إطلالة على رحيل الأزهري

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com


(1)
عندما كان يُذكر "الأزهري" ، كان والدي وأصحابه يذكرونه بالزعيم الذي رفع  علم الاستقلال . ومرّ زمان وبدأ الشموليون يشيعون أنهم هم من صنعوا الاستقلال ، وتراجع البعض منهم إلى أن تاريخ الأول من يناير 1956 لا يستحق الاحتفال ولا الذكرى . فقد انحسرت الوطنية وعادت القبلية الآن  تستقوي  بصناعة الشموليين الجُدد !.
عندما كنت أراه في طفولتنا  بين أهلنا في مناسبات  الأتراح  بهندامه المميز الأبيض من قماش " الدمور " الذي هو صناعة للنسيج السوداني منذ قديم الزمان ، يقوم أعمامنا لاستقباله  . يجلس وسطهم  يتفقد أحوالهم ويستأنس يفرِّج الكروب  . متواضعاً كان وسطهم ، لكنه مميز الملبس . لم أره في جلباب أو عمامة قط. شخصية صادحة بالوهج عند اللقاءات الجماهيرية . يحمل إرث التربية والتعليم وروادها الذين بصموا على تاريخ التعليم بصمتهم المميزة . مسلك المُعلم ، لم تفارقه طوال حياته .
عندما يتخفف الزمان وتجري عُجالته، تستدق الصورة وتغدو ريحاً من سيرة عطِرة تخلو من العثرات . إن كان الشعب بذاكرة تتسامح  مع الأشخاص الذين لم يسرقوا ولم يقتلوا ، فمن حق المعرفة علينا أن نُشير بأن شعار " التحرير لا التعمير " لم يكُن موفقاً ، ولم يكن موفقاً قسمة السلطة في نظام برلماني ليكون لمجلس السيادة رئيس دائم. سار  هو مع ركب الذين تعالوا على سلطة القانون وحلوا الحزب الشيوعي بتهمة الظن لرجل كتب في زمانٍ غابر " الطريق إلى البرلمان" ، مدرسة لتعليم كيف يتعلم الفرد النهج الديمقراطي مسلكاً وممارسة حضارية  . قد نختلف معه وقد نتفق ، ولكن لن نأتي به في يوم من الأيام مطلوباً لأية عدالة كانت .
كان الأزهري مثل كل الرعيل الأول ينتمي لمؤسسة التربية والتعليم ، تلك المؤسسة التي مهدت للوطنيين الأوائل مدخلهم للسياسة والحُكم . كان الأزهري يحمل تراث المعلم الذي لم نوفه التبجيلا. نقي اليد واللسان . يستعفف ولا يأخذ من المال العام . بنى بيته من ديون وتبرعات الاتحاديين ، ولم يستطع انقلابيي مايو أن يجدوا سبيلاً ليتهمونه بالفساد المالي ، اعتقلوه ، بل اغتالوه في مستشفى الخرطوم حين احتاج قلبه إلى أكسيجين ، لم يجد إلا أنبوبة فارغة ، ليمُد أصبعه متمتماً بالشهادة في سره ويرحل .
وهبت العاصمة المثلثة حينها  مترجلة لوداع الأزهري ، في حين كانت طائرات السلطة ترقب الجموع الهادرة  أثناء تشييعه .
( 2  )
كتب الكاتب والباحث ووزير الخارجية الأسبق ، وسكرتير مؤتمر الخريجين : الأستاذ " جمال محمد أحمد " أن أهلنا في الأرياف قد أسسوا لدبلوماسية العمل الأهلي المدني ، حين كانوا يجتمعون تحت الشجرة ، ويعرضون الخلاف والخصومات على وجهاء القوم ، وعامتهم . حين كانوا " يحقنون الدم بالعصا " ، فلم يكن سودان الأرياف بعيداً عن الدبلوماسية الشعبية ، بل كان ممارساً حفر خبرته نقشاً في الحجر الشفهي ، وليتنا نتعلم دروس أهل الأرياف  الذين علموا قضاة السودان كيف يتواضعون للأعراف ويمتدحون مؤتمرات الصُلح القبلي ، وكيف كان ثمرها المرّ حلواً آخر المطاف .
