وآخيراً ،، الحوت في أعماق الردى!.

 


 

حسن الجزولي
28 January, 2013

 



فجيعة رحيل محمود تعبر عن موقف شبابي معارض للمؤسسة الرسمية في البلاد!.

حدث ما هرع الناس بآمالهم نحو الكذب بعيداً عنه!، انتصر الموت بزهو خاطف الملذات فابتلع  محموداً دفعة واحدة، كما تبتلع الأمواج العاتية السفن الضخام، وهكذا غاب محمود إلى أبد الآبدين ملتحقاً بتلك الكوكبة اليانعة من مبدعي البلاد والشعب الذين ظلوا يرتحلون خفافاً - خاصة في الفترة الآخيرة - ليتركوا جميعاً ألماً ممضاً وشجناً وحزناً وأسفاً ولوعة وأسى عظيم!.
ورغم المقولة الفلسفية غير المستقرة والقائلة بأن التاريخ لا يعيد نفسه في غالب الأحايين إلا في شكل مسخرة!، فقد أعاد ظهور نجم الطرب الموهوب محمود عبد العزيز في الساحة الفنية ذكرى وخطى ومسيرة الفنان الراحل مصطفى سيد احمد، حذو الحافر على الحافر في ما يخص التجربة الجديدة وانتاج الأغنية من ناحية الكلمة واللحن والآداء، ومثلها من تجربة فيما يخص التعاون مع لفيف من الشعراء خارج الساحة الفنية ومن غير البارزين منهم. ومع الاختلاف في الدرجة إلى حد ما فيما يخص الموقف الفكري القاطع، فإن محموداً تبنى أيضاً موقفاً كاد أن يبني عليه لو لا اللؤم والفظاظة في المواجهة ومحاولات الزجر والنواهي التي ووجه بها دون استعداد للدخول في مثل هذه المعارك!. وهو ما مكنهم منه مؤقتاً في محاولة لتُفريغ مفاهيم " المطرب الموقف " من مضامينها فيُدفع لتبنى الموقف النقيض، وهو الذي ظل منحازاً بكامل وعيه واختيارات إنتمائه الفكري للحركة الشعبية وزعيمها الخالد الفقيد جون قرنق، وظل عليه الرحمة  مستمسكاً بقيم الوحدة وشعارات السلام والوئام والمحبة بين جميع مكونات شعوب السودان!.
كما إن ما حزً في نفوس الآلاف من معجبيه وعارفي فضل إبداعه أن يتم التركيز في تعداد مناقب الراحل عبر بعض أجهزة الاعلام التابع باعتباره مادحاً دينياً بأكثر منه مطرباً موهوباً وشاملاً، وهو ما عبر عنه أحد معجبيه مشيراً إلى أن هذه الأجهزة " تريد أن تختصر كل تاريخ محمود الفني والإبداعي، في ثلاث أو أربعة (مدحات ) ، كان محمود عبد العزيز يتربع على عرش الأغنية السودانية "..." ما هذا الإبتذال، عشقنا محمود لأنه فنان وليس لأنه رجل دين، الجماهير التي خرجت لتشييعه خرجت تشيع محمود المغني وليس الشيخ المادح". وبالفعل غنى محمود إلى جانب تمجيده للرسول الكريم لقيم متعددة شملت عواطف الشباب المشروعة وأمانيهم وأمنيات قطاعات عريضة من الناس في سبيل وحدة البلاد ونشدان السلام والطمأنية بما في ذلك فرح الطفولة حين اعتنى بأغنية الطفل السوداني الذي تم اعتقاله في دوائر الاستلاب البغيض باستلاف الأهازيج المجلوبة من الدول العربية كمشروع استثماري ربحي بأكثر منه تربوي في وجهة الاهتمام بالطفولة، وذلك عندما استجلبوا فرقة غنائية عربية  للأطفال، في حين أهملوا محموداً وأمثال محمود ومساهماتهم "السودانية" في هذه الجبهة.
