boulkea@gmail.com
أجاز مجلس تشريعي ولاية القضارف الشهر الماضي قانون منع وحظر أية تنظيمات تنشأ على أساس قبلي بالولاية, وقد نص القانون على : ( إلغاء التنظيمات التي تم تكوينها على أساس قبلي، ومنع تكوين أو تسجيل أية تنظيمات على أساس قبلي ). و جاء في المذكرة التفسيرية للقانون ما يلي : (علينا رفع شعارات الوحدة الوطنية، وإيقاف كل الممارسات التي تشجع القبلية والجهوية والعنصرية، وأن نرسّخ لأن تكون المواطنة هي الأساس لنيل الحقوق والواجبات). إنتهى
أثارت عبارة ( أن تكون المواطنة هي الأساس لنيل الحقوق والواجبات ) ثائرة حزب التحرير فأصدر بياناً بتوقيع الناطق الرسمي بإسمه إبراهيم أبوخليل تحت عنوان "الوطنية علاجٌ بالتي هي الداءُ" , قال فيه إنَّ ( مبدأ الإسلام العظيم قد حكم ببطلان روابط القبيلة والجهة والوطن، وجعل الرابطة بين المسلمين هي رابطة الأخوة الإسلامية ), واضاف أنَّ ( الأساس للحقوق والواجبات هو العقيدة الإسلامية، وليس المواطنة ).
في البدء يجب علينا الإشارة إلى أنَّ إزدياد نفوذ القبيلة وتصدُّرها المشهد السياسي والإجتماعي كان نتاجاً مباشراً للسياسات الحكومية التي تعمَّدت تحطيم الأحزاب والطوائف التي إستطاعت أن تحد من غلواء التعصب العرقي والجهوي وجمعت في أحشائها مواطنين من مختلف المشارب بروابط متقدمة على رابطة القبيلة وكانت تسير في الوجهة الصحيحة للتاريخ التي كان مؤملاً أن تؤدي للإنصهار الوطني.
قد أجبر أختبار السُّلطة جماعة الإخوان المسلمين (المسمى الأصلي لكبرى حركات الإسلام السياسي) التي نشأت وترعرعت في أوساط الطلاب والمثقفين والقطاعات الحديثة علي التخلي عن شعاراتها وعن القواعد الإجتماعية التي أستندت عليها فارتدت متوسلة الي الحكم بالقبيلة والعشيرة وهو الأمر الذي يناقض رسالتها الأصلية كحركة تدعّي التحديث وتحارب الجمود والأنغلاق وتسعي لتغيير الواقع نحو الأفضل.
وعندما وقع الخلاف بين جناحي الحركة في 1999 أطلقا مارد القبيلة من قمقمه في دارفور, واستخدما عصبية القبيلة لحسم الصراع بينهما, ثم أخذ كل طرف يلوم الطرف الآخر, وعندما سأل محرَّر صحيفة "أجراس الحُرية" نائب الرئيس السابق الحاج آدم عن الجهة التي تتحمل مسئولية ماجرى في دارفور قال بكل وضوح ( نحمِّل المؤتمر الوطني المسئولية لأنه قام بتسليح الناس وقسمَّهم إلى قبائل وما زال يفعل ذلك إلى يومنا هذا ).
لم تكن حركة الإخوان المسلمين حتى الستينيات تؤمنُ بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات في الدولة والمثال الأشهر الذي نوردهُ على الدوام في هذا الخصوص هو الحوار الذي جرى أثناء مداولات اللجنة القوميَّة للدستور الدائم بين المرحوم الأب فيليب عباس غبوش والدكتور حسن الترابي حول أحقيَّة غير المسلم في تولي منصب رئيس الجمهورية في ظل حكم الشريعة الأسلامية.
أوردت مضابط اللجنة نص الحوار كالتالي :
( السيد موسى المبارك : جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة حول الدستور الإسلامي في صفحة (7) أن يكون رأس الدولة مسلماً . أود أن أسأل هل لغير المسلمين الحق في الإشتراك لإنتخاب هذا الرئيس؟
السيد حسن الترابي : ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من إنتخاب الرئيس المسلم, الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين, أمّا فيما يتعلق بالمسائل الإجتهادية فإذا لم يكن هناك نص يترك الأمر للمواطنين عموما, لأنّ الأمر يكون عندئذ متوقفا على المصلحة, ويُترك للمواطنين عموما أن يقدّروا هذه المصلحة, وليس هناك ما يمنع غير المسلمين أن يشتركوا في إنتخاب المسلم, أو أن يشتركوا في البرلمان لوضع القوانين الإجتهادية التي لا تقيّدُها نصوصٌ من الشريعة.
