كتب الدكتور عبد الوهاب الأفندي مقالاً بعنوان "الصدام مع إفريقيا يُفشل خطة أوباما لحسم الملف السوداني", إستند فيه لتسريبات من "الحلقة الداخلية لإدارة الرئيس الأمريكي" تؤكد أنَّ الأخير كان قد أعد خطة لحسم الخلاف السوداني-الأمريكي على غرار ما حدث مع كوبا وإيران, ولكن - بحسب الأفندي - فشلت الخطة بسبب تراجع الحكومة عن الحوار الوطني وظهور بوادر صدام بينها وبين الإتحاد الإفريقي.
لا أودُّ التشكيك في مصادر التسريبات التي إستند إليها الدكتور الأفندي في تحليله, ولكنني لا أعتقد في صحة الفرضية الأساسية التي بنى عليها حديثه والمتمثلة في أنَّ إدارة أوباما كانت قد "أعدَّت خطة" تهدف لتسوية النزاع السوداني وتحسين العلاقات على نسق ما حدث مع كوبا وإيران.
كانت قضية السودان قد توارت عن أنظار الإدارة الأمريكية في أعقاب الإستفتاء الذي أدى لإقامة دولة مستقلة في جنوب السودان, ومنذ ذلك الحين لم يعُد السودان ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية, حيث إكتفت إدارة الرئيس أوباما بتكرار أهداف سياستها تجاه السودان الشمالي والمتمثلة في : تنفيذ ما تبقى من بنود إتفاق سلام نيفاشا, والتعاون في قضية مكافحة الإرهاب, ووقف النزاع الدائر في إقليم دارفور.
وبعد إندلاع النزاع الدموي في جنوب السودان في ديسمبر من العام 2013 وإنزلاق الدولة الوليدة نحو هاوية الفوضى والتفكك, أضحت القضايا العالقة من إتفاق نيفاشا في أدنى سلم إهتمامات الدولتين ( السودان وجنوب السودان) والمجتمع الدولي بما في ذلك أمريكا.
وكذلك فإنَّ الحرب قد تراجعت في معظم ولايات دارفور بصورة ملحوظة نتيجة لنجاح الحكومة في إدماج الكثير من الحركات المسلحة في إتفاق سلام الدوحة, إضافة للتغييرات الجيو-سياسية في المنطقة بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا, والمصالحة السودانية التشادية, وأخيراً الحرب في الجنوب والتي أدَّت إلى إضعاف تلك الحركات من ناحية الدعم والإسناد الذي كانت تتمتع به في السابق.
وتبقى البند الثاني, والذي يمثل من وجهة نظر كاتب هذه السطور البند "الإستراتيجي الأهم" في سياسة إدارة أوباما تجاه السودان : مكافحة الإرهاب, حيث تواصل التعاون الإستخباراتي بين البلدين في هذا المجال دون تغيير من ناحية الخرطوم يُمكن أن يثير قلق واشنطون, رغم إستمرار شكوى الأولى من عدم رفع العقوبات وشطب إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وفي هذا الإطار فقد درجت التقارير السنوية للخارجية الامريكية في هذا المجال على التاكيد بأنالسودان ظل شريكاً مفيداً و فعالاً في مجال مكافحة الاٍرهاب الدولي, وكان آخرها التقرير الدوريللعام 2014 حول الدول الراعية للإرهاب الصادر في يونيو الماضي, والذي أفاد بأنّ " حكومة السودانإتخذت خطوات جدية للحد من نشاط عناصر تتبع لتنظيم القاعدة، وعملت على تعطيل استخدامالمقاتلين الأجانب للسودان كقاعدة لوجستية ونقطة عبور للإرهابيين المتوجهين الى سوريا والعراق".
صحيح أنَّ كل جهود التعاون التي بادرت بها الحكومة السودانية لم تؤدي لرفع إسم السودان من القائمة السوداء, ولكن الصحيح أيضاً أنَّ الخرطوم باتت أداة مهمة و مرغوبة من قبل الإدارة الأمريكيةلمواصلة لعب الدور الوظيفي في هذا المجال.
