السودان .. حين تصبح الحكومة أداة للعرقلة
من البديهي القول إن عمل الحكومة؛ أي حكومة، ينحصر في تجميع طاقات الشعب، وتنظيمها، وتوظيفها لمصلحته. ولذلك، يقول واحدٌ من تعريفات الديمقراطية إنها "حكم الشعب بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب". فمهمة الحكومة، بالمفهوم الصحيح لتلك المهمة، تنحصر أساسًا في التسهيل facilitation. وقد صور هذا المعنى، شعرًا، أبوالعلاء المعري، حيث قال، واصفًا بعض الحكام الجاهليين بمهمتهم، أو المتجاوزين الصلاحيات الممنوحة لهم، بقوله: "ظلموا الرعيةَ، واستباحوا كيدَها، وعدوْا مصالحَها، وهم أجراؤها". فالحاكم، وفقًا لتعريف المعري هذا، مجرد أجير انتدبته الجماعة، وفوضته سلطتها، ليدير أمورها بما يخدم مصالحها.
يجيء في مقابل تعريف الديمقراطية المشار إليه أعلاه، وتعريف أبي العلاء المعري الذي تلاه، تعريف كارل ماركس، الذي قال فيه: "الحكومة ما هي إلا لجنة تنفيذية، تستخدمها طبقة في اضطهاد الطبقات الأخرى". ويبدو أن تعريف ماركس هذا، على الرغم مما فيه من اشتطاط، وإطلاقية، لا يزال يعكس حقيقة ماضي البشرية الفعلي، وحاضرها القائم الآن، الذي لا يمثل العدل فيه سمةً رئيسة. فالتعريفات الأخرى لا تزال أقرب إلى عالم المثال منها إلى عالم الواقع، على الرغم من تطبيقات الديمقراطية في الفضاء الغربي الذي مرّت عليه بضعة قرون.
أدى ظهور الآلة الإعلامية، وتنامي سطوتها وجبروتها، منذ بدايات القرن العشرين، إلى منح الحكام، ومن ورائهم أهل الثروة الداعمين لهم، القدرة على تزييف وعي الشعوب وإرادتها، وإجهاض مخرجات النظام الديمقراطي. وعلى سبيل المثال، رأينا، كيف ضلل كلٌّ من جورج بوش الابن وتوني بلير شعبيهما، بشأن مبررات غزو العراق. ليتضح، بعد فترة وجيزة، أن ما جرى كان أمرًا أملته مصالح فئة قليلة ممسكة بمقاليد الأمور، وأنه لم يكن، في حقيقته، متعلقا بمصلحة أميركا وبريطانيا، أو بمصلحة السلم العالمي. ولا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن التجاوزات في الأنظمة الديمقراطية تتساوى مع التجاوزات في الأنظمة الشمولية، فالفارق بينهما شاسع جدًا. فعلى الأقل، توجد في الأنظمة الديمقراطية آليات وفرصٌ للتصحيح والمحاسبة، في حين تنعدم تلك الفرص في الأنظمة الشمولية.
جرّني إلى هذا الحديث مناصبة الحكومة السودانية منظمات المجتمع المدني العداء، ولأن الحكومة السودانية القائمة الآن ليست ذات باع طويل في مجالات الإنجاز، خصوصاً ما يصب منها في مصلحة الشعب مباشرة، كالخدمات، فقد أصبحت تكره، وبشدة، ما تقوم به منظمات المجتمع المدني. فقد ظلت لا ترى في ما تقوم به هذه المنظمات سوى فضح ٍلإخفاقاتها. ولذلك، اتخذت في مواجهة العمل الشعبي التلقائي الذي ينشأ لسد ثغرات التقصير الحكومي طريقين: أولهما؛ إنشاء منظمات تابعة لها تمنحها التسهيلات، بل والتمويل المباشر، لتقوم بتجميل وجهها. ويتم تقديمها للجمهور، من خلال الآلة الإعلامية التي تسيطر عليها الحكومة، على أنها "منظمات مجتمع مدني"، أساسها المبادرة الشعبية. غير أن هذا النوع من المنظمات المصنوعة التي تفتقر، أصلاً، إلى روح المبادرة والتجرد، تتحول إلى ذراعٍ حكومية، مصابة بالأمراض نفسها التي تقعد الأجهزة الحكومية عن الإنجاز.
أما الطريق الثاني الذي تسلكه الحكومة فهو عرقلة أعمال المنظمات المستقلة، وتكبيلها بالإجراءات الروتينية العقيمة، واستنفاد طاقتها في مطولات مصنوعة بعناية حتى يصاب العاملون في تلك المنظمات بالإحباط واليأس. وتحت ضغط إهدار الطاقة المُؤسس والمُمنهج، تصبح تلك المنظمات قليلة الفعالية. ثم يأتي، بعد ذلك، آخر الدواء؛ وهو تسليط جهاز الأمن لتدبيج تهم تلقّي المال الأجنبي، والعمل على خدمة أجندة أجنبية، والأمر بالإغلاق، كما جرى في السنتين الماضيتين لعددٍ من المنظمات الأهلية. وبطبيعة الحال، هناك منظمات يمكن أن تنطبق عليها مثل تلك التهم، لكن الحكومة السودانية تنشر بطانية واحدة على الجميع، بلا فرز. فالأمر لا يتعلق بحماية الوطن من الاختراقات؛ فسماواته وأراضيه يجري اختراقها ليل نهار، إنه يتعلق بأن الحكومة لا تحب، أصلاً، أن ترى في المرآة غير صورة نفسها وحدها.
