وجه في الزحام: رحيل بكري مطر

 


 

صديق محيسي
30 January, 2013

 




في زحمة  فوضي احداث السياسة غاب عن دنيانا  قبل ثلاثة شهور  المخرج  والفنان  الكبير بابكر حسن مطر المكني  ببكري مطر, والذين لا يعرفون  بابكر او بكري , فهو نسخة  مصغرة من شقيقة الراحل  الذي توفي في ثمانينات القرن الماضي احمد حسن مطر ,او السندباد  السوداني  كما  اطلق عليه  الكاتب الراحل محجوب عمر باشري الذي قام بصياغة كتابه المشهورسندباد من السودان في ستينات القرن الماضي .
احمد حسن  مطر هو اول سوداني ويكاد يكون  من اوائل  الرحالة  العرب  الذين  هاجروا  الي اميركا  اللاتينية  في عشرينات القرن الماضي تعرف علي جبران خليل جبران  وميخائيل نعيمة   وعقدت بينهما  صداقة عندما كانا يتجولان بين الاميركيتين.
لقد اتهم  مطر بأغتيال السير لي استاك  حاكم عام السودان في نوفمبر 1924ابان الحكم الأنجليزي المصري للسودان عندما  امطر خمسة   من المقاومين الوطنيين المصريين  السير لي استاك بوابل من الرصاص اثناء خروجه من مقر عمله في القاهرة مما ادي لوفاته علي الفور  وصادف وجود  مطر  في منطقة الحادث , فأعتقله الأنجليز  وعثروا  بحوزته علي  مسدس فجعلوه  متهما  اول ,ولكن  اطلق سراحه بعد  ذلك حين  القي القبض علي القتلة الحقيقيين ,غير ان الأنجليز قرروا  ابعاده  الي السودان فرفض  مطرالعودة الي اليه , فخيروه بين السودان  واي مكان في العالم  كمنفي له , ثم  عرضوا عليه خريطة  ليختار البلد  الذي   يريد ,  فوضع مطر اصبعه  خبط عشواء علي بلد  ما , فكان  ذلك البلد هوالبرازيل  في  امريكا الجنوبية , وتلك قصة طويلة  ليس هذا  مجالها, قلنا ان بكري مطرهو نسخة مصغرة  لشقيقه  السندباد , ولمن لايعرف تاريخ  الراحل فهو  أول من استقدم الفنانيين لمدينة وادمدني, كان ذلك  في ستينات القرن عندما كانت الأذاعة , والسينما الوسيلتان الوحيدتان للترفيه علي الناس شاهد مطر  وكلاء يأتون  من الخرطوم  ليقيموا حفلات غنائية  في مدينته  مدني فقرر  ان يقوم هو بهذه  المهمة , فسعي  الي احضار  كل من  ابراهيم عوض , والطيب عبد الله , وصلاح محمد عيسي, اؤلئك النجوم الذين اضاؤاعقد الستينات, فأنبهرت المدينة بالحدث الكبير وكان حديث  الناس الذين تزاحموا  ليشهدوا  قبل ان يسمعوا هؤلاء الذين كانوا  يلتقونهم  في الراديو فقط, كان بابكرمطر  يركب  عربة كاروا يجرها حصان مثبت عليها  ميكرافون ومعه  ابن اخته الصغير كمال  يجوبان شوارع وادمدني   من شارع النيل , الي حي بانت ,  وود الأزرق ا لي قلب السوق قرب المكتبة الوطنية  لصاحبها عيسي عبدالله حيث يتجمع  طلاب حنتوب في عطلة الخميس ,ومفتشي الغيط  من مشروع  الجزيرة .
كان  الناس يركضون وراء عربة مطر  للفوز بصورة لأبراهيم عوض او الطيب عبد الله, انه يوم عرس  كبير يعلن عنه مطر من خلال  ميكرافونه  يتبعه  كمال  بصوته  الشجي  يغني اغنيات الآفلام الهندية  التي لايعرف معانيها , ولكنه يحفظها عن  ظهر قلب , فيزيد ذلك  من تكاثر الناس إستعدادا  لمهرجان المساء.
في ستينات القرن الماضي  , وبعد انتقل  الي الخرطوم حاول بكري  تكرار تجربة  شقيقة , فسافر الي لبنان ممنيا نفسه ان ينطلق  منها  الي  امريكا  الجنوبية , او اوربا, فقضي  في بيروت  سنتان عمل خلالها  مصورا سينمائيا  ليجمع  اموالا تمكنه  من تحقيق حلمه ,ولكن  الظروف لم تساعده  لصعوبة حصوله علي تأشيرة  للذهاب الي تلك البلاد , فقرر التوجه  الي  الكويت  التي دخلها تسللا عن طريق العراق ,فعمل  مصورا  فوتغرافيا لأحد  حكام الكويت عندما كان يطلقون علي المصور اسم العكًاس, وفي الكويت  جمع  مبلغا من المال عاد  بعدها  الي السودان ليؤسس له اول شركة للأنتاج الفني  ,ولكن الظروف  لم تساعده  فصرف امواله علي الأصدقاء ,وعاد من جديد يحلم بالهجرة  والتجوال دون ان يهتم بما حدث له.
ثمة حقيقة لايعرفها الكثيرون وهي ان بكري من الرواد الأوائل لفن الأعلان التلفزيوني في السودان ,فلطالما انتج  منها العديد للشركات والمحال التجارية  فكانت علي مستوي فني راق, ثم خاض ايضا تجربةالانتاج الاذاعي والتلفزيوني فاصاب فيها نجاحا  كبيرا ,رافق رائد  السينما في السودان جاد  جباره  وعمل مساعدا له في التصوير مستفيدا  من خبرته  الطويلة في انتاج الأفلام الوثائقية , وسعي الي تحويل كتاب شقيقه  سندباد من السودان الي مسلسل اذاعي  وقطع شوطا في ذلك ولكن عقبات  وضعها   امامه المسئولون  في الاذاعة  حالت دون اخراج  ذلك العمل كما حدثني هو .
كان مطر ملولا  وقلقا يحمل جينات شقيقه  احمد  لايستقر علي مهنة واحدة, فجرب  جلب الفنانين  ,واقامة المسارح  الصغيرة في الأعياد  والموالد  , وجرب النجارة , والحدادة  والنقاشة ,وجرب  التجارة بفتح الكافتيريات ,والمطاعم ومحلات الموسيقي ولم ينجح  فيها ,فيعود مرة اخري  الي التصوير والأخراج ,كأنما  مناد  داخلي  يحرضه  علي خوض المغامرات والتجارب الجديدة.
كان مطر مثل   بطل ارنست هيمنغواي الصياد سنتياغو  ذلك العجوز الذي كان يخرج الي البحر كل يوم ويعود  في المساء  دون ان يصطاد  اي اشيء , ومع ذلك لم يفقد  الأمل  في الفوز بشىء يدفعه  في ذلك الاصرار علي ركوب المغامرة حتي نهايتها  الي ان اصطاد ذات مرة سمكة ضخمة  ظل يجرها  الي البر في عناد  ليس له مثيل ,وعندما اوصلها الي الشاطيء  كانت السمكة عبارة عن هيكل عظمي  فقد تناوشتها  واكلتها  الاسماك   الصغيرة قطعة قطعة اثناء عملية السحب ومع كل هذا الاحباط  لم يترك سنتياغو  مهنة الصيد, وهكذ  بكري فأن الفشل لم يكن ديدنه لايستسلم  ابدا , ولكنه يخوض في كل مرة تجربة جديدة.
في سبيعنات  القرن الماضي  فقد  مطر ابنه "علي" في حادثة غرق فأصابه الحادث  بالحزن  الشديد  ولكن الله رزقه  بعدد  من البنات والبنين فعوضه عن فقده الغالي , حدثني صديق العمر  شقيقه  شريف بأن كل  اولاد وبنات  بكري  يقبلون مجانا  في الجامعات لأحرازهم  اعلي الدرجات , وتلك جينة  ورثوها  من ابيهم , فقد كان عقل بكري كالمنشار  يحول الأحلام والرؤي الي افكار جديدة, كان كريما مع الاخرين , رؤوفا  رحيما  بزوجه  واسرته , افلح في تربية ابنائه  حتي دخلوا  الجامعات  فتخرج البعض  ولايزال البعض  يعكف علي التحصيل في الطريق الي النجاح. كان شجاعاً ومغامراً في الوقت ذاته. ومهما اختلف  الناس  حول    تقويم سيرته، ولا سيما في معاركه الطويلة من اجل حياة افضل، إلا أن ما لا يختلف عليه اثنان هو أنه كان متصالحا مع نفسه متطلعا دائما  ليصبح  انسانا متميزا موكلا رزقه  علي الله  شديد الأيمان به  وبحكمه  حتي غادر  هذه الدنيا