الأبغض من كل ذلك هو ذاك الاستثمار البغيض في الموت والرحيل، وأبلغ مثال ماثل للعيان هو ما جرى بخصوص علاجه، حيث تم إهماله تماماً طيلة فترة صراعه المرير مع المرض، فلم يمدوا له أيادي المساعدة الطبية حين استحقها، وبمثل إهمالهم لعدد كبير من المبدعين الذين غادروا خفافاً، فقد أهملوه في حياته، ليتم نقل جثمانه لاحقاً بواسطة الناقل الجوي لجهاز الأمن  بعد رحيله!، وفي هذا الخصوص فنحن نفهم اهتمام وزراء الاعلام والثقافة والشباب والرياضة برحيل المبدع كمبدع في أي مجال من مجالات جبهة الابداع، بما في ذلك رئاستي الجمهورية أو الوزراء حتى، ولكن أن تصل الأمور بهذا الجهاز تحديداً لكي يشمر عن ساعد " المروءة " بالاعلان عن تحمله " نفقات " الترحيل وبهذه الصورة، فإن ذلك لا يدخل إلا ضمن ملفات محاولات "التطبيع" مع المجتمعات بأحاسيس الاغتراب عنها من جانب ثم "التقرب زلفى" لقطاعات عريضة من شباب الجنسين من عشاقه، الذين تمت محاربة غالبية اهتماماتهم وميولهم، ليس لسبب سوى من أجل اعتقالهم ليستثمروهم في ما يسمى مشروعهم الحضاري الذي قُبر بفضل تصدي هؤلاء الشباب أنفسهم له شمن مقاومة جماهير شعبنا، ولقد تأثرت قطاعات عريضة من هذه الشبيبة بتوجهات محمود واهتمامات محمود "كمتمرد أعظم"، فثبت تمردهم عن أي قيم ومثل كذوبة  تحد من تحررهم، فهزموها شر هزيمة وانتصروا لحرياتهم العامة وتحررهم من ربقة التسلط والصب في قوالب الأيدولوجيا المتخلفة عن لغة العصر!. وما يزال السؤال يتردد في أذهان الجميع، كيف لهؤلاء المسؤولين الذين يتسابقون اليوم من أجل تعداد "مناقب" الفقيد، وهم الذين لم يفتح الله لأي واحد منهم أن يتصدى لتلك الحرب البغيضة التي مورست ضد المطرب الموهوب، والتي وصل مداها حد جلده أمام الرأي العام وحبسه أكثر من مرة بتلفيق التهم غير المثبتة ضده!. والتي تداول الناس الصورة الفوتوغرافية لجلده واشتهرت بينهم كأبلغ دليل على محاولات الأجهزة "العدلية" للتشنيع بمبدعي البلاد كلما وجدوا فيهم فرصة ما!، وفوق هذا وذاك إختطافهم للجثمان عن طريق تحديد زمان الوصول وكيفية التشييع، تماماً كما تم مع جثمان الراحل العزيز محمد وردي، والناس تدري أن ما يتم لا يجري تحت دواعي اللوعة والهلع  بقدر دواعي الأمن والفزع!.
أثبت محمود بتجربته ورحيله وكيفية مواراته الثرى بتلك الحشود المهيبة، إن هذا شعب طيب حتى النخاع، لاينسى أو يبخل بالحب الحقيقي لمن يحسن إليه، فيختصر تعداد مآثره بهذا التواجد الكثيف حول المقبرة في اللحظات الآخيرة للوداع تعبيراً عن محبة واستلطاف، دون استنفار رسمي أو دعوات مبتذلة يتم الاعداد لها عبر الأثير وقنوات الاعلام وحاويات النقل!، وبرحيل محمود فقد أزف الوقت الذي وجب أن يتقدم فيه ذوي الاختصاص بخطاب ناقد بصرامة لتجربة أنداد المطرب الراحل محمود عبد العزيز الذي أحسن باختياره النظيف للكلمات والمعاني الراقية، نظافة الحس والاختيار السليم ،، ونقصد بأنداده أولئك المطربين الذين  يجب تنبيههم إلى خطورة الطريق الذي يسلكونه إن  أصروا على المضي فيه، رغم أنهم يعتبرون أيضاً ضمن ضحايا بعض قطاعات الشباب، فقد وجب عليهم أن يعوا أيضاً، بأنهم إنما يساهمون في وهدة الضياع هذه، إن هم أصروا على أن يملآوا الساحة الفنية "زعيقاً" يصم الآذان والذوق السليم من خلال تلك النماذج البغيضة من الأشعار الركيكة التي "يتبلونها" بأنغام "الكيبوردات" المزعجة كألحان يتوسلون بها ذائقة الشباب من الجنسين، في مساهمة جبارة لأفساد أذواقهم الموسيقية شكلاً ومضموناً.
