كتاب جعفر نميري لوحة لرئيس سوداني (4 من 8)
محمد الشيخ حسين
22 January, 2013
22 January, 2013
وثائق أمريكية
هواة التفسير التآمري للتاريخ قد تثيرهم الإشارة إلى أن تقرير وكالة المخابرات الأمريكية عن الضابط جعفر محمد نميري حين ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنيل درجة الماجستير في العلوم العسكرية، أفاد (إذا قدر وقوع انقلاب عسكري في السودان يستمر لفترة طويلة على طريقة عبد الناصر، سيقوده هذا الضابط). وردت هذه الإفادة في هامش في كتاب الأستاذ الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد (السودان المأزق التاريخي آفاق المستقبل). ولم يقدم المؤلف أي شرح عن الإشارة أو مصدرها.
وفي رحلة البحث لإعداد هذا الملف، أبدى كثير من المعاصرين لنميري دهشتهم للعبارة، بل أن بعضهم شكك فيها. والشيء بالشيء يذكر، فقد ورد في تقرير سري صدر بتاريخ ا نوفمبر 1964م، رشح بموجبه نميري لبعثة الأركان حرب في أمريكا، في الجانب المتعلق بقدراته على الكتابة باللغة الإنجليزية، أفاد التقرير أن كتابته مرضية، لكنه يحتاج إلى تأهيل لكي يتحدث بطلاقة. وفي النقاش أفاد التقرير أن مستوى نميري فوق الوسط، لكنه متحدث لبق ويحرص على تقديم أفكار جديدة في نقاشه.
وعموما وصف التقرير نميري بـ (ضابط متميز وصاحب كفاءة ومعرفة ممتازة بالنظم العسكرية، وقائد فذ ويمكن أن يقود بكفاءة أي مجموعة من الضابط).
وانتهى التقرير إلى التوصية بابتعاثه إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
في صعيد متصل، تكشف وثائق وزارة الخارجية الأمريكية عن السودان التي استعرض فصولها الصحفي السوداني المقيم في واشنطن محمد علي صالح، عن جوانب جديدة في شخصية نميري.
وفي أواخر سنة 1972 كتب كيرتس مور، القائم بالاعمال الأمريكي في الخرطوم، تقريرا شخصيا عن نميري. وكان هذا آخر تقرير سنوي يكتبه مور، لأنه بعد أربع سنوات من العمل في السودان ومع بداية السنة التالية (1973) اغتيل في السفارة السعودية في الخرطوم مع كليو نويل، السفير الأمريكي، بواسطة جماعة تابعة لمنظمة أيلول الأسود الفلسطينية.
حمل موضوع التقرير عنوان ملاحظاتي عن نميري، وجاء فيه: لثلاث سنوات ونصف السنة، ظللت أراقب الرئيس جعفر نميري وهو يحكم السودان، مراقبة من بعد، ومراقبة مباشرة. خلال هذه السنة فقط، قابلت نميري 16 مرة، بعضها مع زوار أمريكيين وبعضها نحن الاثنين فقط. ومع اقتراب نهاية السنة، أرسل هذا التقرير والخص فيه انطباعاتي عن نميري في النقاط التالية:
* في أعماقه، يظل نميري عسكريا. ويظهر هذا في تفضيله للمناقشات العسكرية ومقابلة العسكريين والتعامل معهم. يظل قائدا ميدانيا، يفضل عدم التقيد بالبروتوكولات والرسميات. لاحظت أنه مع الحرص على المحافظة على لوازم منصبه الرسمي، يميل نحو علاقات غير رسمية وودية مع مساعديه ومستشاريه، والذين طبعا يعاملونه في احترام يناسب مكانته. كما أن هؤلاء، وخاصة صغار الضباط، يحبونه لأنه نميري الإنسان.
* لاحظت أن نميري يجيد العمل أكثر من التفكير. يجيد إصدار الأوامر، والقاء الخطب والتجول في المدن والقرى، وتقديم الوعود للمواطنين. حتى بدون خطاب مكتوب وبكلام شفهي، صار يجيد مخاطبة المواطنين، وكسب حبهم وتأييدهم. وصار يقدر على إقناع كثير منهم بأنه واحد منهم. وانه يمثل ما يريدونه في قائدهم، سواء في مظهره العسكري أو في قدرته على القيادة.
* يقدر نميري على كسب الناس أكثر عندما يتحدث إليهم بدون خطابات مكتوبة.
وفي الحقيقة، تبدو هذه الخطابات المكتوبة مملة، في محتواها وفي طريقة إلقائها. لكن، في الجانب الآخر، تعلم نميري أن الخطابات المكتوبة تحميه من الوقوع في أخطاء تسبب مشاكل داخلية وخارجية. مرة سمعته ينتقد الرئيس الليبي معمر القذافي، لأنه يتكلم بدون الاعتماد على خطابات مكتوبة. وقال له إنه يسبب لنفسه مشاكل، لأن وكالات الأخبار والحكومات تتابع ما يقول، لكن من المفارقات أن نميري نفسه لا يفعل ما ينصح به.