تضم اسرة مطر عميدها رجل الأعمال  الناجح والمحسن الكبير صلاح   حسن مطر ,بابه مفتوح  للأخوان ,والاصدقاء , والسابلة والمحتاجين واياديه  ممدودة لكل من يطلب مساعدة  والمشهور بجمعته المقصودة حيث  تجد  في مجلسه  الفناون , والصحفيون  ,والرياضيون, والسياسيون من جميع المشارب ,واناس لايعرفهم  يأتي بهم الطريق فيجدون ما لذ وطاب من المأكل ,والمشرب ,وحسن الضيافة , والعميد صلاح  موسوعة  في  تاريخ السودان  مبحرا في  اعماقة  حافظا  لتفاصيل احداثه  الصغيرة والكبيرة, وكذا تضم  عائلة مطر الفنان التشكيلي  الكبير  شريف مطر  صاحب المركز الطباعي ,وأحد رواد  الفن التشكيلي  من خريجي كلية الفنون  الجميلة  في بداية عقد السبعينات, الا رحم الله  بكري  مطر رحمة واسعة , وغفر له ماتقدم  وما تأخر من ذنوبه,وجعل الجنة مسواه وبارك في ذريته انه سميع مجيب.


sedig meheasi [s.meheasi@hotmail.com]

 

آراء