كتاب جعفر نميري لوحة لرئيس سوداني 5-7
طفل همشكوريب
كان الطفل محمد أحمد عيسى في التاسعة من عمره على موعد مع القدر حين زار نميري همشكوريب في خواتيم العام 1969م. وفي تلك الأثناء كانت تهمة الشيوعية تصبغ كل مشاريع وخطط ثورة مايو. وتناقل الناس في كسلا وغيرها من مدن الشرق المزمع أن يزورها نميري أن (الشيوعيين مسكوا البلد). وخلافا للرأي الذي كان ينادي بعدم إظهار الاحتفاء بنميري، رأي الشيخ على بيتاي أن يستقبل نميري في إحدى خلاويه، وبالفعل أرسل له الدعوة.
وأثارت هذه الدعوة دهشة واستغراب الجميع، وملأت الأسئلة التي تبحث عن إجابات أذهان الجميع، كيف للشيخ علي بيتاي بكل ما عرف عنه من علم وتقوى أن يستقبل قائد انقلاب شيوعي؟ لكن الشيخ علي بيتاي قرأ بفراسته وكشفه المعهود خريطة الأشياء أو الواقع قراءة صحيحة، وأجاب عن أسئلة الجميع قائلا (إن نميري ما دام سوداني نحن لا نعارض وكمواطنين نستفيد منه). وأردف (نميري في تقديري (رجل وقت) يتحقق منه من الخير ما سيكون دعامة للتوجه الإسلامي في السودان، وأنه سيحكم بالشريعة).
وجدت دعوة الشيخ علي بيتاي لنميري قبولا عند الجميع الذين سرعان ما هبوا لإعداد مكان الاستقبال في منطقة مكلي في أحد تفاتيش نهر القاش.
واستعد الجميع لاستقبال الضيف الكبير، وفي مكان الاحتفال استقبل الشيخ بيتاي وحيرانه نميري استقبالا حافلا. وكان الحيران يمسكون التهليل رافعين ألواحهم وكان أصغر الحفظة سنا بطل هذه القصة الدكتور محمد أحمد عيسى الأستاذ بجامعة أمدرمان الإسلامية، فقدم لافتتاح الحفل فقرأ لوحا من سورة
الأعراف: (وإلى عادٍ أخاهم هودا .. قال ياقوم أعبدوا الله مالكم من إلهٍ غيره أفلا تتقون). وعاد بعد التلاوة إلى رفاقه الحيران.
وفي نهاية المهرجان قدم الشيخ على بيتاي هدايا رمزية لنميري تمثلت في:
اللوح، المصحف الكريم، سجادة صلاة، سبحة، أبريق، درقة، وسيف.
وبمجرد أن استلم الهدايا استل نميري السيف وقطع به فرعا من شجرة نيم، وقال (أنا أؤيد الدين والخلاوى وأهل القرآن الكريم).
وعودة لبطل قصتنا محمد أحمد عيسى، فقد حدث بعد شهر من زيارة نميري لهمشكوريب أي في أكتوبر 1969، أخبر الشيخ علي بيتاي والدي بطلنا أن الرئيس جعفر نميري طلب أن يأخذ ابنكم محمد معه ليعلمه. ورحب الوالدان بالطلب، خاصة أن الأمر جاءهما عن طريق الشيخ علي بيتاي.
وأكمل محمد رحلته إلى الخرطوم برفقة الشيخ علي بيتاي، وحينما وصلا إلى منزل نميري كان معه بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة. وطلب منه الشيخ علي بيتاي أن يقيم مع نميري ثم غادر عائدا إلى همشكوريب.
وحينما يعيد الدكتور محمد أحمد عيسى الأستاذ بجامعة أمدرمان الإسلامية شريط تلك اللحظات الآن بعد مضي هذا الزمن الطويل، (لا يبدو له أن الشيخ الداعية علي بيتاي وضعه في يد نميري وغادر راضيا بعد أن أدى رسالته وانتهت مهمته في إيصالها، لأن الأمر أكبر من ظواهر الأشياء التي ندركها نحن العامة بحواسنا المجردة).
وحسب البطاقة الشخصية، فإن محمد أحمد عيسى ولد في همشكوريب في عام 1960م.
وأكمل المرحلة الإبتدائية بهمشكوريب. ومرحلة الثانوي العام بمعهد القرآن الكريم الثانوي في قرية ألتي في شمال الجزيرة. ومرحلة الثانوي العالي بمعهد أمدرمان العلمي. وحصل على البكالوريس من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية. والماجستير بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، ثم الدكتوراه من جامعة أمدرمان الإسلامية.
وكان تخصصه في كل تلك المراحل القراءات.
تزامن وصول محمد إلى منزل نميري في المرة الأولى مع وجود بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة. أخبر نميري رفاقه أن محمد من حفظة القرآن الكريم، وطلب منه أن يقرأ بعض الآيات أمامهم.
