محجوب شريف .. شاعر.. ضمير أمة!!
د. ابوبكر يوسف
24 April, 2014
24 April, 2014
• المعلوم أن الموت حالة فيزئائية ولكنها تحولت في حالة الرمز – الحاضر بيننا دوماً – الشاعر الفذ محجوب شريف إلى حالة خلود الرموز التي ما انحنت يوماً لتملأ بطنها بكسرة خبز مغموسة بذل المساومة ، محجوب شريف هو وطن وضمير أمة ، فهل تموت الأوطان وهل تموت الضمائر الحية الثائرة أم تظل هامتها سامقة سموق نخيل الشمال لتناطح سحب الطغيان ؟!! ... محجوب شريف كان صهيل الغلابة المتعبين ، وأنين المحرومين وآهات اليتامي والأيامى والأرامل المتعبات ، كان معاناة الغلابة من أجل لقمة عيش ، فاللقمة التي يحلم بها محجوب هي تلك التي تأتي بكرامة وعزة نفس في شموخ جبال التاكا !!
• رحيل محجوب هو رحيل جسد ، فالشعراء كما قيل لا يموتون، وانطلاقاً من هذا التأويل تغدو المجازفةُ اللغوية بالقول "إن الشعراء لا يموتون" ممكنة وصائبة. فالشعراء (كسواهم من المبدعين والفنانين وشهداء الجمال) قادرون على تحدِّي النسيان والاستمرار في ذاكرة من يواصلون الحياة بعد رحيلهم. فإذا كان الموت – كما يقول ساراماغو – هو الثمرة الأخيرة لإرادة النسيان...فسيكون بإمكان إرادة التذكّر أن تخلد الحياة لشاعر فذ هو محجوب شريف.
• الدعوة إلى رد الجميل في هذه الليلة الوريفة المزدانة أغصان نخائلها بالأفذاذ والشعراء الادباء وكل صاحب ضمير حي في هذا الوطن الذي أنجب خرائد مثل محجوب شريف، هي، إذن، دعوة إلى مائدة حب، مائدة جمال، مائدة إنسانية بسيطة بساطتها تتجلى في الوفاء ، خبزها وشراب شعيرها شعرُ شاعر الشعب محجوب شريف المرهفٌ والجارح كمخلب الوردة، المتدفق والحار كصلاةٍ ارتجالية مرفوعة من أفواه بشرٍ خذلتهم الحياة وأنصاف الآلهة وساسةُ الظلام، وتركتهم معلقين بحبال صرخاتهم كحشرجةٍ لا تصل إلى حارس جهنمٍ أو متعهد ملكوت.
• للغلابة والحزانى والمسحوقين لليتامى والأيامى والأرامل وملح الأرض، عن هؤلاء، كتب محجوب شريف. ولهذا عاش حياته كلها وهو يلاحق حروب الضعفاء، والقضايا الخاسرة للمظلومين، والشهقاتِ المريرة لبشرٍ مضطهدين تداس كرامتهم وأرواحهم بنعال أشباه بشر عاجزين عن مقاربة الحياة وتذوقها إلا بواسطة السياط والهراوات والملاقط الكهربائية!!
• نتوهم أحياناً أننا نعرف الكثير عن محجوب شريف من حجم الأحزان والمعاناة التي عاشها صاهلاً باسم الغلابة، يمضغ مر معاناتهم، فيحيل هذه المعاناة إلى كائن شبح يؤرقه ويحاربه ، ولم يحاول أن يهرب منه كما تهرب الناس من الاشباح، ولكننا غالباً ما نكتشف أننا لا نعرفه جيداً، أو ربما لا نعرف عنه أي شيء غير أنه "مشاعً " شعري غاضب تتداوله الألسنة والأقلام وقلوب المحبين. شعره صرخةٌ متصلة منذ أواخر قرنٍ مضى وحتى الآن: صرخة ذعر، صرخة شقاء، صرخة ندم على الحياة في أوطان مهتوكة الضمائر والقلوب، تجعل قلب الشاعر ينفلق مرارةً أو قنوطاً أو خوفاً: محجوب صرخة حب مقموع لا يتم تبادل أزهاره وقبلاته في مرحلة ما إلا في الأنفاق والأزقة الخلفية وعلى ألسنة الغلابة أغنية ، هو كطقوس سحرٍ أسود قادرة عن اقلاق مضاجع الشياطين أو تهدئة خواطر الآلهة . صرخةٌ جارحة سوداء موجهة إلى الله، والبشر، والطغاة، والملائكة. خليطٌ من هتاف أملٍ وحشرجة يأس، من صلوات حب ولعنات كراهية: محجوب خليطُ حياة الغلابة!!.