( 3  )
تذوب كل عداءات منافسيه وتغدو سيرته سيرة نسرٍ خاض كل المعارك وقبع في سمائه  . تذوب معارك التنافس في مؤتمر الخريجين ، ثم الوطني الاتحادي الذي توحدت أحزابه الثلاث وتحالفه مع مصر والدعوة لاستقلال منقوص بالوحدة مع مصر  ، حتى أصلح رؤيته بالدعوة للاستقلال من داخل البرلمان . ومن بعد التحالف مع طائفة الختمية وميلاد " الحزب  الاتحادي الديمقراطي" من أجل المغالبة ، وبدأت  صراعات الأحزاب و صراع القيادات التقليدية منذ أوائل القرن الماضي . قضايا وتواريخ تُلاحق بعضها . تتغير الأهداف ويتغير شكل الصراع الاجتماعي السياسي الاقتصادي  ومصالح الطبقات التي تحاول أن تتشكل بنكهة سودانية وإرث مُتسامِح قديم . تتحرك ببطء في غليان القدور. و من تحت صراعات الأحزاب واختلاف مناهجها في التعامل مع الديمقراطية تمتد يد المجتمع البدوي الزراعي ، وأخلاقه ومواريث ثقافته تبتني طريقاً ممهداً لصناعة أهرامات طائفية تتغذى بمحبة العامة لأهل الصفوة القبلية والطائفية . تأخذ الحياة  طريقاً محفوفاً بالمخاطر ، تُلجِم المجتمع وتوقه للنهضة . واحتجب القادة من أصحاب الرؤيا ، فلم يكن عندنا مثل غاندي في الهند أو مهاتير في ماليزيا  . عاش " الأزهري " تلك الأيام بضجيجها وصخبها ، إلى أن جاءت زمرة 25 مايو 1969  الانقلابية بليل، صادرت الدستور المؤقت وحلّت الأحزاب والنقابات . وبدأت سيرة جديدة من الحكم الشمولي .
(4)
تتغير الشخصيات في تلك اللجة الغريبة حين يكون السلطان بجلباب يعتاد عليه المرء . لكن " الأزهري " في إنسانيته وفي تواضعه نبعٌ من خلق المتصوفة ومدارسهم الأولى ،لم تغير شخصه . وربما هو في الاجتماعات  الحزبية غيره في الحياة العادية ، غلبته صفة المُعلم . عندما يخلو لأسرته يتناثر الجبس الأبيض الذي يغلف شخصه ويعوده المرح . فيفتتح الصحيفة ، ليرى ماذا كتب رسام الكاريكاتير " عزالدين "عن أهل الحُكم فيضحك أولاً .
كيف كانت الحسرة الجديدة ، من بعد انقلاب مايو 1969 . وكيف كان وقع السجن عليه مرة أخرى  وهو في ذلك العُمر ، غيره عندما كان أيام عسكر عبود .
(5)
كتب " خضر حمد" في مذكراته عن رحيل الزعيم  الأزهري وهو يتحدث بعد اعتقالهم بعد الأيام الأولى للانقلاب العسكري المايوي :
{لم يحضر بعد ذلك أحد من أعضاء مجلس السيادة ، ومكثنا نحن الاثنان ما يزيد على الثلاثة أشهُر ، لم يسألنا فيها أحد عن شيء ، وكانت المعاملة حسنة ، وكانت تعليمات السيد وزير الداخلية كما علمنا من قمندان السجن أن تُستجاب مطالبنا فيما يختص بالأكل الخاص والأدوية وألا يحال بيننا وبين مال يأتينا من الخارج من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو كتب .في السجن ظهرت منه صفات أخرى ، هي تدينه ومداومته على قراءة القرآن والفقه والتاريخ ، هذا إلى جانب اهتمامه بالتخطيط ، فقد كان ضمن كتبه تقويم السودان وخرطة للسودان . وكان يدرس الطرق وأماكن المياه وتطوير احتياجات الرعاة ، وكان اهتمامه بالخريف عظيماً وكان يتحدث عن الثروة الحيوانية. لا يتكلم عن الغير ولم يسأل ولو مرة واحدة : لماذا نحن هنا ومتى نخرج وماذا يريدون منا ، وكان مؤمناً أن كل ما يحدث فهو من الله ويجب الصبر عليه .}
(6)
بعد  «44» عاماً على رحيل الزعيم الأزهري فإنه لا يزال في الذاكرة والوجدان ولا تزال وقائع موته الفاجع وملابسات معاملته الفظة والحادة من جانب سلطة «25 مايو 1969م» تمثل أسوأ نوع من المسلك لرجل حياته من تاريخنا الذي به نُفاخر ،فكيف بمسلك يفضي إلى الموت!!. لقد أحاطوا منزله العريق في  أم درمان بالمدرعات،كما لو كانوا يستعدون لخوض معركة عسكرية ضد قيادة وطنية فذة ،قاومت الاستعمار ببسالة وجرأة وظلت صلبة في المواقف والمبادئ حتى تحقق الاستقلال في أول يناير 1956م، وظل متمسكاً بالقيم السودانية والتسامح والتواصل والتواضع، ومصلحة الوطن وسلامته وحريته ووحدته غير قابلة للمزايدة ولا المساومة، ومنحته الجماهير احترامها وثقتها وعرفانها، وأمسكت بخيط رحيله الفاجع الفادح، فبعد إحاطة منزله بالدبابات ومنع خروجه أو دخوله، واستكثروا عليه البقاء مع أسرته، فنقلوه إلى سجن كوبر.