُعلق عليها الناس بالقول : "والله المرحوم إرتاح من الشقا والتعب". فتأمَّل !!
شبَّه حكيم الشعراء "زهير بن أبي سلمى" أخطار الحرب وشرورها التي لا تنقطع و الآثار التي تتوَّلد عنها بالناقة الشؤم التي تحمل كل عام ولا تلد ما ينفع. كما أنَّ الأجيال التي تولد في جوِّ الحرب تكون غير سويّة فهي لا تجلب خيراً لأنها تعودت على القتل والثأر, ويكون هؤلاء الأبناء مثل الرجل الذي عقر ناقة ثمود فجلب العقاب على الجماعة كلها.
فتُنــتج لكـم غلـمانَ أشأمَ كلُّـهم كأحمرِ عادٍ ثم تُرضعْ فتَفطِمِ
تشبيهُ زهير الحكيم للحرب يجوزُ كذلك على "الإستبداد" الذي يفوقُ خطرهُ كلَّ خطر, وتنتج عنهُ كل الأدواء والآفات التي تُصاب بها الدولة ويُعاني منها الناس. الإستبداد عقابٌ جماعيٌ لا يستثني حتى المتكسّبين منه.
المدخل الوحيد لحل جميع مشاكل السودان بما فيها مُشكلة "السِّلع الفاسدة" يكمُنُ في مُفارقة الإستبداد فكراً ومنهجاً واسلوب حكم, وعودة النظام الديموقراطي "الحقيقي" الذي يضمنُ إحترام الدستور, و إشاعة الحُريَّات, والإنتخابات النزيهة, والتداول السِّلمي للسُّلطة, وفصل السُّلطات, ودون ذلك سنظل ندور في هذه الحلقة المُفرغة التي لن نجني من وراءها شيئاً سوى المزيد من الإنحلال والتمزق والتراجُع.