• في شعر محجوب شريف حزن أبدي، ومرارة كابوسية، وعواصف شقاءٍ تعجز عبقريات الطواغيت كلها عن لجمها وتطويعها. شعر ينتمي إلى ذلك النوع النادر من النباتات الغامضة التي لا تتفتح أزهارها إلا في اشراقات الصباح لا ظلمات الكوابيس ، هو الصلوات التي لا تزدهر إلا في المآتم وعلى أنقاض الكوارث... وما أكثر المآتم والكوارث في تاريخ بلادنا الذي يبدو وكأنه تاريخ خاص بالفظائع، وسجلُّ أزلي حافل بالدماء وتضرعات الموتى والمُغتصَبين التي لم تصل، ولن تصل في أي وقت، إلى أذن طواغيت أو أنصاف إلهة. إضافة إلى ذلك، أو ربما قبل كل ذلك، أرى أن فطرية محجوب شريف...الفطرية النظيفة المنزهة الأصيلة والحارة في آن، هي المنبع الأطهر والأعمق لأهم ما كتب من شعر ونثر. هو حقاً شاعر فطري، لا نشم في قصائده رائحة احد، ولا نكاد نعثر لديه على أية إشارة ولو صغيرة تذكرنا بمرجع أو مدرسة أو نظرية. فطري إلى درجة الإعجاز. "
• لابد لنا في هذا المقام إلا أن نطرح سؤالاٍ يبدو ساذجاً ، فنتساءل من هو محجوب شريف ؟...إنه رجلٌ شقيّ يخفي في قلبه صنوفاً من العذاب الدفين، وإن كانت شفتاه قد شكلتا بطريقة تجعل الآهات والصيحات التي تفلت منهما وتبدو كالأنغام الموسيقية العذبة. مصيره أشبه بمصير أولئك الأشقياء الذين كانوا يتلظون بالعذاب في العصور القديمة على نار هادئة، وتقوى صيحاتهم على بلوغ آذان الطاغية لتبث في قلبه الرعب، بل وكان يرن صداها في مسامعه كأنغام الموسيقى.
• هل هي عادة ورثناها، ام تقليد ابتدعناه، أن نكرّم عظماءنا فقط عند موتهم، او بعد موتهم، وكأننا لا نرى قيمة للحياة إلا عبر نافذة الموت؟!
• في ذاكرتنا العربية السحيقة اننا لم نتعرف الى صخر وبطولاته واخلاقه السامية إلا من خلال مرثيات اخته "الخنساء" ولم نتعرف الى بطولات كليب واخلاقه ايضاً إلا من خلال رثاء شقيقه "المهلهل" ... وتغص ذاكرتنا بامثلة لا تحصى. ويبدو اننا ما زلنا، وربما سنبقى الى زمن طويل، نتقن تكريم موتانا ونتنكر لاحيائنا. فهل رايتم رئيساً او مسؤولاً عربياً كبيراً يعلق ارفع الاوسمة على غير نعوش الموتى؟! .. ونـحن، بكل أسف، في الرأي الآخر سنراكم مرثية فوف المراثي، وتكريماً متأخراً الى تكريمات اخرى جاءت ايضاً متأخرة. فمتى نتعلم تكريم كبارنا قبل موتهم؟!
• محجوب شريف : أرجوك أسمعني .. وأعلم أنك تسمعني الآن وادرك اني اغامر بالمشاعر الباقية من بقايا عمرٍ مهتريء.. و اعرف ان الوقت يستريح .. اتعبني موعدك على ضفة الساقية ، فانا لن اتي لانني لا احتمل.. صدمة اتية ، قد يقتلني الحب الشعر ، حب دفين.. فاموت.. موتتي الثانية !! ، واعاتب حظي الجميل ،قد اغادر جلدي.. قد يعاتبني شعري.. وفي صدرك بعض الانانية .. محجوب شريف كلنا ذاهبون ولكن أمثالك من الشعراء الأوزان لا يموتون .. فكلنا هالكون.. حتى الاحياء منا.. اموات مؤجلون.. لكن الشعراء.. يا محجوب لايموتون. !!