وفي يوم «19» أغسطس أبلغوه بوفاة شقيقه علي الأزهري وسمحوا له بتشييع شقيقه .وبعد العودة من التشييع الكثيف عاد لمنزله لتلقي العزاء، وبفعل الإجهاد البالغ وضيق التنفس استدعى الدكتور صديق أحمد إسماعيل الذي طلب نقله للقسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم حيث وضع في خيمة الأوكسجين وظل الأطباء يتناوبون على رعايته، وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها لنوبة قلبية وطلبت أسرته نقله إلى القاهرة أو لندن، فأُبلغت أن مسئولاً كبيراً ليس اللواء جعفر نميري طلب أن يعامل كغيره من المرضى في المستشفى، وكانت حالته تتأرجح بين
التحسن والتراجع ...وفي عصر الثلاثاء «27 أغسطس 1969م» حدثت نوبة، ونفدت أنبوبة الأكسجين وأحضرت أخرى واتضح أنها فارغة وبذل الأطباء جهودهم،
ورفع الأزهري أصبعه دلالة على أنه يتلو الشهادة وعندما أكملها استرخت يده وملامحه وخمد نفسه وأغمض عينيه،أطلقت المستشفى من كل الحجرات والعنابر والشرفات «صرخة مدوية تردد صداها إلى أبعد مدى كانت «صرخة هائلة» بحجم الفاجعة والرحيل، عرفت العاصمة في كل أحيائها أن الأزهري مات، وانطلق الخبر الداوي وانتشر لكل بقاع السودان، ووقتها في ذلك الوقت الكئيب كانت الدولة وأجهزة الإعلام تحظر التداول حول أية معلومة عن الأزهري، كانت معاملة الدولة له  في ذروة الظلم واللؤم ، ولكن الجماهير وحدها استطاعت أن تكبح صلف وغلظة السلطة والاندفاع المنهمر من البيوت والأحياء والمدن وبوسائل النقل المتاحة نحو أم درمان. تحول السودان إلى مأتم حزن بلا حدود، حدث كل ذلك والدولة لم تكلف نفسها ولا الإذاعة ببث خبر أو بيان عن وفاته،كانت دولة الانقلاب في ذروة قلقها واضطرابها وحشود الحزانى والغاضبين والكاظمين الغيظ والغضب تتدفق من كل صوب واتجاه، وتحولت الوفاة إلى قضية أمنية، والتقارير تتحدث عن الحراك الشعبي للحاق بالتشييع، وفي نشرة أخبار الوفيات في الثامنة مساء الثلاثاء 27/8/1969 أذيع خبر وفاته وسط الأخبار "توفى إسماعيل الأزهري المعلم السابق".
سدت الشعوب السودانية الأفق عند تشييع جثمانه ، حتى ارتعب الانقلابيون  . كشف التاريخ  وفاء أبناء وبنات شعبنا وهم يبكون بقلوب منفطرة رحيل جبل صادم الاستعمار في قوة بأسه وجلال جبرته . وكشفت أن محبة الشعوب أصدق من قوة السلطة المسروقة بليل .
(7)
من السيرة :
في 27/3/ 1945 م توحد الاتحاديون الثلاثة ، ووقع على الميثاق السادة : إسماعيل الأزهري ويحي الفضلي ومحمود الفضلي ومحمد نور الدين وأحمد محمد يس عن " الأشقاء " . كما وقع كل من السادة : عبد الله ميرغني وخضر حمد وإبراهيم يوسف وحسن أحمد عثمان وعبد الرحيم وشي عن "الاتحاديين" . والسادة أحمد محمد علي السنجاوي ومحي الدين البرير والطيب محمد خير وعبد الرحيم شداد وأحمد عوض عن "الأحرار"
كان السيد عبد الله الفاضل قد رشح نفسه في الدائرة الشمالية  ضد السيد إسماعيل الأزهري وفاز الزهري. وأجريت عملية الانتخابات وعندها نجح الاتحاديون في الانتخابات الأولى .وفي 5 يناير 1954  اجتمع مجلس النواب ورشح السيد إسماعيل الأزهري الأستاذ بابكر عوض الله لرئاسة المجلس وثناه الأستاذ " محمد أحمد محجوب " ، فاختير بالتزكية لأنه لم تكن هناك ترشيحات أخرى .في جلسة 6 يناير 1954 وبعد الاجراءات الخاصة بحلف اليمين للنواب ، تقدم السيد ميرغني حمزة مقترحاً انتخاب السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء وثناه السيد بلن ألير . ومن الجانب الثاني اقترح السيد الصديق المهدي أن ينتخب السيد " محمد أحمد محجوب " رئيساً للوزراء ، وثناه السيد بوث ديو . ونال  السيد إسماعيل الأزهري 56 صوتاً والسيد محمد أحمد محجوب 37 صوتاً. وتكونت الحكومة . استطاع الأزهري أن يعالج المزالق العديدة في حكمة ولما ألحّ على " خضر حمد " لدخول الوزارة الذي اقتنع معد شد وجذب .
