boulkea@yahoo.com
في فيلم "واحدة بواحدة" لزعيم الكوميديا العربية "عادل إمام" يُعاني البطل "صلاح فؤاد" الذي يعملُ في "وكالة أوسكار" للدعاية والإعلان من مُنافسةٍ شديدةٍ في سوق الإعلان من قبل وكالة دعاية أخرى تعملُ بها ميرفت أمين "مايسة" الفتاة المثاليَّة الذكيَّة والمُجتهدة.
للخروج من مأزق شكوى تقدمت بها مايسة للغرفة التجارية ضدَّهُ لمُخالفتهِ أخلاقيات المهنة, خطرت لصلاح فؤاد فكرة جهنميَّة مُتمثلة في إختراع سلعة لا وجود لها في أرض الواقع أطلق عليها إسم "الفنكوش", ومن ثمَّ شرع في الترويج لها عبر حملة دعاية قويَّة ومُكثفة, ولدهشتهِ وجدت سلعتهِ الوهمية قبولاً وإحتفاءً كبيراً من قبل الجمهور الذي إستمات في الحصول عليها دون أن يعرف ماهيتها, أو الغرض الذي صُنعت من أجله.
أصبح الناسُ يتكلمون ليلاً ونهاراً عن "الفنكوش", يحلمُون بهِ في منامهم, وفي صحوهم يبحثون عنهُ ويجتهدون في العثورعليه, وقد تخيِّل كلَّ فردٍ منهم أنَّه سيجدُ فيه الحلَّ السِّحري السريع لجميع مشاكله.
بعد أن باع صلاح فؤاد سلعتهِ الوهميةِ "الفنكوش" وعقد العديد من الصفقات الرابحة مع رجال الأعمال وجد نفسهُ مُتورطاً بخدعتهِ التي لم يحسب المدى الذي يُمكن أن تصل إليه أو الأثر الذي يُمكن أن تتركهُ, إذ تحتَّم عليه إيجاد سلعة لا يعرفُ هو نفسهُ ماهيتها ولا كيفية التوُّصل إليها أو نوع الفائدة التي يمكن أن تعود منها.
"الشريعة الإسلاميَّة" التي يُنادي تيار الإسلام السياسي بتطبيقها لا تختلفُ عن "فنكوش" صلاح فؤاد, حيث "تورَّط" أهل هذا التيَّار في رفع شعار لا يعرفون لهُ كنهاً ولا يُدركون لهُ ماهية مُحدَّدة, وعندما تلقفَ الناسُ الشَّعار الذي ظنوا أنهُ سيحُلَّ جميع مشاكلهم فشل أصحابه في تقديم "سلعة" حقيقية يرضى عنها الجمهور.
مارس أصحاب تيارالإسلام السياسي ضغوطاً هائلةً وإبتزازاً مكشوفاً على كافة الحكومات والأحزاب السياسية من أجل التطبيق الفوري لشعار الشريعة, ودوَّى في كل أنحاء السودان هتافهم الشهير : " شريعة سريعة أو نموت الإسلام قبل القوت", وصوَّروا المعارضين لذلك الشعار في صورة المخالفين للدِّين نفسه, ودبَّروا ونفذوا الإنقلاب على الشرعيَّة الدستورية, وبعد أن حكموا السودان مُنفردين لرُبع قرنٍ من الزمان, طفقوا يتحدثون من جديد عن "نيَّتهم" تطبيق الشريعة. فتأمَّل !!
عقب إنفصال الجنوب طرح السيِّد النائب الأول للرئيس شعار "الجمهورية الثانية", والتي أبدى فيها نيَّة الإنقاذ تطبيق الشريعة في المرحلة القادمة وقال في مناسبات عديدة : "سنحكمُ بالشريعة ونقطعُ الطريق على الفتنة" و "سنمشي بين الناس بإقامة شرع الله وإحياء سنن دينه" و "سنقيمُ نظاماً إسلامياً نُحكِّم فيه شرع الله".
وفي تصريحٍ له الإسبوع الماضي حول تزايد ظاهرة "زواج المثليين جنسياً" وسط المجتمع السوداني, شدَّد القيادي بالمؤتمر الوطني ربيع عبد العاطي على ( ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، مشيراً إلى أنها تحمي الأخلاق وتتصدى للمساويء والظواهر السالبة التي تظهر في المجتمع السوداني، داعياً في ذات الوقت إلى وضع إستراتيجية دائمة لحماية المجتمعات الإسلامية من الاستهداف والانحرافات السلوكية ). إنتهى
تصريحات السيِّد النائب الأول والقيادي ربيع عبد العاطي عن نيَّة الحكومة تطبيق الشريعة, وعن ضرورة التطبيق تثير الدهشة والعجب وتدعو للتساؤل : كيف إذاً حكمت الإنقاذ السودان لأكثر من عشرين عاماً ؟
نحنُ هنا بإزاء إجابتين لا ثالث لهما على ذلك السؤال فإمَّا أنْ تعترف الإنقاذ بأنَّ الشريعة لم تكن مُطبَّقة طيلة فترة حُكمها, أو أنْ تكون الشريعة مُطبَّقة ولكنها كانت شريعة غير التي ترغب الحكومة في تطبيقها مُستقبلاً.