و من ناحيةٍ أخرى فقد خفتت بصورة كبيرة أصوات "جماعات الضغط" المُختلفة, والتي كانت قدصكَّت آذان الإدارات الأمريكية المتعاقبة في السابق بالحديث عن المظالم التي كان يتعرَّض لها "الأفارقة المسيحيون" في الجنوب قبل الإنفصال جرَّاء الحرب الأهلية المتطاولة.
لهذه الأسباب, لم تعُد للقضية السودانية أولوية في سياسة أمريكا الخارجية التي إتجهَّت للتركيز على بؤرٍ أخرى أكثر إلتهاباً مثل العراق وسوريا وأوكرانيا وغيرها, ولذلك فإنهُ عندما أطلق الرئيس السوداني في يناير من العام 2014 الدعوة "للحوار الوطني" لم تجد صدىً أكثر مما هو متوقع من إدارة الرئيس أوباما.
لم تضع أمريكا ثقلها كاملاً خلف مبادرة الحوار, بل إكتفت بالترحيب بها, والعمل ضمن "الترويكا" التي تضم إلى جانبها بريطانيا والنرويج, كما أنها أعطت الضوء الأخضر للجهود الألمانية ولمبادرة الإتحاد الإفريقي في هذا الخصوص, وكان الدكتور الواثق كمير قد نقل أنَّ دونالد بوث، المبعوثالخاص للرئيس الأمريكي، همس لمصدرٍ موثوق بأنَّ قنواتِهِم للتواصُل مع حكومة السُّودان، تقتصرُفقط على "ثابو أمبيكي والألمان".
عند هذه النقطة يظهر الفارق الكبير في تعامل الإدارة الأمريكية مع قضية العلاقات مع كوبا وإيران, مقارنة بتعاملها مع الملف السوداني, ففي الحالة الأولى رمت بثقلها كاملاً في المفاوضات مع الجانب الإيراني, وواصلت التفاوض بمثابرة وإصرار لأكثر من ثلاث سنوات, ومارست ضغوطاً كبيرة على شركائها الأوربيين داخل القوى الست الكبرى للتوصل للإتفاق النووي.
بل إنّ الرئيس الأمريكي أظهر تحدياً غير مسبوق للحليف الأمريكي الأكبر "إسرائيل" في سبيل إكمال الصفقة النووية, إضافة لتهديده للكونغرس ذو الأغلبية الجمهورية, بل وحتى للكثير من الشيوخ والنواب داخل حزبه المعارضين للإتفاق, بأنه سيستخدم صلاحياته التي يكفلها له الدستور في إجازة الإتفاق إذا لم يتم تمريره في الكونغرس.
كذلك فعلت الإدارة الأمريكية مع القضية الكوبية, حيث سار الرئيس أوباما في طريق التطبيع بقوة غير آبه بضغوط اللوبي الكوبي المحسوب على اليمين والذي ظلَّ يشكل أحد العقبات الكبرى في سبيل تطبيع العلاقة بين البلدين منذ إندلاع الثورة الكوبية في 1961, كما أنه لم يكترث لتهديدات قطاعات واسعة في الكونغرس تعارض التقارب مع هافانا.
وفي المقابل لم تُظهر إدارة الرئيس أوباما أي حماس أو جهد واضح لحسم ملف علاقاتها مع الخرطوم, مع أنَّه أقلَّ تعقيداً من ملفي كوبا وإيران, حيث أنَّ الحكومة السودانية لم تكن تُمانع في تقديم كافة التنازلات المطلوبة في سبيل التطبيع مع القوة الأكبر في العالم, والتي إستطاعت عبر فرض العقوبات الإقتصادية المستمرَّة منذ قرابة العقدين من الزمن أن تزلزل أركان الإقتصاد السوداني, وتضرب عليه حصاراً تجارياً و مالياً خانقاً جعلهُ يعجزُ في كثير من الأحيان عن القيام بأبسط عمليات الإستيراد عبر المؤسسات البنكية في الإقليم والعالم.
