حكايات الحلة _ دبو وكدرو وام جدودا” مية
هلال زاهر الساداتي
27 April, 2013
27 April, 2013
من اين أبدأ ؟ هل من شئ من الأقوال المأثورة ، أو بشئ من التفلسف ، عندما أقول ان حظوظ وظروف الناس متباينة فى الحياة ، وتشكلها عوامل واسباب ليس للمرء يد فيها ولا يستطيع دفعها فى غالب الاحيآن . وهناك اشخاص أو شخصيات وجدوا انفسهم فى اوضاع أو قوالب لا يخرجون منها ولا فكاك لهم من اسرها ، ولقد عايشت فى طفولتى بعض هذه الشخصيات عندما كنت أقطن فى بيت جدى لأمى فى حى الضباط بامدرمان ، وعندما كان والدى ضابط الجيش يخدم فى الجنوب لعدة سنوات وتركنا مع جدى للدراسة ، وكنت آنذاك فى المرحلة الأولية مع اخى الذى يكبرنى فى العمر وشقيقتى اللتين يتلقيان العلم أيضا" ، وانتقلنا من منزلنا بفريق ريد بالموردة الى حى الضباط والذى كان يسكنه ضباط الجيش المتقاعدين قبل أنشآء قوة دفاع السودان واتى صارت فيما بعد الجيش السودانى ثم القوات المسلحة ، وغيرت حكومة الجبهة الأسلامية اسم الحى الى حى بانت شرق ولم يكن حى بانت قد ظهر الى الوجود حتى اواسط القرن العشرين الماضى .
وجدنا ذلك الشخص ( دبو ) ، بضم ال دال وال ب ، يعمل فى بيت جدى ، وكان رجلا" فى اوآخر الخمسينات من العمر متوسط الطول قوى البنية ويبدو انه ينتمى الى نيجريا والذين درج السودانيون على تسميتهم بالفلاتة وتطلق هذه التسمية على معظم القادمين من غرب افريقيا حيثما كانت اوطانهم ودولهم .
كان دبو لا يتكلم العربية ولايعرف منها سوى كلمات قليلة بل يرطن بلغته و كان يتكلم معظم الوقت مع نفسه أو كأنه يتكلم مع شخص امامه مشيرا" بيديه ، وكان يردد من وقت لآخر كلمات ( اربعمية خمسمية قروشو اسماعيلو ) ، واستنجتنا انه كانت معه نقود كثيرة وهو فى طريقه الى الحج مجتازين السودان كعادة الحجاج النيجريين ، فلقيه قطاع الطرق وسلبوا ماله ثم اطلقوا سراحه بعد تعذيبه وتركوه بعد ان ظنوا انه مات ، واظن انه لآقى الاهوآل حتى وصل الى امدرمان واستقر فى بيت جدى ، بعد ان فقد ماله وفقد معه بعض عقله ، ولقد ابتنى جدى حجرة من الطين له وضع فيها عنقريب وفرش قديم ووضع فيها تربيزة لكى الملابس وكان يوجد امام الحجرة مساحة يحفظ فيها حطب الوقود وتستخدم لغسيل الملابس . وكان عمل دبو يشمل الغسيل والمكوة وتكسير حطب الوقود وكنس الحيشان ، وكان لا يخرج ابدا"من المنزل ، وكان يمشى حافيا" وعندما نعطيه كباية الشاى لا يشربه ويتركه لمدة طويلة ، ولما نسأله لماذا كان يجيبنا ( خلى جماعة يشربو ) ، ولست ادرى ان كان الجماعة هم اصحابه من الجن ، وكان يطلب منى ان احلق له راسه ( جبنة ) ويعطينى شفرة حلاقة للذقن فانه لم يكن عنده شارب أولحية ، يعنى (أدروج ) ، فكنت اقوم بالمهمة على حسب استطاعتى وكما يقول المثل ( يتعلم الحجامة فى رؤوس اليتامى ) ، وكان عندما تجرحه الشفرة لا يزيدعن الابتسام . وكان لا يتذمر أو يشكو ولكنه احيانا" تفلت منه عبارات عندما يكلم نفسه مثل قوله ( دبو شقاوة ـ دبو شقاونه ) ، ولعله كان يندب حظه البآئس !
