من الرفض الايجابي إلى الفعل (1): فوز حزب بلا عَمَدَ

 


 

 

توقفت عن الكتابة منذ اعلان الانتخابات، كانت وقفة مفيدة كإجازة من همها ولكن الاهم كان أن اتفرس فيما يحدث، لعل وعسى سوف تبدل مشهد الازمة.  طوال اكثر من ثلاث اشهر حدث هذا الانحراف الشكلي في المشهد السياسي، وبعد كل الذي حدث من انتخابات، احتفالات وتنصيب، فقد عدنا والحال كما هو. تمسك بنا الازمة الاقتصادية، الامنية، السياسية وتمظهرها في الفساد الضارب من القاع إلى الراس، سوء الإدارة، الفوضى وانسداد الافق. اعود إلى الكتابة وقد تغير المشهد الذي ساد منذ احداث سبتمبر 2013 ، إلى مشهد غريب لإنتخابات بلا مواطنين واحتفالات بلا مشاهدين، لكن الازمة لازالت كما هي.    

تصويتيات

كانت اول مشاركة لي بالتصويت في انتخابات، انتخابات اتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية في بورتسودان، تواصلت لمدة اربع سنوات، ثم شاركت في انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في عام 1969، واُنتخب على عثمان محمد طه رئيساً للإتحاد، بعد أن حصل الاتجاه الإسلامي وقتها على 19 مقعداً من مقاعد الإتحاد الأربعين فشكّل الأغلبية في اللجنة التنفيذية بالتحالف مع الوطني الاتحادي والأمة اللذين فازا بمقعدين لكلٍ منهم.

بعدها شاركت في انتخابات اتحاد الطلاب السوداميين في مصر وحتى تخرجي عام 1976. سمحت ظروف "المصالحة الوطنية" عام 1977، فسحة من ديمقراطية، فشاركت بنشاط في انتخابات اتحاد اطباء السودان، وشاركت في الاجتماعات الموسعة عن فرعية مستشفى الخرطوم بحري. المواجهات والاضرابات ادت لاحالتي للصالح العام عام 1978، اعادتي للعمل بعد عام ثم فصلي للمرة الثالثة عام 1980.

كان اول واخر تصويت لي في انتخابات وطنية عام 1986، مرة في الانتخابات العامة واخرى في دوائر الخريجين. وهكذا وأنا بعد الستين عاماً، لم استعمل صوتي الانتخابي سوى تلك المرة، مع ان الانظمة استعملت صوتي في استفتاءات عديدة، لا أدري هل مع 99%، ام مع المعارضين 1%، باعتباري معارضاً لكل الانظمة العسكرية.

تصاعدت الدعوات بمقاطعة الانتخابات، وكنت ارى هذا تضخيماً للامر، فالحقيقة انه ليست سوى احتفال حكومي من مثل الاحتفال بالاستقلال، القصر الجمهوري الجديد، زيارة الرئيس لكذا وكذا، افتتاح كذا واغلاق كذا. الحقيقة لا احد في السودان مهتم بهذه الانتخابات، لا الاقليم ولا العالم، المشغولين بها هم اعضاء الحزب الحاكم ليتقاسموا "الكيكة". فما الذي يدفع عاقلاً للتوجه لمركز انتخابات، يعلم يقيناً انها ستخج أصلاً. ومع أن الشعب سيلزم منزله في يوم اجازة، والمنافسة بين احمد وحاج احمد، لكن المؤكد انها ستخج من تيار ضد تيار.

حملة ارحل

ما حدث في الانتخابات، إذا جازت التسمية، كان مشهداً لابد أن يستوقف أي أحد. في دار حزب الامة القومي في مساء الاربعاء، 4 فبراير 2015 رأيت المستقبل. خاطب رموزالماضي، رموز المستقبل من جموع الشباب والشابات. انتخابات 2011 افرزت حركة قرفنا لاسقاط نظام المؤتمر الوطني، التي كانت منها ابرز قيادات سبتمبر 2013، وفي نفس الاتجاه أفرزت انتخابات 2015 شباب ارحل. في نفس الاتجاه اطلقت حركة "الاصلاح الآن" حملة لمقاطعة الانتخابات الاربعاء 11 فبراير2015 ، خارج حملة نداء السودان.