إن طائفة الشبيبة التي التفت حول غناء محمود عبد العزيز والحان محمود عبد العزيز وطريقة آداءه، إنما تمثل الشريحة الحية وسط شباب السودان من الجنسين، وقد لجأوا لمحمود بعد أن وجدوا فيه المعبر الصادق عن أمانيهم وأحلامهم خلال كلمات بسيطة وغير ركيكة معبرة عنهم وعن ما يودونه وينشدونه، فقد تم إهمالهم وركلهم في نواصي الاهمال وأركان حوانيت الحي وظلال أشجار الطرقات، فلا أندية ترعى اهتماماتهم  " ولا أجوبة تجاوب على أسئلتهم القلقة والمشروعة المتعلقة بمستقبلهم القاتم، فيما يخص، أزمة البطالة المستفحلة، والمقرر الأكاديمي الفقير، والفاقد التعليمي، وارتفاع تكاليف المعيشة نفسها، في المأكل والملبس، والعلاج والسفر، والزواج وتأسيس الأسرة، وأزمات كالمخدرات بأنواعها، المتفشية في أوساطهم و( أوساطهن)، الإيدز، الجدب الاجتماعي المدقع، التمزق والفقر النفسي والفكري، الذي يحيط بمجتمعاتهم، التي تمت عسكرتها، وأصبحت محاصرة، بالنواهي والزواجر، لا أندية شعبية، لا أماكن للترفيه، وتزجية  الأوقات البريئة، داخل عاصمة، ووسط مدن، تنام باكراً منذ السابعة مساءاً، ليواصلوا في صباحهم الباكر، طاحونة الحياة الكئيبة، والمثقلة بالكدح والضنك، في المواصلات، وفي سبل كسب العيش، في المياه الشحيحة، وندرة الطاقة والكهرباء وتكلفتهما الغالية، وغياب البنيات الأساسية، لحياة جديرة، بأن يذوقوا فيها طعم الدنيا وحلاوتها؟! " لا أندية اجتماعية بالأحياء تتبنى طاقاتهم المتفجرة، أو ترعى اهتماماتهم المتنوعة لا مؤسسات قومية رسمية إلا من خلال الأطر الأيدولوجية ومخططات الحزب الحاكم، فيلجأون وحدهم لرعاية هذه الاهتمامات عندما يضطرون للجوء إلى المحال التجارية داخل الأحياء التي عرفت كيف تستثمر مادياً هذه المطلوبات فوفرت لهم تجارياً صالات بنيت كيفما اتفق لألعاب كالبليارد ونحوها!، كما وأنهم يعيشون في ظل ظروف غير طبيعية تصادر فيها حقوق وحريات الناس فيما يتعلق بترقية أذواقهم فيما يقرأون ويتعرفون ويستمعون ويشاهدون. فيتم حصارهم واعتقالهم في حدود مكتبات فقيرة ومتواضعة في دائرة وأضابير معارفها، مكتبات لا توفر في غالب الأحايين سوى أصنافاً من " السبح " ودوريات بائسة من شاكلة "عذاب القبر" و"تعاويذ أدعية ما قبل النوم" و"فضائل التعدد في الزواج" ولا تضم أقسامها الأخرى إلا معارف متواضعة تتعلق بأشهى الوجبات العربية والعصرية ومثلها من أشهى الحلويات الشرقية!. شباب عريض من الجنسين يعيش على الزواجر والنواهي كل صباح جديد.
بغياب محمود خسر هؤلاء الشباب ضمن ملايين من أبناء الشعب مطرباً بديعاً رحل وانضم لكوكبة من المبدعين الذين غادروا خفافاً كمحمد وردي وزيدان ومحمد كرم الله ونادر خضر ومصطفى سيد احمد،  وخوجلي عثمان ،، وما أدراك بخوجلي عثمان! كوكبة من الذين لحقوا بسيد خليفة وعثمان حسين والعاقب وغيرهم، لهم الرحمة جميعاً ،، ولنا التجلد والصبر على المكاره.
________
عن صحيفة الميدان

hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]

 

آراء