عُتبة بن ربيعة والحل السياسي الشامل
بابكر فيصل بابكر
4 April, 2013
4 April, 2013
boulkea@yahoo.com
لطالما استهوتني سيرة أكثر رجال "ملأ" قريش حكمة وجلالاً (عتبة بن ربيعة) الداهية المُحنك شديد الذكاء الذي استطاع بدربتهِ قراءة الإتجاه التاريخي الصحيح لمسار حركة التطور في جزيرة العرب, وواقع القوى الإقليمية العُظمى في ذلك الأوان (الروم والفرس), ولذلك سعى سعياً حثيثاً لتجنب مواجهة داخلية تضعف قريشاً بمُختلف مكوناتها وتفكك كيانها القوي, و انعكس ذلك في خطابه لقومه الذين ابتعثوه للقاء الرسول (ص) حين قال لهم :
( يا معشر قريش, أطيعوني واجعلوها بي, وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه, فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم, فإن تصبهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم, وإن يظهر على العرب, فملكه ملككم, وعزه عزكم, وكنتم أسعد الناس به).
غير انَّ كلام الشيخ الخبير ضاع وسط ضجيج الحمية للمصالح المرحلية الأنانية, والمنافع الضيقة لنفر معدود من وجهاء القوم , وتراكم خطأ حسابات الملأ القرشي, الذين إغتروا "بقوة" آنية ظاهرية, وعجز "ظاهر" عن قراءة مسار التاريخ فاندفعوا في مواجهتهم غير المحسوبة مع القوة الإسلامية الطالعة.
ومع ذلك لم يتراجع الشيخ العاقل نافذ البصيرة عن رؤيتهِ حتى قبل المواجهة الحاسمة في بدر الكبرى التي سعى لتفاديها بكل السُّبل حين طلب من قومهِ الرجوع إلى مكة وخاطبهم بكلماته التي حفظها التاريخ :
( يا معشر قريش, إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً, والله لئن أصبتموهم لا يزال الرَّجل ينظرُ في وجه رجلٍ يكرهُ النظر إليه, قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته, فارجعوا, وخلوا بين محمد وسائر العرب, فإن أصابوه فذاك الذي أردتم, وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما يريد ).
و مع إصرار بعض الحمقى من رجال الملأ على القتال, وقف للمرَّة الأخيرة ناصحاً قومهِ بالرجوع إلى مكة غير آبهٍ برميهم له بتهمة الخوف والجبن, قائلاً :
(يا قوم, إني أرى أقواماً مُستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير, يا قوم أعصبوها برأسي وقولوا : جبُن عتبة, وقد تعلمون أني لست بأجبنكم ).
وعندما علم أنَّ القتال لا محالة واقعٌ, سعى للتقليل من الخسائر بطلب مبارزة تنتهي بإنسحاب المهزوم واعترافه بالهزيمة, وتحبسُ نزيف الدَّم الذي يوشك على التدفق, ورفض بحكمةٍ بالغة مبارزة شباب الأنصار الذين برزوا لهم في أول الأمر حتى لا يُصبح الأمر ثأراً طويل الأمد بين "مكة" و "المدينة", وفي خاتمة المطاف خرج مع أخيه شيبة, وابن أخيه الوليد بن شيبة, لمبارزة ثلاثي المسلمين : حمزة بن عبد المطلب, وعلى بن أبي طالب, وعبيدة بن الحارث.
إنتهت المبارزة بمقتل عُتبة وشيبة والوليد, وبهزيمةٍ تاريخية ساحقةٍ لقريش مثلت تحولاً جذرياً في مسار الدعوة الإسلاميّة الطالعة, وعندما سُحب جسد عتبة للدفن في القليب رأى رسول الله (ص) كآبة تغطي وجه أبنه أبي حذيفة الذي كان مقاتلاً في صفوف المسلمين فقال له : يا أبا حذيفة, لعلك قد دخلك في شأن أبيك شىء؟ فقال: لا والله يا رسول الله ما شككتُ في أبي ولا في مصرعهِ, ولكنني كنتُ أعرفُ من أبي "رأياً وحلماً وفضلاً", فكنتُ أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام.
