في الذكرى الثامنة للرحيل: نازك الملائكة والريادة في تجديد الشعر العربي الحديث. بقلم: بروفيسور/عبد الرحيم محمد خبير

 


 

 

تمر علينا في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان الفضيل الذكرى السنوية الثامنة لرحيل الشاعرة العربية الكبيرة (العراقية الأصل ) نازك الملائكة بعد أن تركت بصمات لا تخطئها العين في خارطة الأدب العربي.
ولدت في بغداد في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1922م في بيت علم وأدب ، أمها (سلمى عبد الرازق) كانت شاعرة ووالدها الشاعر (صادق جعفر الملائكة) الذي جمع قول الشعر والاهتمام بالنحو واللغة كعادة الشعراء في ذلك الزمان. أحبت نازك الشعر منذ يفاعتها وولعت به ووجدت في مكتبة أبيها الغنية بدواوين الشعر وأمهات كتب الأدب والنقد ما يروي ظمأها في الإطلاع والمعرفة. أكملت دراستها بكلية المعلمين العليا في بغداد وحصلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة برنستون بالولايات المتحدة. وعملت في التدريس بجامعات بغداد ، البصرة والكويت . منحت جائزة البابطين للشعر العربي عام 1996م وذلك تقديراً لدورها في ميلاد الشعر الحر ، كما أقامت دار الأوبرا المصرية احتفالاً كبيراً تكريماً لها وأيضاً بمناسبة مرور نصف قرن على بداية الشعر الحر في العالم العربي ولكنها لم تحضره لظروفها الصحية وذلك عام 1999م. وعاشت في القاهرة في عزلة اختيارية وتوفت في (20 يونيو) عام 2007م عن عمر يناهز الـ (85) عاماً بسبب إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدموية ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة.
والشاعرة نازك من الجيل العربي الذي تلي الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) والذي - كما هو معلوم - كان أقل صلة بالتراث مقارنة بالجيل السابق له كما وأنه كان أقل إعتماداً على الذاكرة والحفظ لانتشار العلوم العصرية وفرض الفكر الأوروبي تياراته وقوانينه العامة في الحياة. بيد أن شعراء هذا الجيل قد حفظوا جانباً كبيراً من التراث الديني والأدبي ثم وثّقوا صلتهم بالفكر الغربي وهذا ما حفظ هنا الجيل من الأسفاف الفكري واللغوي مما ساعده على التجديد ارتكازاً على إرث تاريخي تليد متدارس فضلاً عن معرفة غير قليلة بالأدب الغربي واستبطان لمذاهبه الفنية والنقدية .
    وثمة إشارة هنا، وهى أن القرن التاسع عشر كان يمثل الفترة الكلاسيكية للشعر العربي المعاصر ( القصيدة العمودية ) ومن أبرز شعرائها عبد الله النديم ومحمود سامي البارودي وأعقبتها الكلاسيكية المجددة في القرن العشرين ( روادها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ) وتزامن ذلك مع حركة الشعر المهجري (إيليا أبو ماضي ، ميخائيل نعيمة والياس فرحات وغيرهم). وظهرت "مدرسة الديوان" (روادها العقاد والمازني) في العشرينيات الماضية، ف "حركة أبولو" التي اتسمت بالرومانسية ( أبرز روادها أحمد زكى أبو شادي وخليل مطران ).    
    ونلحظ أن حقبة نهاية الأربعينيات فالخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت نقطة تحول فارقة في الذائقة الشعرية العربية لخصوصيتها الناجمة من أنها كانت منعرجاً هاماً في تاريخ دول العالم الثالث. والمنطقة العربية بالطبع ليست استثناء فهي مرحلة التحرر الوطني والإنعتاق من ربقة الاستعمار، فطفق الأدباء والشعراء يتلمسون قضية الهوية الثقافية فكان الشعر الحر (التفعيلة) السمة البارزة لنتاج الشعراء الشباب في ذلك الزمان حيث تفننوا في ابتداع صور ورؤى وأخيلة تحرراً من قيود القافية وإيفاء بمتطلبات الحياة الجديدة.