وأثارت قراءاته للقرآن الكريم استغراب الحضور، فقد كان أمرا غريبا عليهم أن يقرأ فتى في التاسعة من عمره بهذا التجويد، وكانوا يختبرونه بفتح المصحف والسؤال عن آية من آياته. وكان ينسبها إلى سورتها. وكانوا يتعجبون من دقة حفظ محمد. واقترح الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، على نميري أن يبعث بمحمد إلى الاتحاد السوفيتي لإكمال تعليمه هناك. وراقت الفكرة لنميري، فاستشار الشيخ علي بيتاي، لكن الشيخ فضل لمحمد التعليم الديني.
وتلقى محمد أثناء وجوده في منزل نميري دروسا مكثفة في الوعظ والإرشاد في خلوة كانت في منزل بالخرطوم بحري تحتله الآن عيادة الدكتور الجزولي دفع الله.
سكن محمد في منزل نميري في القيادة العامة منذ قدومه للخرطوم. ولم تسبب له رحلة الانتقال من العيش في همشكوريب إلى الخرطوم وفي منزل رأس الدولة أي فوارق في حياته لبساطة الحياة في منزل الرئيس. وسببت إجراءات الدخول والخروج في القيادة العامة لمحمد شيئا من الإرباك. لكن رعاية السيدة بثينة خليل حرم الرئيس نميري لمحمد خففت كثيرا من هذا الإرباك.
في منزل نميري كان لمحمد غرفة خاصة، وكان يلتقي الرئيس نميري الساعة الثانية بعد الظهر يوميا، وفي الليل كان يرسل له لكي يحضر لقراءة القرآن الكريم.
مكث محمد في منزل نميري منذ حضوره في أكتوبر 1969 حتى 15 يوليو 1971، حين استدعاه نميري وطلب منه قضاء إجازة مع أهله في همشكوريب.
وبعد وصول محمد لهمشكوريب بثلاثة أيام فقط حدث انقلاب هاشم العطا، وظل لمدة 15 يوما في همشكوريب بعد الانقلاب.
وسكن محمد في منزل نميري في ضيافته ورعايته الكاملة إلى أن التحق بمعهد القرآن الكريم بقرية ألتي (شمال الجزيرة)، حيث قضى ثلاث سنوات في المعهد ولم تنقطع زياراته لمنزل وعائلة نميري طيلة هذه السنوات. وكان نميري يصرف على محمد الذي التحق بمعهد أم درمان العلمي.
وفي يوم الانقلاب الذي نفذه المقدم حسن حسين عثمان في سبتمبر 1975م، تناولت وسائل الإعلام أن نميري سيقوم بزيارة لكسلا. فقال محمد لنميري أريد أن أذهب معك إلى كسلا في هذه الرحلة؟ لكن نميري رد على محمد
(بنهرة): أمشي دراستك، أنا ما ماشي كسلا. وحدث يومها الانقلاب وفشل.
كان نميري يأتي إلى غرفة محمد الخاصة في المنزل، ليطمئن على مواظبته القراءة والمذاكرة، والاستماع إلى تلاوته، حيث كان نميري محبا جدا للقرآن الكريم وقراءته وسماعه.
من ذكريات محمد الجميلة أنه في عام 1976م ذهب مع نميري إلى الحج. وبعد العودة من الحج زار نميري همشكوريب وذهب معه محمد. وبعد لقاء نميري بالشيخ على بيتاي والاستقبال الذي قوبل به. خطب نميري في همشكوريب قائلا (همشكوريب قاعدة انطلاقي إلى السماء). وكان الشيخ علي بيتاي قد قدم نميري ليؤم المصلين. وهذا يعني أن نميري رجل لا يشبه غيره.
في رعاية نميري أتيحت لمحمد مقابلة بعض الرؤساء والملوك، فقد قابل الملك الراحل خالد بن عبد العزيز في رحلة الحج مع نميري في عام 1976م.
والتقى الرئيس المصري جمال عبدالناصر في منزل نميري حينما دعاه إلى مائدة طعام. وكان محمد يجلس في ركن قصي من المائدة، وفجأة لمح عبد الناصر ينظر إليه، وهو جالس في (السفرة).
وسأل نميري: الولد دا من فين؟ دا دمه يشبه دم البادية؟ فأجاب نميري: هذا من شرق السودان.
فسأل عبدالناصر: من أين في شرق السودان؟
أجاب نميري: من كسلا.
فسأل عبدالناصر: من أين في كسلا
فقال نميري: من همشكوريب من عند الشيخ علي بيتاي فقال جمال عبدالناصر: لقد شاهدت الشيخ على بيتاي في عهد الفريق إبراهيم عبود الرجل الأعرج الأخضر.
وحين أخبر محمد الشيخ علي بيتاي بحديث عبد الناصر قال الشيخ لمحمد، وهو يتحدث عن ذكاء المصريين وقوة ملاحظتهم: إن فرصة لقائه مع عبدالناصر لم تستغرق أقل من دقيقتين، حيث سلم علينا ونحن وقوف.
حسب معلومات محمد فإن نميري قد وصل في حفظه للقرآن الكريم إلى سورة الكهف.
أما طريقة حفظ نميري، فقد يكرر الآية نحو 15 مرة فترسخ في ذهنه. وكان يحاول معرفة الكلمات ومعانيها في سياق الآية وتفسيرها.
