طبقات يوسف فضل في اتحاد الكتاب … بقلم: محمد الشيخ حسين

 


 

 




abusamira85@gmail.com

هل أتاك نبأ حديث المؤانسة الذي أمتع به البروفسير يوسف حسن فضل ذلك الحضور النوعي الراقي في مقر اتحاد الكتاب الكائن في أول امتداد للخرطوم قبل أن تنبعج وتتمدد وتتكور وتصبح مدينة عصية الفهم؟

شعرت بالأسف لعدم الحضور وأجبت سائلي الأستاذ أحمد طه (الجنرال) بأن مشاغل الدنيا تجبرني أخالف وعدي وأتلوم.

ورد الجنرال بلغة عسكرية صارمة لا أسف ولا لوم أكتب لي مقالا بعنوان (طبقات يوسف فضل).

وحين يأمرك الجنرال لا تملك إلا الإذعان، فهو قد تخرج في دفعة شهيرة من الضباط الأفذاذ في تاريخ القوات المسلحة السودانية هي الدفعة 23 التي يعرف خريجوها بـ (أولاد نميري)، وأبرزهم الآن وزيرا الدفاع والداخلية.

ينتمي البروفسيور يوسف إلى جيل سوداني كان يأتيه في مقتبل العمر طيف شخص من نور وجمال وحكمة، يقول له: هات يدك يا بني، فأنا أعرف أن في رأسك عقلا مختلفا ومتوثبا للتطور، كما أعرف أن في طوايا نفسك طموحا يضج يريد الخروج والتحليق، وأعرف أنك تريد أن تضع لك مكانا بارزا في المستقبل من ضمن أمة بارزة في التاريخ. فهات يدك يا بني لا تتردد ضعها في يدي، دعني أدلك على طريق المستقبل.

لكن يبدو أن السير في طريق المستقبل أو رحلة البحث عن نسايم المعرفة قد شغلت البروفسيور يوسف كثيرا عن أن يروي لنا حياته، نشأته أو صباه.

قرية تبورة 

تبدأ سيرة البروفسيور يوسف من قرية تبورة  بالمحمية، وهي قرية صغيرة تنام على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد عن الخرطوم بنحو 240 كيلو مترا شمالا.

وتبورة واحدة من  قرى كثيرة تنتشر في منطقة المحمية التي يحميها عدد من الأولياء الصالحين. وتنتشر في المنطقة أسماء لها عراقة في التاريخ منها سقادي وقباتي، وكلها ليس لها من اللغة العربية شيء، وربما كانت هي أسماء منذ عهد إمبراطورية مروي.

والسكان في قرية تبورة جلهم من الجعليين وبينهم عدد كبير من الفادنية.

وينتمي أهل البروفسيور يوسف إلى الفادنية الذين هم أبناء الإمام علي ابن أبي طالب عبر ابنهم محمد بن الحنفية، لكنهم اختلطوا بالجعليين اختلاطا من الصعب عليك أن تفرق بين من هو جعلي ومن هو فادني اختلطوا بالعالياب واختلطوا بالكتياب غرب النيل واختلطوا بالمكابراب واختلطوا بالجابراب.

زراعة ورعي

عندما ولد البروفسيور يوسف مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، كان جل السكان الذين يعيشون في المنطقة يعملون في الزراعة.

ومع ضالة المساحة المتاحة للزراعة على شاطئ نهر النيل (الجروف) كان السكان يكملون حياة الزراعة هذه بالرعي.

وفي موسم الأمطار كلهم يخرجون إلى الأودية خاصة وادي الهواد، لزراعة الذرة. وفي نفس الوقت خرج كثير من الناس من تلك المنطقة إلى العمل في الخارج خاصة الشباب، فتجدهم في: بورتسودان، سنكات، أروما، وقر، متاتيب، مكلي، وكسلا. ووصل بعض منهم  إلى إريتريا، وبلغوا مدينة تسني أو سهني كما يقول أهل المحمية.

وحسب الأحوال التي كانت سائدة كانوا يعملون غالبا في التجارة، وقلة منهم نالوا تعليما كبيرا حتى يلتحقوا بوظائف الحكومة، وبعضهم كانوا عمالا في سكك حديد السودان، وهذه من الوظائف التي كانت مفتوحة لهم.

في ذاكرة البروف يوسف من أيام نشأته الأولى في قرية تبورة ذهابه إلى الخلوة، كواحدة من المناشط، لكنه كان يخرج مع جدته لأمه سيرا على الأقدام إلى مسافة حتى يصلا موقعا مناسبا. وذات مرة ضلا الطريق وكادا أن (يضهبا)، لكن عناية الرحمن أوصلت الجدة والحفيد إلى المنزل سالمين.

وفي بعض الأحيان كان يخرج مع عمته إلى شاطئ النيل، حيث الجروف التي يملكونها. وفي ذلك الخروج يشبع الطفل يوسف نفسه بأكل قطع الصمغ السائل على لحاء الأشجار.

السكة حديد

على أن عالم محطة السكة حديد كان المظهر المهم في المحمية في تلك الأيام، خاصة أن كل قاطرات السكك الحديدية تتوقف فيها لنحو عشرين دقيقة، ومثلما يقول الناس في ذلك الوقت لتشرب، لأن القوة أو المادة التي تستخدم في الدفع في ذلك الوقت هي الفحم الحجري.

