الإنتخابات وميثاق التصالح والتعافي

 


 

 


الساحة السياسية الفرنسية مشغولة هذه الأيام بالإعتقال التحفظي لوزير الداخلية السابق "كلود قيان" و هو من المقربين للرئيس الفرنسي السابق "ساركوزي" . أصل القضية هو الكشف عن مبلغ 500 ألف يورو في حسابه المصرفي دون مصدر مصرح به لتلك الأموال!!! وتدور حولها أقاويل بأنها جزء من تمويل ليبي دفعه القذافي لمساندة حملة ساركوزي الرئاسية في 2007م!!! إلا أن الوزير السابق إدعى بأنه باع لوحتين من مقتنياته الخاصة لجهات خارج فرنسا!!! وهنا سئل لماذا لم يقم بإستخراج تصريح لتصديرتلك اللوحات و لم يقم بالإعلان الضريبي عنها!!!
كما تنشغل  الساحة السياسية والفكرية الفرنسية هذه الأيام بالصراع المحتدم والناري بين رئيس الوزراء الفرنسي "مانويل فالس" الإسباني الأصل والذي نال الجنسية الفرنسية عام 1982م،  والفيلسوف اليساري "ميشيل أونفري"، ووصلت التراشقات بينهم الى مرحلة  "قف تأمل"  أولاً ثم إنتقلت إلى مرحلة الشتم  "ختوه قرض" .
بالرغم من أن الأثنين ينتميان إلى الحزب اليساري الحاكم، إلأا أن موقف رئيس الوزراء جاء إنتقاداً لمساندة الفيلسوف اليساري "أونفري" للفيلسوف "آلان بنسوا" ، وهذا الأخير قريب لحزب اليمين المتطرف، وكذلك إنتقاصه في ذات الوقت من مكانة فيلسوف يساري أخر هو "بيرنارد هنري ليفي". موقف  رئيس الوزراء  يأتي منسجما مع قيامه هذه الايام بحملة شرسة ضد حزب اليمين المتطرف خاصة في ظل إقتراب انتخابات أعضاء و رؤوساء المجالس الإقليمية. وقد وصلت حدة التراشق إلى أن وصف الفيلسوف أونفري رئيس الوزراء الفرنسي بأنه "أبله" !!! ولم يتعرض له أحد!!! 
مايهمنا هنا هو عدة نقاط نبدأها بالأهم ألا وهي  إنفصال وإستقلال أجهزة الدولة ولا سيما الجهاز القضائي عن الحكومات!!! فحتى الأن يندر أن يوجد رئيس فرنسي أو وزير أو مسؤول كبير سلم تماما من "البهدلة" أمام الجهاز القضائي وغالبا ما ينتهي الأمر بتقديمه للمحاكمة !!!. النقطة الثانية هي أنه في غالب الأحوال في بلاد الغرب يقدم أهل الكفاءات على أهل الولاءات والدليل على ذلك وصول هذا "الأجنبي" الإسباني الذي نال الجنسية الفرنسية وهو في حوالي العشرين من عمره  إلى أن أصبح رئيسا  للوزراء في فرنسا!!!
ثم نأتي لهذه الحرية الكبيرة التي تتيح لأعضاء في حزب واحد إتخاذ مواقف فكرية أو سياسية متباينة أو مختلفة تماماً، بعيداً عن إتباع سياسة الرأي الواحد " La pensée unique"  أو وجود مرجعية واحدة - الشيخ، الأمام، الإستاذ، المرشد، الراعي- هي صاحبة القرار في كل صغيرة وكبيرة. 
أما في بلادنا التي يحق فيها حتى لمن يسطو بليل على القصر الجمهوري والقيادة العامة والإذاعة والتلفزيون ومداخل العاصمة "الكباري"، أن يتملك ما بين ليلة وضحاها كل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية والقوات النظامية والأجهزة الأمنية والصحافة والإعلام!!!!
ثم أول ما يبدأ  به "سارق السلطة" فرض حالة الطوارىء وتحريم الحريات جميعها، بل يذهب الحزب الحاكم عبر إجهزة الدولة التي سرقها إلى التنكيل بخصومه السياسيين وأصحاب الافكار المختلفة عنه بالسجن والسحل والقتل ومثال لذلك د.علي فضل الله. بل يمتد الإرهاب حتى لأعضاء الحزب الحاكم إن خرجوا على خط الحزب ومن ذلك سجن الفريق صلاح قوش وضرب الصحفي عثمان ميرغني.
ثم يستمر الحزب الحاكم في فرض سياسة الأمر الواقع وإستخدام آلية الترهيب والترغيب وصولا للتمكين وتقديم أهل الولاءات على أهل الكفاءات،  ولا يهدأ له بال فيستمرى لعبة الإرهاب ليل نهار إبتداءأً من "جبناها بالسلاح الدايرها يأخدها مننا بالسلاح، حشرات، شحاذين،لحس الكوع،  شذاذ أفاق، تربية شيوعيين،...الخ" !!! ينسب الى  نيكسون قوله  "إن من يكرهونك لن ينتصرون، حتى تبادلهم الكراهية، و بذلك تحطم نفسك".