وكان لنميري سور كان يركز عليها ويقرأها كثيرا مثل: الكهف، الملك، الزمر، وغافر. وكان يميل للأخذ من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لأنه كثير المداومة على تلاوة القرآن الكريم أكثر من أي ورد، إلا أنه يقدر ويحترم قيادات الطرق الصوفية ومنهجهم في نشر الإسلام.
واستمرت علاقة محمد بنميري وهو خارج السلطة، حيث زاره في القاهرة ثلاث مرات. وكان نميري كعادته إنسانا فوق العادة. وكان لا يأمل في العودة.
وكان يرد دائما أن هذه الفترة قد انتهت بخيرها وشرها.
يوم نميري
بعد النصف الثاني من السبعينيات كثرت الإشارات إلى صحة الرئيس نميري وتذبذب لياقته البدنية. وبدأت تظهر الترهلات في وسطه وكانت عيناه تدلان أنه يعاني من اضطراب في الكبد. وزاد من تكاثر تلك الإشارات زيارة قام بها نميري إلى ليفربول في انجلترا لمقابلة طبيبه الخاص. وكانت إجابة نميري عن الأسئلة المتعلقة بصحته ونتائج الفحوصات (لا شيء فقط كنت متعبا ومرهقا).
مناسبة هذه المقدمة الالتفات إلى جانب مهم من شخصية نميري، يتمثل في اهتمامه بالرياضة، حيث كانت لعبة كرة القدم من ألوان الرياضة المحببة لنميري.
وفي زيارته للفحوصات الطبية في بريطانيا، انتهز فرصة وجوده وشاهد مباراة لفريق افيرتون الذي لم يكن في المستوى. وكان فريق مانشستر يونايتد قد حقق بعض الانتصارات في ذلك العام وكان سعيدا بذلك.
وإلى جانب هوايته المفضلة لكرة القدم والتي تربطه بها علاقة خاصة، فإن نميري يهوي أيضا رياضات السباحة والسباق والجمباز والتنزه على النيل على ظهر قارب.
ويهوي قيادة السيارة، وعندما يكون نميري بالخرطوم، فإنه يقود سيارته في الصباح الباكر ما بين الساعة الخامسة والسادسة في جولة تفقدية لسوق الخضر متفقدا كميات الفواكة والخضر المعروضة للاستهلاك اليومي. كذلك يقوم في بعض المرات بزيارات مفاجئة وغير معلنة لمبنى أو مرفق حكومي، ويسأل المواطنين عن أحوالهم ومشاكلهم.
ولم يكن لنميري جدول زمني محدد لبرنامجه اليومي، تحركاته مفاجئة ومن غير الممكن معرفتها وهو غالبا يكون في زيارة لإحدى المحافظات. ويستقل في الغالب المروحية متفقدا أحد مشاريع التنمية على الطبيعة.
ولهذا فمن الصعب أن نصف كيف يقضي نميري يومه، ولكن هناك نموذج نشره أنتوني سيلفر في كتابه الصادر باللغة الإنجليزية (السودان تحت قيادة نميري). وهذا النموذج وافق عليه نميري بنفسه يمكن أن يعطي صورة قريبة من الواقع. وسماه سيلفر (يوم في حياة الرئيس جعفر محمد نميري، رئيس جمهورية السودان الديمقراطية).
يقول الرئيس نميري (إنني عادة استيقظ في الساعة الرابعة صباحا. ومن عادتي أن لا أنام طويلا بعض المرات لا أخلد للنوم، بل أظل يومين او ثلاثة أيام دون أن أنام. ساعتان أو ثلاث ساعات يوميا تكفيني).
وبمقارنة عدد ساعات نوم نميري بالذين ينامون قليلا مثل نابليون بونابرت وغيره، نلاحظ رقم نميري قد فاق الجميع).
يتناول نميري طعام الإفطار في الصباح الباكر، ثم يخرج بدون مرافق في جولة تفقدية في المدينة يعقبها بتفقد وزارة الدفاع التي تقع على مقربة من منزله، وهو بالمناسبة منزل عادي كسائر المنازل.
وفي وزارة الدفاع يستمع نميري إلى تقارير القادة يقوم بتفتيش الثكنات المجاورة. وهو يحب الجيش ويريد لجنوده أن يكونوا سعداء وعلى قدر من اللياقة وخفة الحركة.
وفي معظم الأوقات يقضي الساعة أو الساعتين من الوقت داخل الثكنات بعد ذلك يأتي دور الوزارات في التفقد، كلها زيارات مفاجئة وغير معلنة.
وكان نميري يفضل أن يفاجئ العاملين في الوزارات عندما يكون الوزير غير موجود، لكي يستدعي الموظفين ليدلوا له بتقارير مفصلة عن سير العمل في الوزارة المعنية.
كان نميري يحب أن يقف بنفسه على اداء الوزير، لأن هناك أشياء أكثر أهمية في الحياة من أن يكون المرء وزيرا، على حد قوله.
mohed hussein [abusamira85@gmail.com]