تنتشر عبارة "يا فيها يا أفسيها" بين الإطفال الإشقياء في السودان، والتي تعنى أن مجريات الإمور يجب أن تكون بيدي -عقلية إستبدادية- أو أفسد عليكم كل شيء وأجعله مثل "الفساء" !!! وحتى وقت قريب كنت أظن أنها عبارة طفولية و ليست مفهوما متلازما لعقل الطفل السوداني منذ الميلاد ولا تنفك عن من لم ينضج عقليا وذهنيا مهما بلغ به العمر بل للأسف تصبح "سلوكا أخلاقيا" بائسا!.
الدليل على ذلك إستمع "يا رعاك الله" لهذه الجمل التي قالها رئيس المؤتمر الوطني البشير بعد عشرات السنوات من الوصول إلى سدة الحكم سأخراً من المعارضة "نعمل ليهم عمل نمغصم بيه ونقطع ليم مرارتهم" !!!، وكذلك قوله "...- من- ... يدخل أنفه في شغلنا حنقطعها ليو والبدخل رقبته في عملنا حنقطع رقبته" وهي نفس العقلية الإستبدادية التي إشرنا لها أعلاه !!!.
الافتتاحية السابقة هي مؤشر لمنهجية العقل الجمعي للطغمة الحاكمة في السودان، فهي منذ أكثر من ربع قرن ما فتئت تروع الناس قولاً و فعلاً ، ولنبدأ بما هو معلوم من السجل الإرهابي لتلك الطغمة الحاكمة منذ إستيلائها للسلطة، وإستهلالها بإعدام مجدي جرجس1989 م بتهمة الإتجار في العملة، وقتل د.علي فضل أحمد ، وقتل الطلاب بشير الطيب والتاية محمد ابوعاقلة وغيرهم، وإعدام الضباط "شهداء" رمضان 1990م، مروراً بالفصل للصالح العام والتعذيب في بيوت الإشباح وصولاً لإشاعة الموت الجماعي في الحروب الاهلية في دارفور جنوب كردفان والنيل الأزرق.
إن إسلوب إشاعة الخوف هو إسلوب العاجز عن الإبداع، الخائف من الحقيقة والصراحة والمحتمي بالإستبداد، ينسب إلى عبدالرحمن الكواكبي قول " أن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل فكفر وأبى، إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، ويرى أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل ..." .
إذن يشترك الإنقاذيون في صفة الإستبداد وهي صفة ذميمة وهي دلالة على العجز في كل الميادين، ومن ذلك عدم العجز التام وعدم قدرة النظام على إصدار إنتاج فكري أو علمي يحكي فيه تجربته في العشرية الأولى اوالعشرية الثانية ناهيك عن إنتقادها أو خطته للعشرية الثالثة، وكذلك مهاجمته لكل منابر الفكر والثقافة والمعرفة وإغلاق المراكز الثقافية ودور الفكر بل مصادرتها مثل دار إتحاد الإدباء، وممارسة الرقابة القبلية لكل الصحف والمصادرة الفورية أومنع النشر لكل الدوريات والكتب التي تخالف "فكر" الطغمة الحاكمة العاجز.
ومن أدلة العجز الذي ولد الإستبداد عدم القدرة على المحافظة على وحدة البلاد وضياع ترابه الممثل في إنفصال الجنوب وضياع حلايب والفشقة، واستشراء الفساد وتبرئية المفسدين عبر فقه "التحلل" واطلاق العنان للمحسوبية وأخيراً الإحتماء بالقبلية والجهوية.
إن وجود إشكالية العجز عن الإبداع والإنهزام النفسي أمام الحق لكل الإنقاذيين يدفعهم للإحتماء بالإستبداد و"قولبته" و"شرعنته" بإعتباره نوعية من العبادات يؤكد ما ذهبنا إليه قول د.الطيب زين العابدين الإستاذ الجامعي والإسلامي المعروف "...وكان أن سمعنا العجب العجاب بأن هناك من يتعبد الله سبحانه وتعالى بالتجسس على الناس وإعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم وفصلهم من أعمالهم وبتزوير الإنتخابات ونهب المال العام لمصلحة التنظيم"!!!.