    وارتبطت الشاعرة نازك الملائكة بحركة الشعر الحر (التفعيلة) حتى قيل أنها الرائد الأول لهذا النمط الشعري في العالم العربي بعد أن شاعت قصيدتها "الكوليرا" عام 1947م وموضوع هذه القصيدة مواساة الشعب المصري في داء الكوليرا الذي أزهق أرواح كثيرة هناك. ومن مقاطعها التي نشرتها مجلة "العروبة" في بيروت في أول ديسمبر 1947م.
طلـع الفجـر/
       اصغ إلى وقع خطى الماشين /  في صمت الفجر أصخ، أنظر ركب الباكين
    عشـرة أمـوات عشرونا   /   لا تحص  أصخ  للباكينـا
أسمع صوت الطفل المسكين/
       موتـى، موتـى، ضاع العدد  /   موتـى، موتـى، لم يبق غـد
         وفي صيف 1949م صدر لنازك ديوانها " شظايا ورماد " الذي احتوى على مجموعة من القصائد الحرة وبينت الشاعرة في مقدمته أسلوب ذلك النمط التعبيري مدعمة حديثها بأمثلة من تنسيق التفعيلات كما أشارت إلى بعض بحور الخليل بن أحمد الفراهيدى التي تتواءم وهذا الضرب من الشعر الجديد. وقد واكب صدور هذا الديوان ضجة أدبية كبرى في العراق والعديد من البلدان العربية ما بين ساخط وساخر.
    وتبنى نمط الشعر الحر مجموعة من الشعراء داخل وخارج العراق فظهر ديوان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وعنوانه " ملائكة وشياطين " في مارس 1950م ثم صدر " أساطير " لبدر شاكر السياب في سبتمبر1950. وتتالت بعد ذلك القصائد والدواوين لنفر من الشعراء أبرزهم بلند الحيدري وشاذل طارق وغيرهم. ولعل هذا النتاج الغزير يوضح أهمية المدرسة العراقية في مسار التطور التاريخي للشعر العربي الحديث. وزعمت الشاعرة نازك الملائكة في مؤلفها " قضايا الشعر المعاصر " أن قصيدتها " الكوليرا " تمثل بداية الشعر الحر غير أن هناك قصيدة " هل كان حباً " لبدر شاكر السياب التي نظمت على هذا النسق التعبيري الجديد عام 1946م قبل أن تنشر نازك ديوانها " شظايا ورماد " مما دفع السياب الإدعاء بمحاكاة الآخرين له كلما أثير الحديث عن أولية هذا اللون من الشعر. ويجدر التنويه هنا إلى أن الناقد المعروف الأستاذ الدكتور إحسان عباس يشير بأن الشعراء الشباب من العراق في الأربعينيات والخمسينيات كانوا يتململون من الشكل الشعري القديم وأن السياب عثر عفواً على قالب صب فيه قصيدة " هل كان حباً " في حين أن نازك وضعت مخططاً عامداًَ للخروج بالقصيدة التقليدية إلى شكل جديد وأن كلاً منهما كان يعمل مستقلاً عن الآخر متأثراً ببعض أشكال الشعر الأفرنجى (الإنجليزي). وقد شاعت قصائد الشعر الحر في"  شظايا ورماد " لنازك الملائكة أكثر من شيوع " أساطير " لبدر شاكر السياب دون أن يكون مرد ذلك إلى إيثار الناس للجودة أو الجدة وإنما بسبب التفاوت في القدرة على التوزيع لدى موزعى الكتب. وهنا يعنى أن شعر نازك كان أوقع تأثيراً في نفوس القراء (سلباً أو إيجاباً) وأن السياب نفسه لم يكثر في النظم على هذه الطريقة الجديدة إلا بعد أن تعرّف إلى محاولة نازك واتضح أمامه إبعادها بشكل جلي. ويذهب الناقد إحسان عباس إلى أبعد من ذلك فيزعم أن قصيدة السياب " في ليالي الخريف " إنما نسجت على منوال قصيدة " الأفعوان " لنازك.