• وداعاً ايها الشاعر الجميل يقولها بحزن وأسى كل بيت من أرض الوطن ، وكل حواري أمدرمان، وهم الذين اّلمهم رحيل شاعر فريد من أبرز الشعراء,كيف لا؟ وهو الذي أغنى الألسن والعقول والمكتبات بأعماله .. بقصائده التي غنّاها ولحّنها له الكبار الكبار في عالم الغناء.
• محجوب : دعني أناجيك وأقول: "أجمل ما في الأرض أن تبقى عليها"، فلماذا خذلتنا أيها الفارس المتفرد وغدرت بنا فرحلت بلا وداع محكماً فينا مزاجك المتفرد ؟!!... سنظل نقرأ غدنا في أشعارك ، وسنظل نقصد قصائدك لنسمعك تقرأ شعرك فتصير الريح موسيقى .. فرح تراقص النوارس المبشّرة بقرب الانتصار بالأرض وإنسانها الذي بغير الحب والشعر والإيمان بذاته لا يمكن أن يخرج من جحيم الهزيمة. محجوب يتبنى طفولته التي تركت أثراً في الحيطان والشتول والبرك والأعشاش والأشجار المسكونة بالعصافير. يتبنى طفولته ويتابع الركض فيها ويعيدها برموز أثقل وأكبر وبصور أكثر سيولة وبطرق أوعر. انه أخو الغيم تسود المطر الذي يهطل والسماء التي تغيم والروابي التي تسود والجبال التي تغور والغابات التي تتحبّر، كل ذلك سقط من جيوبه ومن نوافذه وأمطرته طفولته العائدة، لكن دائماً اقصر ودائماً أسرع ودائماً أكثر وحشة ودائماً أكثر ظلمة ودائماً مسكونة بعيون متحجرة ومناقير مبرية تطل من داخل الليل الذي لن يطول أمده، الليل الذي يقع في البئر ولا ينشله أحد. محجوب هو الشاعر الفذ، ونموذج الشاعر وقامة الشاعر، الهائم يشتري بالأحلام أحلاماً أقل. يكسب بالأغاني أغاني اقصر، يقول ويكره نفسه لأنه قال. يحب الى ان يزرّر الحب قلبه وفمه، يحب إلى أن تمتلئ رئتاه ماء، يحب إلى ألا يحب، إلى أن يغدو الحب عملة باطلة، إلى ان يشتري بالحب أقراصا للنوم. الشاعر الذي لا يجد ما يبيعه سوى قلبه، الذي يعير قلبه للصيادين. الذي يراشق بالكلمات التي تصيب و تغدو حجارة، الذي يؤاخي الطير والشجر والنجوم لكنها تهاجر وتتركه ينعى نفسه. الشاعر الذي كلمته الأخيرة هي الحجر الذي جثم على صدره، كلمته الأخيرة هي ان يغص بماء صدره. كلمته الأخيرة ألا تكون هناك كلمة أخيرة، انه يترك لنا وللأجيال أن نجد الخاتمة. رحل محجوب شريف . وهذه الصفحة تحية اليه. شعراء من غير بلد وغير أسلوب وغير جيل يودعونه!!
• لم يكن في حسبان ذاك المساء أن يحمل إلينا خبر محجوب شريف . ذلك أن الاحتمالات الكثيرة للموت لم تكن قد وضعت شاعر " يمة " في جدول أولوياتها.. ومع ذلك فلم يخطر في بال أحد أن خبر رحيله سيكون العلامة الأكثر قتامة وإثارة للأسى في ذاك المساء المشمس. ليس لأن الشعراء لا يموتون كغيرهم من خلق الله، بل لأن الشاعر الذي تتردّد لفظة الموت كثيراً بين ثنايا نصوصه كان يحسب دائماً أن نقل الموت إلى اللغة تحوّله إلى حالة جمالية مجردة وتبعده عن الحضور الواقعي المباشر. كأنه كان يضلل الموت بوضعه في خانة الرمز، تماماً كما يفعل المصارعون بالقماشة الحمراء على حلبات الصراع مع الثيران.