السيد فيليب عباس غبوش : أودُ أن أسأل يا سيدي الرئيس, فهل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيُختار ليكون رئيساً للدولة ؟
الدكتور حسن الترابي : الجوابُ واضحٌ يا سيدي الرئيس فهناك شروط أهلية أخرى كالعُمرٍ والعدالة مثلاً, وأن يكون غير مرتكب جريمة, والجنسية, وما إلى مثل هذه الشروط القانونية.
السيد الرئيس : السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى.
السيد فيليب عباس غبوش : سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين – فقط هذا الكلام بالعكس – فهل من الممكن أن يُختار في الدولة – في إطار الدولة بالذات – رجل غير مسلم ليكون رئيسا للدولة ؟
السيد حسن الترابي : لا يا سيدي الرئيس ) إنتهى
وبعد أكثر من ثلاثةِ عقودٍ من تاريخ ذلك السؤال وتلك الإجابة حمل الدكتور الترابي أوراقهُ وتوجَّه صوب ولاية الجزيرة ليخُطَ في خلوتهِ الشهيرة دستور السودان للعام 1998 والذي كتب في مادته 21 ( السودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة, ولا يجوز التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية, وهم متساوون في الأهليِّة للوظيفةِ والولايةِ العامة ).
يُريد الإخوة في حزب التحرير أن يُعيدوا عقارب الساعة للوراء, وأن يقترحوا أن تكون العقيدة وليس المواطنة هى أساس الحقوق والواجبات, وهو ما يعني أن يُصبح غير المسلم مواطناً من الدرجة الثانية, فعلى العكس مما جاء في بيان حزب التحرير من أنَّ ( الدولة في رعايتها لشؤون رعاياها تنظر للجميع نظرة رعوية واحدة لا تفرق بين المسلم وغير المسلم، ومن باب أولى بين المسلمين على مختلف قبائلهم وألوانهم وأجناسهم ), فإنَّ الدولة التي تنبني الحقوق والواجبات فيها على أساس العقيدة هى بالضرورة دولة منحازة.
ولإثبات تحيُّز الدولة و إنتفاء المساواة بين مواطنيها في ظل غياب مفهوم المواطنة نعيدُ طرح نفس سؤال الأب فيليب غبوش على حزب التحرير : هل يُمكن لغير المُسلم أن يُصبح رئيساً للبلد في ظل سيادة المبدأ الذي يقول أنَّ العقيدة الإسلامية هى أساس الحقوق والواجبات ؟
مأساة حركات الإسلام السياسي أنها لا تستفيدُ من الدروس والتجارب ولذلك فهى تعجز عن خلق التراكم في الخبرة وهو أمرٌ ضروري لتجنُّب تكرار الأخطاء والدوران في حلقة مفرغة, وليس هناك مثالاً اوضح من تجربة حكم الإخوان المسلمين و الرئيس محمد مرسي في مصر, والتي لم تستفد من تجارب حكم مثيلاتها, وتجاهلت نصائح رجب طيب أردوغان و الدكتور الترابي, وعندما سئل الأخير لماذا لم يستمع إخوان مصر لنصائحك قال بسخريته المعهودة : يعتبروننا برابرة.
إنَّ إعتماد العقيدة أساساً للحقوق الواجبات لن يؤدي فقط إلى هضم حقوق غير المسلمين بل سيؤدي كذلك لسلب المرأة من كثير من حقوقها, ومن بينها حق الترشح للرئاسة وولاية الولايات و القضاء وغيرها.
يقول بيان حزب التحرير كذلك أنَّ ( النظام العلماني المطبق في السودان, هو الذي أعلى من رايات الجهوية والقبلية، وأذكى نيرانها ), ويُؤكد أنّ ( إجتثاث النعرات الجاهلية, من جهوية وقبلية ووطنية، إنما يكون بتطبيق نظام الإسلام على الناس ).