* لاحظت أن نميري تعود على الحكم، وتغلب على الخوف والتردد، وصار يحكم بطريقة عادية بدون توتر. صار يصدر الأوامر يمينا وشمالا، وأحيانا في عفوية، وكأنه حقيقة، قائد ميداني. صار يرى أن قدره (من الله) هو أن يحكم السودان. ولم يعد نميري يشك في موضوعين: أولا شرعيته. وثانيا قدرته، لكن يقول ناقدوه إنه يصدر أوامر ولا يتابع تنفيذها. وإن هذا يدل على جهله بعلم الحكم، وهو علم معقد. نرى نحن أن الناقدين محقون هنا. لكننا نلاحظ الآتي عن نميري: أولا يتعلم الحكم بينما يمارسه. ثانيا يعرف أنه لا يملك كل المؤهلات.
* نقول نحن إن هناك فرقا بين أن يعرف وأن يعترف. وهو لم يعترف لشعبه ولم يعترف لي بنقص قدراته. لكنه أكثر من مرة، طلب مني معلومات وكتب تساعده في فهم الحكم، وخاصة المواضيع الاقتصادية .
* يتمتع نميري بثقة كبيرة في نفسه، ويوزع كثيرا من مسئولياته على وزراء ومستشارين يثق فيهم. لكن نميري يغير رأيه أحيانا، بدون إبلاغ هؤلاء مسبقا أو استشارتهم مسبقا، مثل قراره مؤخرا بإلغاء ضريبة الدفاع بدون استشارة وزارة الخزانة.
* يحافظ كبار الوزراء والمستشارين على اتصالات شخصية من وقت لآخر مع نميري. ومن بين هؤلاء: منصور خالد وزير الخارجية، وإبراهيم منعم منصور وزير المالية، لكنهما لا ينتقدانه إلا في مواضيع هامة جدا.
* بالنسبة لنا، نحن الأمريكيين، يرتاح لنا نميري كثيرا، ويبدو أنه، حقيقة يثق فينا. يبدو أن الوقت الذي قضاه في الولايات المتحدة، خاصة في قاعدة ليفينويرث العسكرية (في ولاية كنساس) أثر عليه كثيرا. لم نلتق أبدا بدون أن يتذكر أشياء من تجربته هناك. مثل فيلم عن التدريبات العسكرية طلب منه نسخة لتدريب جنوده. ومثل تنظيم هياكل عسكرية يريد أن يطبقها على القوات المسلحة السودانية.
* صار واضحا أن نميري، منذ الانقلاب الشيوعي الفاشل في السنة الماضية، وقراره بالتحول نحو الغرب، لا يرى أمامه خيارا سوى الاعتماد علينا، خاصة في مجال المساعدات. لكن يوجد اختلاف بين تودد نميري الشخصي العميق نحو الشعب الأمريكي وبين المواضيع السياسية. مثلا: في السنة قبل الماضية، دعا أمريكيين من ولاية كنساس (منهم عائلة كان يسكن معها لفترة من الزمن) لزيارة السودان. كانت المناسبة هي الذكرى الأولى للانقلاب العسكري الذي جاء به إلى حكم السودان. وكان يعادي الولايات المتحدة عداءً قويا.
* شعرت باختلاف في معاملاتي مع نميري، بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية حكمه. كنت أقابله لأنفي عن الولايات المتحدة اتهاماته بمؤامرات ضده. الآن أقابله لأقدم له مساعدات. وصارت مقابلاتنا ودية جدا. أحيانا يعد بتنفيذ أشياء نطلبها منه، لكنه لا يتابع الموضوع. وأحيانا قبل أن أغادر أنا مكتبه يتصل تلفونيا بالوزير المسئول.
* عمر نميري 42 سنة متزوج لكن بدون أطفال. أحيانا، تظهر زوجته علنا، وعادة تكون ضيفة رمزية في مناسبات تحضرها زوجات مسئولين أجانب زائرين.
لكنها في مثل هذه المناسبات تتحدث قليلا.
* يفهم نميري اللغة الإنجليزية فهما جيدا، وفي اللقاءات الخاصة، يقدر على الحديث بها في شبه طلاقة، لكنه يخلطها بكلمات عربية.
* يقال إنه يشرب الخمر من وقت لآخر، لكنه لا يسرف في ذلك. والآن يحاول تقليل تدخين السجاير. في بداية السنة، كان قد توقف عن التدخين، لكنه عاد إليه بسبب مشاكل داخل مجلس الوزراء.
نميري ووزراؤه
الحديث عن قوة نميري وقدراته يقودنا إلى البحث عن طريقة تعامله مع وزرائه، هل صحيح أنه كان فظا في تعامله لدرجة أنه في بعض الأحيان يصل إلى حد الاعتداء عليهم بالضرب؟ يعتبر الدكتور إسماعيل أن هذه فرية كبرى، فـ (النميري على المستوى الشخصي ليس فظا ولا يحتد ربما يحتد في بعض الاجتماعات عندما يطول النقاش). وأذكر أن أحد الوزراء بعد تطبيق الحكم الاتحادي كان يعترض دائما على كل شيء بحجة أنه ضد الحكم الاتحادي وقمت بالرد عليه مصححا من كون أن الحكم الاتحادي أصبح هاجسا. ورد على نميري بنعم سيكون هاجسا و(بعبعا).