(8)
إسماعيل بن سيد أحمد بن إسماعيل بن أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي (1901-1969م). ينتهي نسبه بالشيخ إسماعيل الولي بن عبد الله، الكردفاني نزحت أسرة والده "عبد الله" من قرية "منصوركتي "بمنطقة الدبة في الشمالية لمدينة الأبيض حاضرة كردفان. ولإسماعيل الازهري صلة قرابة بمصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل أول من دفن بمقابر البكري بأم درمان و بمحمد المكي أحد رجال الحركة الصوفية بالسودان أول من سكن حي المكي ببيت المال بأم درمان، وبالشيخ البدوي صاحب القبة المشهورة في حي العباسية بأم درمان. ولد في بيت علم ودين، تعهده جده لأبيه إسماعيل الازهري الكبير بن أحمد الأزهري. ميلاده من بعد ثلاثة سنوات من المعركة التي لما يزل الإنجليز في رعب من سيرتها .هذه الأرض لم يزل الرعب والخوف يعشش في أذهان المستعمرين ، فما  أن يسمعوا بأن أحدهم بدأ يقرأ " راتب المهدي " إلا وجيء به للسوق للإعدام أمام الملأ . بهذا الميراث التاريخي الغليظ وُلد " إسماعيل الأزهري ".
تلقى تعليمه الأوسط بواد مدني، كان نابهاً متفوقاً، التحق بكلية غردون عام 1917م ولم يكمل تعليمه بها. عمل بالتدريس في مدرسة عطبرة الوسطي وأم درمان، ثم ابتعث للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت وعاد منها عام 1930م. عين بكلية غردون وأسس بها جمعية الآداب والمناظرة.و عندما تكون مؤتمر الخريجين أنتخب أميناً عاماً له في 1937 م. . تنضرت سيرته عند الإنجليز ، فكان صنواً لهم، له الأرضية الثقافية التي يستند عليها المستعمر . فراعهم أن يكون لهم نداً. شغل منصب رئيس وزراء السودان في الفترة 1954 - 1956 م ورئيس مجلس السيادة في الفترة 1965 - 1969 م .
(9)
لم ينتقص من شأن الأزهري  إلا ثلة من انتهازيي الحكم وخاطفيه  بليل ، حين عاملوه بالغلظة وهو في نوبة قلبية . قال قائلهم "لِمَ يعامل معاملة خاصة" !.  حرموه العافية المباحة ، حين أمدوه بكمامة لرئتيه فارغة من  الأوكسجين . وسكت القلب النابض بالحياة . ما أكرمه من عَلمٍ وطني رفرف ولما يزل يرفرف عالياً رغم السنين . اختلف معه الكثيرون ولكنهم يعرفون علمه وقدرته وأيقونة القيادة مختومة في جبينه .
قبل رحيله وخلال محبسه بكوبر لمدة ثلاثة أشهر ، كان " بابكر عوض الله " نائباً لرئيس مجلس قيادة انقلاب مايو ! . هل يا تُرى مرّ طيف الذكريات به عندما رشحه الأزهري  في الخامس من يناير 1954  ليكون رئيساً  لأول برلمان سوداني ؟!
كان قبل أن يتمدد في فراشه من تعب ملاحقة العمل العام ، يدون مذكراته كل يوم . عمل عليها صديقنا الراحل ابنه " محمد الأزهري " الذي نرتاب في أنه ربما اغتالته أيادٍ حاذقة ، أكثر ستراً من التي اغتالت والده . استجمع  " محمد الأزهري " جُل المذكرات وأعاد تحريرها لتكون  بذرة كتابٍ ضخم عن مسيرة الحياة والتاريخ ، ولكن سجادة العُمر انطوت ، وما تيسر لنا أن نرى تلك المذكرات الندية بالتاريخ .

عبد الله الشقليني
8/10/2012

 

آراء