    ويلزم التنبيه إلى أن شعراء العراق لم يكونوا الوحيدين في المنطقة العربية الذين اهتدوا إلى صيغة الشعر الحر ( Free Verse ) في الأربعينيات، ففي تاريخ أسبق من ذلك (1938) اهتدى أحمد باكثير وهو شاعر ومسرحي من حضرموت (اليمن) إلى الشعر الحر بل كان صاحب أول مسرحية شعرية بعنوان " المروءة والوفاء ". فقد كتبها عام 1938م ونشرها في القاهرة عام 1940م مستخدماً حسب تعبيره "النظم المرسل المنطلق"  الذي استخدمه شكسبير في شعره المسرحي. وهناك محاولات لشعراء عرب آخرين في هذا النمط الشعري منهم عبد اللّه الطيب في "أصداء النيل" (السودان) ولويس عوض في " بلوتولاند " ومحمود حسن إسماعيل (مصر) وبديع حقي (سوريا) وخليل حاوي (لبنان) وغيرهم.
    لا ريب أن الشاعرة نازك الملائكة أحد الرواد الذي ارتقوا بحركة الشعر الحديث في العالم العربي عن وعى ودراية بأساليب العربية وارتكازا على الأطر الفنية والقواعد الموسيقية والمضمون النغمي للقصيدة العربية المستند على أوزان الخليل بن احمد الفراهيدى مع إمتلاك ناصية الإبداع الشعري من عمق في اللغة واتساع في القاموس اللفظي وتنوع في الصور والأخيلة. ولعل كتابها المعنون "قضايا الشعر المعاصر" يشي بموسوعيتها في أدوات الإبداع الشعري والنقدي حيث أوردت فيه ما استطاعت الوصول إليه من قواعد الشعر الحر ومسائله كما قامت بمراجعة وتنقيح طبعته الأولى (1962م) في الطبعة السابعة(1983م). واللافت للانتباه أن نازك شخصت في هذا الكتاب موقفها من الشعر الحر تشخيصاً جديداً. ولم تكن – رغم ريادتها التجديدية – من أنصار قصيدة النثر ووصفتها بأنها تلغي الأصل الفكري للتسميات. وللشاعرة الكبيرة مجموعات شعرية تشمل: شقة الليل (1947م) ، شظايا ورماد (1949م) ، قارة الموجة (1957م) ، شجرة القمر (1968م) ، يغير ألوانه البحر (1970م) ، مأساة الحياة وأغنية للإنسان (1977م) والصلاة والثورة (1978م)، فضلاً عن مؤلفات عديدة منها "الصومعة" و" الشرفة الحمراء " و التجزيئية  في المجتمع العربي" و" سيكولوجية الشعر " ومجموعة قصصية بعنوان " الشمس التي وراءها القمة ".
    عاشت الشاعرة الكبيرة في عزلة في السنوات الأخيرة من عمرها بسبب عدم قدرتها على مواجهة إحباطات التاريخ العربي الحديث وعجز بني جلدتها عن مواجهة مخططات العدو الصهيوني في فلسطين والمنطقة . لذا فقد انطوت على نفسها عندما شاهدت الهزيمة تلو الأخرى تلحق بالأمة العربية. غير أنها لم تفقد الأمل فها هي تنشد أبياتاً من قصيدة "الهجرة إلى الله" تتحدث فيها عن عذابات العرب ثم تتوجه بصرخة استغاثة لله تعالى أن ينقذ القدس الجريحة قائلة:
    مليكي طالت الرحلة ، طالت وانقضت أحقاب / وبين عوالم مُغفلة أبحرت أسال، أسال الأبواب
حملة معي جراح الفدائيين / وطعم الموت في أيلول طعم الطين
حملت معي هموم (القدس /  يا ملكي وجرح (جنين)
دليلاً شاهق الأسوار لاينجاب / وأين الباب ، أرني الباب
قرابين مكدسة على المحراب  / وقرآني طواه ضباب
وذلة مسجدي الأقصى تقلبني على سكين/ ولا معتصم أدعوه ، لا فينا صلاح الدين
ننام الليل ، نصحو الفجر  / مجروحين ومطعونين ومقتولين
ألا رحم الله تعالى المبدعة والرائدة في الشعر العربي الحديث نازك الملائكة وأسبغ عليها شآبيب رحمته الواسعة جزاء ما قدمت لأمتها من جلائل الأعمال وجعل الجنة مثواها.                         


khabirjuba@hotmail.com

 

آراء