وكان سكان المحمية في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، يذهبون كلهم إلى تلك القطارات التي تتوقف لعشرين دقيقة خاصة قاطرات الركاب، ويبيعون منتجاتهم المحلية من السعف: بروش، تبروقات، مندولات، وحبال. والنساء كبيرات السن كن يحملن هذه المنتجات ويبعنها لركاب القطارات.

أما الصبية فكانوا يبيعون الشاي والقهوة، وكان حظ البروفسيور يوسف (الطفل) أن باع القهوة وكان يعود سعيدا بعائد اليوم كله الذي يبلغ قرش ونصف القرش أو قرشين في أحسن الحالات، وتلك كانت أيام سعيدة.

على أن المهم هنا أن هذه المنطقة تذخر بآثار كثيرة جدا ترجع إلى آلاف السنين، وهناك كتاب يحتوي على نحو 600 صفحة عن التاريخ القديم لهذه المنطقة نشره المتحف البريطاني باللغة الإنجليزية، وهو موسوعة علمية مهمة جدا لمعرفة تلك المنطقة وجذورها.

سيرة نضرة

على الصعيد الشخصي، لم أكن كثير علم بتلك السيرة النضرة والأسطر السابقة، جزء من فكرة لكتابة طبقات يوسف فضل، جاءت إثر نقاش حميم معه أو أحاديث مختلفة يذكر فيها طفولته وبعض مراحل تعليمه.

على الصعيد العلمي تحفظ عملية تدوين تاريخ السودان للبروفسيور يوسف، أدراكه منذ وقت مبكر، أهمية تحقيق المخطوطات في نسخاتها المختلفة وإقامة علاقات متميزة مع شهود عيان ورواة وشيوخ وأحفاد الذين لعبوا دورا بارزا في تاريخ البلاد.

وفيما يبدو لي أن البروفسيور يوسف حين غامر بتحقيق كتاب طبقات ود ضيف الله، كان على ثقة تامة بأنه يؤسس لعهد نضوج الاهتمام الوطني بالمخطوطات السودانية في مدوناتها المتعددة وأزمنتها المختلفة.

مجرد مقدمة

تلك السطور مجرد مقدمة لرواية طبقات يوسف فضل، وهي ليست (سيرة ذاتية) للبروفيسور يوسف فضل حسن، إنما هي مجرد محاولة لاكتشاف جوانب من شخصية رجل قدر لي الاقتراب منه والمعرفة المباشرة له والتعامل معه في مستوى فكري راق ملؤه الجد والحرية والتشاور والشفافية والاختلاف الرفيع أحيانا فيما يحلو فيه الاختلاف ويصح ويفيد. واسميتها طبقات تبركا بإنجاز البروفسيور يوسف الأكبر تحقيق طبقات ود ضيف الله، لأنه استطاع بعد بحث جاد وتنقيب دءوب أن يرجع النسختين المطبوعتين من الطبقات إلى أصولهما، ويضيف إليهما ست نسخ مخطوطة أخرى، جاعلا عمدتها نسخة البريات، بحكم أنها أقدم النسخ المخطوطة، وأقربها إلى الأصل، خاصة عندما نعلم أن النسخة الأصلية من طبقات ود ضيف الله قد فقدت أثناء الثورة المهدية. وهكذا أصبح البروفسيور يوسف أول من حقق طبقات ود ضيف الله تحقيقا استوفى كل المعايير العلمية المتعارف عليها في تحقيق المخطوطات، ومتخذا لموقف محايد، بدا واضحا في إشارته (ليس على المحقق في مثل هذا العمل الموضوعي أن يجعل نفسه حكما على معتقدات الناس، بل واجبه في المقام الأول استجلاء الحقائق في منهج علم).

وهنا يمكن القول إن البروفسير يوسف حين غامر بتحقيق كتاب طبقات ود ضيف الله، كان على ثقة تامة بأنه يؤسس لعهد نضوج الاهتمام الوطني بالمخطوطات السودانية في مدوناتها المتعددة وأزمنتها المختلفة. وعلى نهج الطبقات، انفتحت الساحة العلمية بخطوات متسارعة، لكن غالب الظن أن تفرد البروف يوسف ارتكز على أن معرفة ماضي الأجداد ومحموله الثقافي يعد نقطة انطلاق أساسية نحو مستقبل مشرق؟

أما الجديد حقا، فهو أن البروفسيور يوسف لا ينشغل بقضايا نظرية خالصة، إن ما يشغله هو محاولة إعادة بناء الذات السودانية في سعي حميم للإجابة عن سؤال قديم جديد فحواه (كيف يمكن للفكر المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه ويوظفه توظيفا جديدا)؟

اللقاءات النوعية

الجديد هنا أن اتحاد الكتاب السودانيين مطالب بالإكثار من هذا اللقاء النوعي الذي أنعش فيه مقدم الحلقة الدكتور أحمد الصادق (رد الله غربته)، ذاكرة السودان المعاصرة، ومطالب أيضا بتوسيع نطاق الدعوة لها تشجيعا لحوار الأطراف المعنية المأمول في المسألة السودانية. وهذان مطلبان أرجو أن يوليهما الأستاذ كمال الجزولي بصفة (المثقف النبيل) اهتمامه الشخصي.

حصاد القول: إن حضور حديث المؤانسة والامتاع  الذي البروفسير يوسف قدمه في دار اتحاد الكتاب السودانيين قد زاده حضورا وبهاء، وضاعف من ألقه بما يساوي أكثر من نصف قرن من الزمان قضاها في البحث والعلم. إنه يوسف فضل المتجدد بعلمه وإبداعه.

نقلا عن جريدة الصحافة

 

آراء