ويتابع د. إسماعيل: أذكر أيضا في أحد اجتماعات المكتب السياسي دار حديث عن تفريغ العاصمة الخرطوم من النازحين. وعلق أحد الأعضاء بأن التفريغ ضد الدستور، ولكن نميري رد عليه (ضد الدستور شنو والله أنا زمان في ودنوباوي كنت أمنع أي زول يجئ حايم بعد الساعة الثانية عشرة ليلا).
ويخلص د. إسماعيل إلى القول (على المستوى الشخصي جعفر نميري رجل مهذب جدا وكنت عندما أرافق الصحفيين لزيارته في منزله كان يقوم بنفسه يغسل أيدي ضيوفه قبل تناول الوجبة وأحيانا كان يرافق ضيوفه ليلا في جولة طواف في العاصمة الخرطوم قائدا السيارة بنفسه غير آبه بما يسببه هذا الأمر من إرباك لرجال المراسم والأمن).
ورغم أن قصص عزل نميري للوزراء فجأة عبر نشرة اخبار الثالثة ظهرا في الإذاعة السودانية بصورة درامية تملأ مجالس الخرطوم، إلا نميري في أكثر من لقاء صحفي نفى هذه القصص جملة وتفصيلا، مؤكدا أنه يتخذ كل القرارات حسب الدستور والقانون.
انقطعت العلاقة بين نميري والفريق عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية ومدير جهاز الأمن القومي منذ إعفاء عبد الوهاب في 1979، ولم يلتقيا إلا في القاهرة في العام 1988، حين زار نميري عبد الوهاب في المستشفى بعد عملية جراحية ويبدو من تفاصيل الزيارة حسب رواية عبد الوهاب أن المودة والاحترام كانت طابع العلاقة بين الرجلين، والشاهد أن نميري حلف بالطلاق لعبد لوهاب لتأكيد أنه لا يملك 80 جنيها مصريا لإهدائه لبسة شبيهة بتلك التي كان يرتديها نميري عند الزيارة وكان عبد الوهاب قد اعجابه بها.
وهذه شهادة جديدة تقدمها البروفيسور فاطمة عبد المحمود وزيرة الرعاية الاجتماعية في عهد مايو، تفيد أن نميري كان أكثر ما يكرهه استغلال الوزير لسلطاته ومحاولته التميز عن الشعب. وتكشف في حوار صحفي عن تجربتها في حقبة مايو، أن نميري أعفى وزيرا من حقيبته، بسبب تفاح قدِّم ضمن وجبة في خطوبة ابنته وكان نميري حاضرا فأقاله فوراً في اليوم التالي. ونفت بشدة أن يكون نميري قد عنَّف وزيرا لدرجة الاعتداء، إلا أنها أكدت أن نميري رفض في إحدى المرات الدخول لمنزله بسبب تغيير عفشه.
والنموذج الأخير لطريقة تعامل نميري مع وزرائه يقدمه الأستاذ بدر الدين سليمان الذي شغل عدة حقائب وزارية في عهد مايو. يقول الأستاذ بدر الدين:
بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 12 أكتوبر 1975، حضرت لمكتب الرئيس نميري في القصر الجمهوري قبيل التوقيع على اتفاقية التنقيب عن البترول مع شركة شيفرون الأمريكية، لأخذ موافقته وتفويضي بالتوقيع، لكن نميري أبلغني عن عدم ارتياحه لعبارة (اقتسام الإنتاج) الواردة في الاتفاقية، وقال إنه يخشى من أن كلمة اقتسام تفيد تساوي الأنصبة بين المتقاسمين. وهذه الاتفاقية على غير ذلك، فنصيب السودان فيها أكبر كثيرا من نصيب الشركاء الآخرين.
كيف تم حل هذا الخلاف؟
يجيب الأستاذ بدر الدين: كان الأستاذ فيصل محمد عبد الرحمن وزير الدولة برئاسة الجمهورية آنذاك حاضرا هذا الحديث، فطلب منه الرئيس نميري الاتصال بالبروفيسور عبد الله الطيب والاستفهام عن الكلمة المناسبة للدلالة على أنصبة غير متساوية للشركاء. وجاءنا الأستاذ فيصل محمد عبد الرحمن متهللا بعد برهة من الزمان، ونقل لنا أن البروفيسور عبد الله الطيب لا يرى في كلمة اقتسام معنى الأنصبة المتساوية بين المتقاسمين، ولكنه يفضل الأخذ بكلمة (القسمة) فهي الأبلغ في الدلالة على الأنصبة غير المتساوية. وذكرنا البروفيسور عبد الله الطيب بالآية الكريمة (وإذا حضر القسمة أولى القربى واليتامى والمساكين فأرزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) (ٍالأية رقم 8 من سورة النساء). وكان الشاهد أن القسمة في الآية الكريمة تشير إلى قسمة الميراث بين الوارثين وأنصبتهم فيه غير متساوية شرعا.
mohed hussein [abusamira85@gmail.com]