كذلك فإنَّ الخرطوم تعلمُ أنَّ سقف المطالب الأمريكية من أجل إحداث التسوية السياسية وتحسين العلاقات لا يُمثل خطراً كبيراً على وجود النظام, فواشنطون ظلت على الدوام تؤكد أنها لا تسعى لتغيير النظام بالقوة, وإنما تعملُ على إيجاد حل ينبني على "الحوار الشامل" بين كافة الفرقاء السودانيين, وفي حقيقة الأمر فإنّ إهتمامها الرئيسي ينصبُّ في إيقاف الحرب وليس إيجاد البديل الديموقراطي.
وفي هذا الإطار فما تزال ذاكرة الحكومة السودانية تختزن حصاد تجربة "إتفاق السلام الشامل"الذي وقعتهُ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان, والذي لم يُحدِثُ أى أثرٍ يُذكر في تخفيف قبضة حزب المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة والحكم, حيث إستمر الوضع كما كان عليه, وانتهت الحركة إلى مُجرَّد "ضيف" عابر على مائدة الحُكم لا حول له ولا قوة.
وبالتالي فإنَّه وفقاً للمُعطيات السياسية والعسكرية الراهنة وموازين القوى بين الحكومة والمعارضة, فلن تكون نتائج أى حوار يجري بين الطرفين في صالح المعارضة, بل ستصبُّ كذلك في رصيد النظام الحاكم الذي يمتلك أفضلية نسبية على المعارضة بحكم سيطرته على السلطة والدولة لأكثر من ربع قرنرغماً عن "توازن الضعف" الذي ظل يمثل السمة الأبرز في العلاقة بين الطرفين منذ فترة طويلة.
المُعارضة من ناحيتها, ولأسباب عديدة مُتصلة بأوضاعها العسكرية والسياسية, تجاوبت مع كل دعوات الحوار التي تلقتها من آلية التنسيق المعروفة ب (7+7) ووقعَّت معها خارطة للطريق, إضافة لتجاوبها مع أطروحات الوسيط الأفريقي, وجهود الجانب الألماني المنصبًّة في إقامة الحوار والوصول للتسوية الشاملة.
جميع هذه الأسباب كان يُمكن أن تشكل قاعدة إنطلاق جيدة لأي "خطة أمريكية" لتسوية الملف السوداني إن كانت هناك خطة في الأساس, وإن كان الطرف الأمريكي يرغب بحق في الوصول لتسوية وتحسين العلاقة مع السودان مثلما فعل مع إيران وكوبا.
ولكن بدا واضحاً أن قضية السودان لم تكن في بؤرة أهتمامات الإدارة الأمريكية, و أن َّ الرئيس أوباماعلى وجه التحديد, لم يضعها في قائمة القضايا التي يرغب في أن تصبح ضمن "تركته السياسية" كما قال الدكتور الأفندي, إذ كان يمكنه لعب دور مشابهٍ لذلك الذي لعبه سلفه "جورج بوش الإبن" في إستخدام النفوذ الأمريكي بصورة مباشرة وواضحة حيث مارس ضغوطاً هائلة على طرفي النزاع حينها "الحكومة والحركة الشعبية" لم تجعل أمامهما خياراً سوى التوصل لإتفاق نيفاشا.
حينها كانت العقبات أكبر مما هى عليه الآن, والقضايا أكثر تعقيداً مما تواجهه أطراف النزاع في الوقت الراهن, ولكن موضوع السودان كان في مقدمة أجندة السياسة الخارجية الأمريكية لأسباب عديدة لا يتسِّع المجال لذكرها في هذا المقال.
لكل هذه الأسباب لا أرى أنَّ إدارة الرئيس أوباما كانت لديها "خطة" لتسوية النزاع السوداني تسببت في إفشالها المواقف الصادرة من الحكومة السودانية, ولكن الصحيح هو أنَّها أظهرت إهتماماً بعمليةالحوار الوطني و لكنها لم ترمي بثقلها كاملاً في سبيل إنجاحه.