• وكحياته تماماً، لم يكن محجوب شريف ليقف في المكان الوسط من الخيارات. إذا كانت قصيدته تتسع لتملأ آلاف الصفحات ، أو تضيف من ناحية أخرى لتكتفي ببضعة أسطر. صحيح أننا كنا نأخذ عليه، أحياناً، غزارة فائضة وجيشاناً للغة لم يعمل على لجمه وترويضه، ولكن الصحيح أيضاً أنه كان يملك مخيلة برية لا تكفُّ أحصنتها عن الركض في الأماكن غير المأهولة للكلمات . والصحيح أيضاً أن شعره هو حصيلة تضافر خلاق بين ضوء الشمس وطراوة الينابيع، بين الصور المباغتة والإيقاعات المتهدجة كالنايات، كما بين الاستنفار لحواس المكون الانساني والأخلاقي وبين الانتشاء الروحي بفرح العالم وخفة عناصره التكوينية. إنه شعر يخاطب الوجدان بامتياز، ، بمعنى الانبثاق الدائم لحركة الخلق والعودة المستمرة إلى كنف الطبيعة التي ترفد القصائد بكل ما تحتاجه من صور وأطياف وتجليات. على أن شاعرية محجوب شريف الأكثر اتصالاً بالكثافة والإبهار والبراعة المشهدية الخاطفة تتمثل في مقطوعاته القصيرة،
• محجوب شريف وإن رحلت عنا فإنك لم تغلق الباب خلفك. ولم تتركه موارباً فحسب. فثمة كثيرون يريدون الدخول إلى المملكة التي أثثتها بحجارة الحب والشغف والكلمات. وليس المستقبل سوى واحد من زوارك الكثر. ها أنذا الآن أعيد قراءة محجوب شريف، شعره يجري في الروح كنهر أبديّ، رقيقٌ هو، يسكن بيت الشعر كأنه يسكن بيت الوردة. يغفو في غرفة الغلابة والتعابة ، ومع ذلك فأنه يحلم بغدٍ أجمل فيصحو على إيقاع موسيقى الحور.يناجي الله على طريقته، يرافقه الموج وصفصاف الغابة. يدخل الليل، يناغي القنديل، يشعل الماء، يجالس الحكماء: يسافر في ديوان الغيب...
• محجوب شريف شعره كالسيف المصقول المصفّى في عباراته الجياشة ، فهو يبدو عريساً من النحل له وخز، ولشدة ما يستمر لديه مطر الكلام، يتجلّى أميراً للغمام!.. هو سيّد القلق الجميل، لغته من ياسمين، وأحرفه ناريات محرقات !!.. شكّه من مُقل لا تنام، وأضلعه أسطر نُقشت فوقها خطب العاصفة. هذا الشاعر كان يرى أن أقسى سجونه جسده، حيث يحرسه قبره، وحيث الباب والجدران أيامه، ولا شيء سوى نافذة يلمح منها شجرات في ضباب الدمع قد فاح على أغصانها الكحليّة الدمع حمام الحسرات لأنه يغني للشعب باسم الشعب !!.. لكَم حفرَ عميقاً في جسد الليل حتى غدا بئراً أنزل فيها دلوَ الأيام ليملأها بمياه الشمس التي ستشرق بعد دياجير الأسى المجتر على شفاه المسحوقين!!..
• أخي محجوب شريف سأظل أراك في العشبة والعصفورة وسنبلة القمح وزرقة الماء!.. يا عاصر الشمس المعتّقة التي عانقت الغروب، ويا حبر حكايا الموج، وصانع مقل الرؤيا، وكأني بك تتساءل : أيهما كان أجدى؟! مجيئي أو ليتني لم أجئ؟! وأقول لك لكننا سنموت أخيراً، فأيّهما كان أجدى؟ مجيء يرافقه موته؟! أم مجيء بغير ضريح؟! ..
أخي محجوب، رغم هدوء المجاذيف فيك، ورغم أنك محوت المدى، سيبقى رسولك إلى الليل قنديل روحك. يا صاحب القامة الإبداعية الوطنية الشامخة، نحن في انتظارك. عُد إلينا.. عُد إليك بصهيل حرفك الباقي .. الباقي فينا !!
zorayyab@gmail.com