لو عملت الحكومة على تحقيق ما يحتاجه الشعب حقيقة، وسدت الثغرات، وعرفت كيف تستقطب الجهد الشعبي، وتخلق له مواعين متسمة بالشفافية وبنظافة اليد، وكسبت ثقة الناس، لتركها الجميع تنفرد بتلك المرآة، وتشبع نرجسيتها المفرطة، بالتطلع فيها منفردة. غير أن الحكومة لا تعمل، بل وتتخيّر أن تحيط نفسها بالذين لا يعملون، ولا يأبهون إطلاقًا بالعمل من أجل الصالح العام، بل ويرى بعضهم أنه محض سذاجة. وحين يترك المجتمع الحكومة في ما هي فيه، وينصرف عنها لابتداع مبادراتٍ شعبية، أصيلة وصادقة وفعالة، تستجمع الحكومة كل طاقاتها لتقف في وجهها وتعرقلها. حلت الحكومة في السنتين الأخيرتين ما يقارب العشر منظمات، وصادرت ممتلكاتها. فالحكومة لا تحب أن تعمل من أجل الشعب، ولا تحب، في الوقت نفسه، أن تترك الشعب يعمل من أجل نفسه. وهكذا، يبقى الشعب مرتهنا لهذا الوضع المحيّر، حتى ليمكن القول إنه لو كان بلا حكومة أصلا، لكان خيرًا له. وكفى بك داءً أن ترى الموت شافيا!
كتبت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور تقريراً ملؤه الإعجاب بالمبادرة التي جرت، أخيراً، في الخرطوم باسم "شباب الحوادث"، فبسبب تراجع صرف الدولة على الخدمات الصحية، وبسبب ضيق ذات اليد لدى مواطنين سودانيين كثيرين، نشأت هذه المبادرة، في محاولة لتوفير ثمن الدواء للذين يحملون وصفات طبية للأطفال، لا يملكون ثمن شرائها. أقام هؤلاء الشباب نقطة تجمع لهم، على الرصيف على شارع الحوادث؛ أي شارع قسم "الطوارئ"، شمال مستشفى الخرطوم. يتلقى هؤلاء الشباب محادثات من الأطباء الذين يكتبون الوصفات للمرضى، فالأطباء يهاتفونهم حين لا يكون الدواء موجودًا في صيدلية المستشفى، أو حين لا يكون أهل المريض يملكون ثمنه. يهرع هؤلاء الشباب إلى الأطباء بعد تلقي المحادثة، ويأخذون الوصفة الطبية، ثم يذهبون لشراء الدواء من التبرعات التي تأتيهم من المواطنين. وتطورت هذه المبادرة، وأصبح لشباب شارع الحوادث فروع في أماكن كثيرة. وبعد أن انهالت عليهم تبرعات المواطنين وتنامت، تمكنوا، أخيراً، من إنشاء وحدة كاملة للعناية المركزة خاصة بالمستشفى في الخرطوم.
احتفلت الصحيفة الأميركية بهذه المبادرة الجليلة، في حين تغافلت عنها الحكومة، بل شرع أحد الصحافيين المعروفين بولائهم للحكومة في الطعن فيها، فألقمه الناس حجراً. وفي أثناء أحداث السيول والأمطار التي ضربت منطقة الخرطوم، في السنوات القليلة الماضية، تدافع بعض الشباب، وأنشأوا مبادرة لإغاثة المتضررين الذين أبطأ عنهم العون الحكومي. سمّى الشباب مبادرتهم تلك "نفير"، غير أن الحكومة التي وقفت عاجزة إزاء الخراب الذي أصاب أطراف العاصمة، أزعجتها المبادرة. فقد خطف الشباب منها الأضواء، وأصبح اسمهم على كل لسان. خصوصاً بعد أن وصل العون والإغاثة من الأشقاء في الدول العربية، وبرع أولئك الشباب في توزيعها. تحركت الحكومة، وبذلت كل ما في وسعها لقتل تلك المبادرة، وإخراج من وقفوا وراءها من الصورة. جاءت هي بكاميراتها، ومنظماتها المصنوعة، والمأجورين من إعلامييها، لتظهر نفسها بأنها صاحبة الفضل الأول والأخير. سرقت الحكومة المبادرة، ووضعتها في جيبها عنوة. الشاهد، أن مثل هذا النوع من الحكومات يجعل حالة ما قبل نشوء الدولة تبدو أفضل من حالة ما بعد نشوئها. فمثل هذه الحكومات لا تخدم الشعب، ولا تقف عند ذلك الحد، وإنما تتعداه إلى تكبيل الشعب، حتى لا يخدم نفسه.
elnourh@gmail.com
العربي الجديد – 13 يونيو 2015
////////////////