إستدعاء سيرة الشيخ القرشي الألمعي فرضتهُ الأحداث السياسية التي طغت في الآونة الأخيرة منذ التوقيع على تنفيذ إتفاقية التعاون مع جنوب السودان وإعلان الرئيس البشير عن عدم رغبته في الترشح لفترة رئاسية أخرى, وموافقة الحكومة على التفاوض مع قطاع الشمال ,وما تبع ذلك من حراك شمل لقاء النائب الأول للرئيس بالدكتور على الحاج, والتصريحات التي تنمُّ عن مواقف متضاربة داخل المؤتمر الوطني حول قضية ترشح الرئيس وأبرزها ما قال به الدكتور غازي صلاح الدين عن عدم "دستورية" ترشح الرئيس لدورة ثالثة.
هذا المقال يُخاطبُ بعض عقلاء الحكومة من أمثال الشيخ القرشي الحكيم "عتبة" الذين يُدركون مدى الخطر المحدق بالوطن, أرضاً ومُجتمعاً وشعباً, ويعملون على عدم تكرار الأخطاء التاريخية القاتلة التي أدت لإنفصال الجنوب بعد إصرار الحكومة على توقيع إتفاق "ثنائي" لا يزال البلد يدفع ثمنه حتى اليوم.
يعلم المُمسكون بزمام السلطة أنّ كل الإتفاقات التي وقعوا عليها مع القوى السياسية والحركات المسلحة – بإستثناء نيفاشا - قصد منها "إلحاقهم" بالإنقاذ, ولم تكن نوايا الحكومة تتجِّه لإحداث تغيير حقيقي في بنية السُّلطة والحُكم, وهو أمرٌ يُمكن أن يُفهم في إطار "توازن القوى" الذي لا يتوقعُ أن يُقدِّم فيه الحاكمون للمعارضين تنازلاتٍ أساسية يُمكن أن تبعد عنهم إمتياز السُّلطة الذي ظل محتكراً لعقدين من الزمن.
أمَّا اليوم وقد تغيَّرت الكثير من المعطيات والحقائق, وأضحى الوطن قاب قوسين أو أدنى من التفكك و التشظي والإنقسام فإنَّ عقلية علاج المشاكل بطريقة جر المعارضين لأحضان الإنقاذ, و بالقطاعي بغرض كسب الوقت ما عادت تنفع, فقد إستنفذت هذه الطريقة القديمة أغراضها وأضحى من اللازم تغيير الفكر والمنهج والأسلوب.
في هذا الإطار قالت الحكومة انها لن تفاوض قطاع الشمال إلا وفقاً لما جاء في مقررات نيفاشا, و هذا القول يشي بأنَّ الحكومة ما زالت تسير على نهجها السابق, ذلك أنَّ هذه المفاوضات تقوم على أساس قرار مجلس الأمن 2046 وقرار مجلس الأمن يتحدث عن الحوار بين طرفين هما الحركة الشعبية وحكومة السودان و ينص على حل القضية الانسانية كما ورد في الفقرة الرابعة منه, و أن يتم التفاوض على أساس الإتفاق الإطاري الموقع في 28يونيو 2011 بين مالك عقار و الدكتور نافع.
غير أنَّ قطاع الشمال فاجأ الجميع بطرحه مبادرة من ست نقاط, تهدف لحل سياسي شامل لا يقتصرُ على المنطقتين. وفي رأى كاتب هذه السُّطور أن تنظر الحكومة لهذه المبادرة بالجدية الكافية, وأن يدفع العقلاء من أمثال "عتبة" بإتجاه الموافقة عليها وإحداث قطيعة مع منهج "تجزئة" الحلول, وهو المنهج الذي كانت نتيجتهُ الوحيدة هى التسكين المؤقت للمشاكل, دون إحداث علاج جذري يضع البلاد في المسار الصحيح.
مُبادرة قطاع الشمال تتمثل في الآتي : (1 ) الوصول لوقف عدائيات فورى في المنطقتين لمخاطبة القضايا الإنسانية يوقف الحرب ويفتح الممرات الآمنة للإغاثة ويعزز ايجابياً المنطقة العازلة بين دولة السودان ودولة جنوب السودان.
(2) يمكن إستخدام نفس النموذج في دارفور بشرط توفير الأمن للمدنيين وبذا تتوقف الحرب في كل السودان.
(3) خلق مناخ ملائم للمؤتمر الدستوري باطلاق الحريات لاسيما حرية التنظيم والتعبير خصوصاً حرية أجهزة الاعلام.