إنَّ وصف حزب التحرير لنظام الإنقاذ بالعلمانية وصفٌ في غاية الغرابة فالأخيرة تعني النأي بالدين من الشأن السياسي بينما الإنقاذ تعتبر أكثر أنظمة الحكم السودانيَّة إستخداماً للشعارات الدينية في أمور السياسة, و من ناحية أخرى فإنّهَ في ظل حكم مختلف الأنظمة السودانية الأقرب روحاً للنظام العلماني لم تكن رايات الجهوية والقبلية مرفوعة مثلما هى عليه اليوم.
أمّا حديث حزب التحرير عن تطبيق "النظام الإسلامي" فهو مُجرَّد شعار غير قابل للتطبيق, حيث لا يوجد في أرض الواقع نظام للحكم إسمه النظام الإسلامي, وإذا أمعنت النظر في أطروحات جميع حركات الإسلام السياسي ستجد أنَّ لكل منها تصوُّر مختلف عن الأخرى لماهية ما يُسمى بالنظام الإسلامي.
فحزب المؤتمر الوطني يعتبر الإنقاذ حكومة إسلامية بينما ينظر إليها حزب التحرير بأنها علمانيَّة, ونظام الملالي في إيران يعتبر أنَّ حكومة الولي الفقيه هى التجسيد الأمثل للنظام الإسلامي, وطالبان أفغانستان لهم تصوُّر مختلف للحكم الإسلامي, وكذلك حزب العدالة والتنمية في تركيا, وحركة النهضة في تونس إلخ ...
إنّ الوطنية ليست نعرة جاهلية كما يقول حزب التحرير, بل هى حبٌ و إنتماء وولاء حقيقي لا يجب أن يوضع في موضع التعارض والتناقض مع العقيدة الدينية, وعندما أخرج الرسول (ص) من وطنه مكة خاطبها بالقول : إنَّ الله يعلم أنك أحبُّ بقاع الأرض إلي قلبي ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
حتى دعوة الخلافة التي ينادي بها حزب التحرير لا يمكن أن تلغي مفهوم الوطن, فالخلافة ليست سوى كيان سياسي تاريخي وليست أصلاً من أصول الدين أو ركناً من أركان الإيمان, بينما الوطن واقع ماثل ولدنا وعشنا فيه ونموت وندفن في ثراه, ونضحي بالدماء فداءً لترابهِ, فكيف نسمي مثل هذا الإنتماء نعرة جاهلية ؟
تجربة الخلافة التي يُراد لنا العودة إليها لم تكن بتلك الصورة الورديَّة الزاهية التي يرسمها دعاة الإسلام السياسي, بل كانت تجربة إنسانية وقع فيها الكثير من الإستبداد والظلم والإضطهاد, وسالت فيها الدماء منذ أن تحولت لملك إمبراطوري وراثي عضوض شأنها شأن جميع أنظمة الحكم في العصور الوسيطة, وانتهت في خاتمة المطاف إلي دولة نظرت إليها الشعوب الإسلامية كمستعمر غاصب.
هل يدري حزب التحرير أنَّ الشعب السوداني ثار على ولاية الخلافة الإسلامية العثمانية ( الإستعمار التركي) ثورة دينية ( الثورة المهدية ) ما زالت محط فخر السودانيين حيث خلصتهم من حكم لم يروا فيه سوى المستعمر الغاصب الذي جاء لينهب ثروات بلدهم ويثقل كاهلهم بالجبايات والضرائب, وكذلك كان الحال في جميع الدول العربية.
إنَّ إحتقار الوطنية – وهى فكرة متجذرة لدى كافة حركات الإسلام السياسي - هو الأمر الذي يسمح بالتفريط في أرض الوطن بكل سهولة مثلما حدث في الجنوب, وهو كذلك مدخلٌ لإقحام البلد في شئون الدول الأخرى حيث يشعر المُسلم أنهُ مسئول عن كل ما يدور في البلاد الإسلاميَّة, وهى أمورٌ عانى منها السودان كثيراً.
ختاماً نقول : النظام الديموقراطي التعددي الذي تنهضُ فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة, ويسمح بالتداول السلمي الحقيقي للسلطة يشكل النظام الأمثل الذي يمكننا من تفادي خطر تفاقم القبلية والجهوية.