فاز الرئيس باكثر من 90% من عدد المصوتين (؟) وفاز حزب بلا عَمَدَ بغالبية الدوائر، ونالت احزاب الفكة نصيبها، لكن كان حال الانقاذ افضل قبل هذه الانتخابات، لأنه فقد كل الشرعيات والمشروعيات التي كان يملكها من بقايا اتفاق السلام ولو بالخج المنظم. لقد قرر الافراد السودانيين ان صوتهم عزيز لن يبذلوه إلا في انتخابات حرة نزبهة في ظل وضع مدني ديمقراطي، مما يضفي المشروعية على من ترتضيه حاكماً.

المشهد السياسي

نحن امام سلطة فاشلة بكل المقاييس، تحكمنا برزق اليوم باليوم، عاشت على التناقضات الدولية من نظام دولي وعربي لاخر، وعلى الانتهازية السياسية والمواقف اللامبدأئية للولايات المتحدة للاحتفاظ بها كنظام ضعيف لترتب حال جنوب السودان المائل بعد الانفصال، ومحاولة اخراجه من "دولة فاشلة" لدولة. ويصنف النظام ضمن المجموعة المنقرضة من الانظمة، لديها انتخابات ولكن ليس لديها ناخبين، مؤسسات ديمقراطية بلا ديمقراطية وظهر ذلك في اللامبالاة التي تواجهها من شعب كامل تجاهها.

في نفس الوقت لدينا حركة معارضة نشطة أحياناً، وحركة مقاومة تتنوع من مواجهات يومية في كل اطراف الوطن من متضرري بيع ارض السودان لكل فاسدي العالم ودوله، ازمات الكهرباء، الماء، الغاز، ارتفاع الاسعار، تفكيك المشاريع ونهبها، الفساد المدمر في كل مفاصل الدولة، الاختطافات، التعذيب والاغتيالات، حروب الهامش والهزائم تلو الهزائم، الانفلاتات الامنية، النهب والاغتصابات. تتنقل الحوارات منذ الانقلاب من عاصمة لاخرى، ومن مبعوث لأخر ومن هيئة دولية كسيحة لهيئة اخرى شبيهه ولا افق.   

جديده هذه الانتخابات أنها كلفت 800 مليون جنيه سوداني، وليس هنالك من ممول من المجتمع الدولي، واجحمت المنظمات الدولية من مراقبتها، سوى الجامعة العربية والاتحاد الافريقي وحالهما يغني عن السؤال. ادى هذا لضعف قدرة النظام على حشد آكلي سندوتشات وشراب بارد في تدشين حملته الوهمية، تأجير السيارات وغيرها. نخطيء كثيراً إذا ساورنا حتي التفكير أن النظام يهمه حشود المؤيدين، او ان تقاطع او لا تقاطع الجماهير الانتخابات، يشارك الناس او لا يفعلون، هذا اخر همها فهي معنية بالديكور وليس المسرحية. اكثر اهتمامه، ويجيدها بشكل بارع، عقد الصفقات مع اطراف النظام العربي والعالمي، مهتم بالوعود وليس التنفيذ. ان مفاهيم السيادة، الشرعية، النزاهة، الاستقامة، الحكم الرشيد كلها خارج اهتمامه ويمكن ان نبلها ونشرب مويتها.

إلى أين؟؟

عشية هذه الملحمة الشعبية، فقد اصبح النظام عارياً، وحزب بلا عمد، ومنسأته كعصا سليمان علية السلام. رغم أن حملة ارحل كان لها دور، فالمقاطعة كانت قراراً شخصياً توصل له كل فرد من الشعب السوداني. الذين يرون الحملة كان أثرها محدوداً محقين، لكن الحملة كانت تعبيراً دقيقاً عن ما توصل اليه فرادى السودانيين، ومقياساً لدقة التفاعل بين النخبة وشعبها، وهذا شرف يكفيها في هذه الملحمة الكبرى ويلقي بمسئوليات جسام عليها. لقد نفذ السودانيون اضراباً شاملاً كاملاً تجاه الانتخابات، وهو فعل إرادي ايجابي وموقف سياسي لم يحدث في حياتنا السياسية، سوى في اكتوبر وابريل. وعلى النخبة الاجابة على سؤال تحويل هذا الرفض الايجابي، إلى نهوض سياسي مدني فاعل.

 

آراء