(4) إطلاق سراح كافة المعتقلين وفي مقدمتهم قادة وثيقة الفجر الجديد والمعتقلين السياسين الذين قدموا الى محاكمات يجب توفير قضاء طبيعى وشفافية مع حق الدفاع كذلك تبادل أسرى الحرب واطلاق سراحهم جميعاً.
(5) عقد مؤتمر قومي جامع دستوري لكل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني بمشاركة المنظمات الاقليمية والدولية وعبر الالية الرفيعة برئاسة الرئيس امبيكى ورئيس منظمة الايقاد باعتبارهم الطرف الثالث الذي وقع على إتفاق 28 يونيو 2011 وطالبهم مجلس الامن بتنفيذ ذلك الاتفاق.
(6) المؤتمر الدستوري سيخرج بدستور جديد على ضوئه تجرى انتخابات برقابة دولية تتيح التداول السلمى للسلطة.
هذه النقاط تذكرنا بالإتفاق الذي تم توقيعهُ بين الحزب الإتحادي الديموقراطي والحركة الشعبية في نوفمبر 1988, و الذي تضمَّن ست نقاط أيضاً كانت كفيلة بإيصال كل القوى السياسية للمؤتمر الدستوري, غير أنّ الجبهة القومية الإسلامية إستبقت قيام المؤتمر الدستوري بإنقلاب يونيو1989 , ثم عادت بعد ستة عشر عاماً 2005 لتوقيع إتفاق "ثنائي" في نيفاشا و لكن سقف الإشتراطات الجنوبية كان قد بلغ حد "تقرير المصير", وهو الأمر الذي لم يكن وارداً في عام 1988, واليوم يتكرَّر نفس المشهد مع جبال النوبة والنيل الازرق و دارفور.
قد تظنُّ فئاتٍ داخل الحكومة أنها في وضعِ أفضل و"أقوى" من القوى المعارضة ولذا لا يجب أن تدخل في حوار مختلف, وربما يكون هذا صحيحاً ولكن الصحيح أيضاً أنَّ هذه القوة النسبية لا تعكسُ واقع الحال على مستوى الدولة, حيثُ الجماعات المسلحة تنهبُ القطارات و البنوك و المتاجر داخل المدن الكبرى "نيالا", و العصابات تنهبُ الأسواق في أطراف الخرطوم, وحيث تعجز الحكومة عن إيقاف نزيف الدم المنهمر من صراعات القبائل, وحيث الفساد ينهشُ "كيان" الوطن, والكفاءات تهاجر, والإ حتقان العرقي يتعمَّق, وحين يكون الوطن بهذا القدر من "الضعف", يضحى الحديث عن "قوة" الحكومة هذراً سقيماً.
عندما نقل نداءُ عتبة الذي سطرناهُ في صدر المقال إلى أبي الحكم بن هشام "أبوجهل" كان رده كالتالي :
( إنتفخ و الله سحرهُ حين رأى محمداً وأصحابه, كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد). إنتهى
عبارة "إنتفخ سحرهُ" تقال للجبان, وقد عبَّر أبو جهل بحديثه هذا عن الفئة من "الملأ" التي عجزت أن تقرأ الواقع التاريخي قراءة صحيحة, واغترَّت "بقوة" قريش دون أن يُعينها نفاذ البصيرة على إدراك التحولات الداخلية في جزيرة العرب, و المُتغيرات الإقليمية, التي كانت جميعها تسير في صالح الدعوة الجديدة.
إنَّ موقف أبوجهل يبيِّن مدى خطأ الحسابات والتقديرات, ويُعبِّر عن منافع و مصالح أنانيّة لفئة محدودة من ملأ قريش, وعندما قرَّر القوم تجاهل نصائح الحكيم عتبة, واتباع رأي ابو جهل حلت الكارثة بقريش وملأها.
إنَّ الحكومة اليوم في أشدَّ الحاجة إلى أمثال الحكيم عُتبة, بعد أن ظلت تعملُ بنهج أبي الحكم بن هشام الذي لم ينتج شيئاً سوى تراكم الأزمات التي يأخذ بعضها بتلابيب بعض و التي تكاد تعصف بما تبقى من الوطن.
لا حول ولا قوة إلا بالله