إذا كانت الشريعة غير مُطبَّقة طوال العشرين عاماً الماضية فإنَّ ذلك يعني أنَّ الإنقاذ حكومة فاقدة للشرعيَّة منذ يومها الأول, ولا أعني هنا الشرعية الدستورية فهذه مفقودة أساساً بحكم الإنقلاب العسكري على النظام الدستوري القائم, ولكنني أعني الشرعيِّة التي ظلت تبرِّر بها الإنقلاب وزايدت بها على الحُكومات السابقة وهى "الشريعة الإسلاميِّة" التي رفعتها كشعارٍ يمنحُ الشرعية لمن يقول به ويمنعُها عن المُعارضين له.
أمَّا إذا كان لدى الحكومة "شريعة" أخرى غير المُطبَّقة حالياً فهذا يؤكد صَّحة ما ذهبنا إليهِ في مُقدمة المقال من أنَّ أهل الإسلام السياسي – مثل صاحب الفنكوش– لا يعرفون مُحتوى "السلعة" التي سوَّقوها للجمهور وإلا فما الذي يُفسِّر إكتشافهم المُتأخر جداً للشريعة التي يوَّدون تطبيقها وقد ظلوا يحكمون منذ ربع قرن ؟
غير أنَّ تشبيهنا لشعارالشريعة بفنكوش صلاح فؤاد يتأكدُ بما لا يدعُ مجالاً للشك – بلغة القانونيين – في بقيَّة تصريح القيادي ربيع عبد العاطي أعلاهُ حول موضوع زواج المثليين, حيث قال لا فضَّ فوه ( عدم تطبيق الشريعة يؤدي إلى موت الأمة ) ونفى وجود أيِّ تقصير من جانب الدولة تجاه المُجتمع وقال ( الحكومة لا تقوِّي الإيمان أو تضعفهُ ). إنتهى
إنَّ إشارة ربيع إلى أنَّ (عدم تطبيق الشريعة يؤدي إلى موت الأمَّة) تؤكدُ الطابع "الفنكوشي" لشعار الشريعة التي ظننَّا – وكذلك ظنَّ شعب السُّودان – أنَّ الحكومة طبقتها منذ زمنٍ بعيدٍ, فإذا بنا نكتشفُ فجأة أنها غير مُطبَّقة, وإذا سألنا ربيع : ولكن ماهى الشريعة التي ترغب في تطبيقها حتى لا تمُوت الأمَّة ؟ لا يستطيع أن يُجيبنا لأنهُ - مثل صلاح فؤاد - لا يعرفُ ماهيَّة البضاعة التي يُروِّج لها.
إنَّ نفي ربيع عبد العاطي وجود أيِّ تقصير من جانب الدولة تجاه المجتمع وقوله أنَّ "الحكومة لا تقوِّي الإيمان أو تضعفهُ" ينسفُ – من ناحية - كل شعارات أهل الإسلام السياسي الذين ما انفكوا يُراهنون على قهر السُّلطان كأداةٍ حاسمةٍ من أجل تطبيق فهم مُعيَّن للشريعة (الحدود) لأنَّ الله بحسب رؤيتهم " يَزعُ بالسُّلطان ما لا يَزعُ بالقرآن".
وهو يؤكدُّ -من ناحيةٍ أخرى- صحَّة وجهة نظر دُعاة الدولة المدنيَّة الذين ظلوا يقولون على الدَّوام أنَّ الدين تنزُّلٌ إلهيٌ مدارهُ الأساسي ليس أدوات الدولة وإنما القناعات الشخصية,فهو يُعطينا نظام القيم والمبادئ التي توجِّه التفكير والسلوك, أمَّا الدولة -وهى صناعة بشرية – فمُهِّمتها تقديمُ الخدمات ولا شأنَ لها بتديُّن الناس.
وإذا كان مُناط الدِّين هو توجيه التفكير والسُّلوك فإنَّ الإهتمام بتعميق "العقيدة" يجب أن يأخذ الأولوية على كل شىء آخر, و هذا التعميق – كما يقول المُستشار أحمد عبده ماهر - يعني أن يكون الإنسانُ أكثرُ تقديراً لله, وأن يكونَ لهذا التقدير أثرٌ عمليٌ على سلوكياتهِ, وأن يوُقنَ بأنهُ سيُحاسَبُ يوم القيامة, وهو كذلك يعني العناية بالخُلقِ القويمِ, والإهتمامُ بالإخلاصِ في كلِ شىء, ويعني أن يكون ظاهرُ الإنسانِ كباطنهِ.
لا تتوقفُ مُفارقات أهل الإسلام السياسي المُنادين بشعار تطبيق الشريعة عند حدٍّ مُعيَّن, إذ انَّ مواقفهم تجاه تلك القضية ظلت تتغير بإستمرار, فبينما كانوا في الماضي يُطالبون "بالشريعة السريعة" التي دونها الموت, بات تيَّار منهم لا يُمانعُ في عدم تطبيقها بالقوَّة, وهذا هو ما قال به عرَّاب الإنقاذ الدكتور الترابي الذي نسبت إليهِ تصريحاتِ يقول فيها إنَّ "تطبيق الشريعة يجب الا يكون قهراً", وأنهُ يُمكن "إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية إذا ما اجمعت الأحزاب السياسية على ذلك".
الأمر المُدهش هو أنهُم في كلا الحالتين -التطبيق, والإلغاء- لا يقولون لنا ما هى الشريعة التي يتحدثون عنها !!
ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.