بالرغم من كل ذلك السوء والفساد يظل أؤليك الإنقاذيين سودانيين "مننا وفينا" ونظل نتمنى لهم الهداية حتى إن ضلوا وعموا وصموا !!! إن الحب للسودان يدفعنا إلى أن نحاول قدر المستطاع إيجاد حلول توفيقية تساعد في إيقاف "دورة الانهيار بلا نقصان" والإندفاع بجنونية نحو محرقة الحروب الأهلية والقبلية التي لن تبقي ولن تذر، وقد تنتهي بتمزق وتشتت السودان إلى دويلات "قزمية" شبيهة بإمارات الصومال.
عليه لابد أن يصل السودانيون جميعا إلى قناعة بأن إستمرار الحال من المحال وأن إستمرار النظام الحاكم في تمدده الإستبدادي لا يبشر بخير بل ينذر بشر مستطير. ولا مخرج ولا مفر لأي جماعة حاكمة كانت أو محكومة من ذلك الشر الذي سيطالهم على كل المستويات. لأن شدة الظلم والإستبداد خلال ربع قرن قد ولدت كثير من الحنق والأحقاد التي ستنفجر عاجلاً أم أجلاً في شكل إنتقامات أو غيرها من صور تصفية الحسابات!!!.
لقد عبر الشعب السوداني في هدؤ عجيب وبإسلوب ديمقراطي راقي خلال الإإنتخابات في الأيام الماضية عن رفضه للنظام الحاكم من خلال الإحتجاب والامتناع عن التصويت، وهو إجماع سكوتي صارخ بالرفض للنظام الحاكم. إن إعتقاد النظام الحاكم إمكانية إكتسابه شيء من الشرعية من خلال هذه الإنتخابات، هو إعتقاد ناتج عن إستمرارية في تفكير المستبد أو الفرد العاجز الذي إن رفضت شرعيته سيقابل ذلك الرفض بمزيد من الإستبداد، وزيادة الإستبداد ستؤدي بدورها لزيادة صور رفض الشعب للنظام، وتستمر دائرة الشر المغلقة في تفاقم حتى تحرق الجميع بلا فرز.
نحن نستشرف هذه الوضعية المظلمة التي تهوي نحوها البلاد في سرعة جنونية بسبب إستبداد الطغمة الحاكمة، ولذلك نشدد على ما سبق وأن طرحناه في مقالات سابقة أي إيجاد إسلوبية سودانية خالصة أسمى من التحاور مع النظام أو الدعوة لإسقاط النظام بالعنف الثوري، أي إسلوبية التعافي والتصافي دون نسيان لعظائم الجرائم .والوصول لميثاق التعافي والتصافي يتم عبر تكثيف الإجتماعات واللقاءات من قبل كل الأطراف حكومة وأحزابا وجماعات مجتمع مدني وشخصيات قومية وأندية رياضية وأدباء ومفكرين وغيرهم، يتاندون برضى النظام أو غصباً عنه لوضع تصور لذلك الميثاق القومي والتوقيع عليه الجميع. ويبدأ بعدها بتشكيل حكومة قومية يغلب عليها "التكنوقراط" بنسب يتفق عليها بين النظام الحاكم والاحزاب اليمينية والأحزاب اليسارية والشخصيات القومية مع تبعة القوات المسلحة النظامية والغير نظامية والأجهزة الأمنية والقضاء للشخصيات القومية.
إخوتي السودانيين إستمعوا لنصح مواطن مولع بحب الوطن ويرى بأم عينيه بوارق نهايات مأساوية بل محارق تبدأ بالحكام ويندلق لهيبها إلى المحكومين. يأيها العقلاء من أبناء السودان في أي بقعة لا تقفوا مكتوفي الأيدي تشاهدون في سلبية "المتفرجين" إنهيار السودان، وإلا أصبحتم شركاء في ضياع الوطن . وليقم كل مواطن بتقديم أقصى ما يستطيع من مشاركة إيجابية لتحقيق ميثاق التعافي والتصافي وتنزيله عملياً لتحقيق السلام والحفاظ على السودان.