حتى إذا ترك الاخرون لتلك الحكومة الظالمة "الجمل بما حمل" ولم ينازعوها السلطة، وأحتفظوا بحقهم في عدم المشاركة في الإنتخابات واالوقوف موقف المتفرج، تنهال عليهم الأوصاف والنعوت فيقول د.مصطفى عثمان "لكن أمثال هؤلاء لا يستحقون شرف الانتماء للوطن ناهيك عن شرف قيادته، هؤلاء لا يستحقون شرف حكم البلاد" !!!  وسبق له وأن قال "الما داير يدينا صوته، ما يمشي في ظلطنا، وما يولع كهربتنا، وما يشرب مويتنا"…، وقوله في 09/03/2015م "البمد يدو علينا بنكسرا ليهو" !!! . أقوال د.مصطفى عثمان السابقة تقلل من نفيه لما نسب إليه من قوله في إجتماع في 13/08/2014م "لابد ان نجعل مجرد التفكير في خيارات الاطاحة بنا صعبة، وان تكاليف التداعيات المصاحبة لاي محاولة لاسقاطنا مكلفة وباهظة الثمن، وان من يقدم عليها او يخرج في المظاهرات يدفع حياته ثمنا لذلك..." !!!
إذن قيام الإنتخابات من عدمها ونجاح الحزب الحاكم في تثبيت تمكينه من أجهزة الدولة لا يجب أن يمنع الصادقين والمخلصين والمفعمين بحب الوطن من السعي الى "تسوية سياسية شاملة بالوسائل السلمية"  والتنادي بتشكيل حكومة قومية عريضة بصلاحيات حقيقية تسعى جاهدة لإحلال سلام بين أبناء الوطن الواحد عبر التوقيع على ميثاق التصالح والتعافي وتهدئة النفوس والذي يضمن إطلاق سراح جميع سجناء الرأي وبسط الحريات الشامل. وضمان حرية العمل السياسي السلمي لكل الأحزاب السياسية وصولاً لحوارات ولقاءات تفضي بالوصول لدستور دائم يبشر بمستقبل أفضل للسودان.
ما يهمنا هنا  التأكيد على ضرورة التسامي فوق كل الخلافات الفكرية و السياسية وغيرها بين كل السودانيين حكومةً وأحزابا ومؤسسات مجتمع مدني وأفراداً، ومحاولة الوصول إلى " وصفة سحرية للتوافق حول صيغة للحكم وكيفية الوصول إليه.."، وهو أمر يمكن تحقيقه وليس بالمستحيل كما يتخيل البعض معتبراً أن "جرة" العمل السياسي قد أغلقت وأحكم غطاءها. فإذا تسامت النفوس وخلصت النوايا ونضج الوعي لكل قيادات المجتمع الفاعلة والمؤثرة من رجالات الأحزاب والمجتمع المدني والمفكرين وأصحاب الأقلام، وتنادى الجميع للتعافي والتصافي والتصالح والتسامح، وفتح صفحة جديدة حتى يتم العبور بالوطن إلى بر الأمان ، وتخطي هذه المرحلة الحرجة في تاريخه منذ أن وجد السودان، فما يلوح في الأفق لايؤذن بخير، بل هو نذير شؤم لتشظي السودان الى دويلات في دارفور وجنوب النيل الازرق وجنوب كردفان!!!
نوجه نصحنا هنا الى كافة الشعب السوداني بكل مكوناته الإثنية والثقافية والسياسية وإلى  من بيده مقاليد الحكم الأن وخاصة حزب المؤتمر الوطني للقول بإن الأمر جد خطير ووصل مرحلة الإحتقان الشديد الذي يسبق الإنفجار، يؤدي إلى إحتراب وإقتتال وإنتقامات وإنفجارات يمكنها أن تتناسل بلا توقف حتى تقضي على الأخضر واليابس في السودان ويومها لن ينفع الندم.
ولنغني مع ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة.
" جدودنا زمان وصونا على الوطن
على التراب الغالي الما ليهو تمن
نحن حافظين للوصية
جوه في قلوبنا الوفية
ذكراهم بتلهمنا
وتشجينا بعزيمة قوية
ليك يا بلدنا عاد
صارفين روح ونية
صاينين للتراب
وحافظين للوصية
بي سواعدنا القوية
حققنا استقلالنا ورفعنا علم الحرية
بيهوا الشعب احتفل
يوم جمع صفوفو
واتشمر للعمل
بي وحدة نضالو
كم حقق أمل
جدودنا زمان وصونا على الوطن
على التراب الغالي الما ليه تمن ".

wadrawda@hotmail.fr

 

آراء