واما الشخصية الثانية فهى ـ كدرو اللجينة ـ وهو مواطن من احد جبال النوبة وهو يتكلم العربى بلكنة مثل الرطانة ، وخدم جنديا" فى الجيش اثنآء الحرب العامية الثانية ولكنه لم يكن مقاتلا" ولكن كان حارسا" سجانا" لأسرى الجنود الأيطاليين الذين سلموا انفسهم عقب تحرير مدينة كسلا ثم تحرير اريتريا واثيوبيا ، وقد اقيمت لهم معسكرات اعتقال داخل السودان فى جبيت وامدرمان وكان معسكر امدرمان فى البقعة عند ضريح الشيخ بر ابو البتول فى مكان مجلس الشعب الحالى ، واحتفظ بالضريح فى موقعه وبعد الحرب جرى تسريح الضباط والجنود الذين جندوهم اثنآء الحرب . ووجدنا كدرو لا ينقطع عن زيرة بيت جدى الذى كان يعطف عليه ويوده ، وكان لجدتى اراضى زراعية فى سنار قريبة من النهر ويسمونها الجروف ولكن الارض اهملت وتوفى الذى كاى يقوم بزراعتها والعناية بها ، وتحمس خالى احمد وصمم على أحيآء الارض وحتى لا تضيع منا ، وارسل كدرو ليقوم بهذا الأمر ، وسافر معه وحدد الارض وابتنى قطية لكدرو واعطاه بعض النقود وجوالا" من الذرة . وعمل كدرو ما فى وسعه فى زرع الجروف، ولكنه اكل جوال العيش عصيدة ونفدت ما عنده من نقود قليلة . وفى ذات يوم وجدنا كدرو دآخلا" علينا ثائرا" وهو فى أشد الغضب والهياج مرددا" ( احمد يخلى كودرو جعان ـ كودرو ما أندو قروس ـ كودرو يموت من جوع ـ كودرو ما يمسى تانى هناك ) . ولا ادرى ماذا حدث بعد ذلك ولكن كدرو اختفى ولعله رجع الى موطنه فى جبال النوبة .
واما الشخصية الثالثة فهى امراة عجوز فى منتصف السبعينات من عمرها فارعة الطول يشى وجهها عن جمال غابر وترتدى ثيابا" بيضآء تتكون من توب وفستان طويل من قماش الدبلان وكانت دآئما"نظيفة الثياب ، نشيطة لاتبدو عليها اعراض الشيخوخة . ولم نعرف لها أقارب أو اهل ولكنها تتكلم بلهجة أهل كردفان ، وكانت تسكن فى قطية داخل حوش صغير فى منزل صغير ايضا" ، وكانت تأتى الى منزلنا فى فريق ريد حاملة قفة محتوياتها من التمر والنبق والفول والدوم والقنقليزلتبيعه لنا ، وكنا نسعد بقدومها وكانت امى تحبها وكنا نناديها بحبوبة ام جدود ونستمع بشغف ولذة الى حكاويها ، وكانت دآئما" تقول ( انا أم جدودا"مية جدودى الصالحين ) وقالت انها كانت طفلة فى زمن المهدية ، وان اهلها قد فنوا فى حروب المهدية ، بمن فيهم ممن تبقى من جدودها المية وبعد ان استشهد زوجها فى كررى بقيت وحيدة ، ولم تنجب ولم تتزوج ثانية ، ومع ذلك كانت تشكر الله كثيرا" لانها عآيشة ومستورة كما ترجع ذلك الى بركة جدودها المية الصالحين .
Hilal Elsadati [helalzaher@hotmail.com]