خواطر العيد

 


 

 

 

boulkea@gmail.com

(1)

جادت علينا قناة "النيل الازرق" في أول أيام عيد الأضحى بجلسة فنية في غاية الروعة, تجلت فيها إبداعات مجموعة من الشباب العارفين بدروب "الحقيبة" وأزقتها وميادينها الرحيبة, على رأسهم "حسن محجوب" صاحب القدرة الفائقة في "تقعيد" الغناء, وكذلك "ياسر تمتام" و "عوض أحمودي" و "مرزوق" بجانب كبيرهم "عوض الكريم عبد الله", غير أنَّ أكثر من لفت نظري في تلك "القعدة" صوتٌ واثق قال عنه مقدم الحلقة أنه أصغرهم سناً : ضياء الدين السِّر .

أدهشني ضياء الدين بصوته العذب, وثقته في نفسه, وإختياراته البديعة, وعلى رأسها رائعة خليل فرح: لمَّ خيل الضل, وهى من الدرر المدفونة التي شاح عنها المطربون, سحرتني كلماتها والأوصاف التي تحتويها منذ سنوات تطاولت عندما إقتنيتُ ديوان الخليل بتحقيق البروفيسور على المك, وتمنيتُ لو شدا بها "الكابلي" ضمن الروائع التي أخرجها من خزينة الحقيبة, أنظر لصاحب عزة, وتعجب لكيف "تنتفض القلوب":

لمَّ خيل الضُل على الأريل في مشارعو الصيد ورد قيَّل    القنيص حين شافن إتخيل جرى دمعو ودمو ساح سيَّل

إنتفض قلبو وخفق ميَّل فوق جروح الليل برك شيَّل

ثم يبلغ الذروة في وصف الفاتنات حتى يُشبههن بالحدائق متنوعة الأزهار والورود, وهنَّ كذلك كالسلسال ( الماء العذب سَهْلُ الدخول في الحلق لصفائه ) بل هنَّ من "يفلق ويداوي", لا حول !والمعنى أنهن  "الداء والدواء", وكأنهُ يتطلعُ لهنَّ, ويرغب فيهن في معنى قريب مما قصد إليه "أبونواس" : داوني بالتي كانت هى الداءُ, هذا كله وهو لم ير سوى "العيون", يا ساتر :

حفلن قلنا السَّما إتجلى والنجم بتضارى في الحِلة       

كالجناين تلقى كل حُلَّة فيها وردة ونرجسة وفلة         

فيهن السلسال شفا الغُلة فيهن العلَّة ودوا العلة   

كلهن مُتبلمات إلاَّ من لحاظن أرحم الجُّلة

ثم يُعرِّج "ضياء الدين" في إختياراته الموفقة على "ود الرضي" في "روح وأعرض حالي" , وهى أغنية تزلزل كيان المستمع بجزالة كلماتها, وقوة تعبيرها, فقد كلف الشاعر بمحبوبته حتى "مسخت"الحياة في ناظريه, ولم يجد سوى "النسيم" وسيطاً لإبلاغ شكواه, وتوصيف حاله :

رُوحْ وَ أَعْرِضْ حَالِى لَى حَبِيبْ الرُّوح       

جِيبلِى طِيب الحالِى يَا نَسِيم اللَّيلْ  

قُولُّو نَامْ الخَالِى وَهو يَتْخَيَّلْ رَنَّةَ الخَلْخَالِ     

بالنَّظر أسْخى لي هنِّي بى رُؤياك الحياة الماسخالي  

و يسترسل ود الرضي في وصف مفعول الحب الذي زلزل كيانه, ويرجو أن لا تضيع شكواه التي حملها للنسيم سُدىَّ : 

النَّسِيمْ هَبَّى لِى يَا حَسِينْتَ الذَّاتْ    

الجَّمُرْ هَبَّى لِى يَا حَبِيبْ رَحْمَاك لاَ تَزِيدْ بَلْبَالَى      

ولاَ تَكُون شَكْوَاى مُويَة فِى غَرْبَالِى

ثم تبلغ الشكوى مداها من تجاهل الحبيب, حتى أنّ نفسه صارت غريبة عنه مما لحق بها من تغيير جرَّاء فعل الحب :

كَمْ وكَمْ قُبَّالِى قَلْبُه مَشْغُول بَيك      

وإنْتَ مَاكَ مِبالي         

آهٍ كُلَّمَا أطْرَاكَ لاَ أعِى إقْبَالِى 

صِرْتَ مِنْ البَىْ شِخْصِى كَادْ يَغْبَالِى

ومع ذلك فهو لا يستسلم, ويعلل النفس بالآمال ( و ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ), ويظل في إنتظار النسيم كي يأتيه بالخبر اليقين :

لاَ حَياةَ لَىْ لَوْلاَ مَا الآمَالِ         

خلني وبلواى إنت مالك ومالي   

يا نسيم لى والي هِبْ من المَحَبوُب   

في كلا الأحوال          

ها أنا الرَّاجيك واقفاً لنوالي  

وقفة المرؤوس في رجاء الوالي   

(2)

واصلتُ في عطلة العيد قراءاتي في الموضوع الذي ظل يشغلني منذ فترة طويلة : جذور مأزق الفكر الإسلامي, وكلما تعمَّقت في النظر للموضوع ظهرت لي ثلاثة أسماء : الشافعي والأشعري والغزالي.

هذا الثالوث لعب الدور الأكبر في صياغة "العقل المسلم" وما ترتب على ذلك من مآلات ظل يعيشها العالم الإسلامي لحوالى تسعة قرون, منذ أن إنطفأ نور الحضارة الإسلامية, وأنزوت عن الريادة بعد أن عاشت عصرها الذهبي و إنفردت بقيادة البحث والتجديد والابتكار العلمي في العالم لثلاثمائة عام( الفترة بين 800 و 1100 ميلادية ).

الشافعي بقواعده التي وضعها لعلم "أصول الفقه" والتي أدت في خاتمة المطاف لإغلاق باب "الإجتهاد" نهائياً, والأشعري بتاثيره الكبير في موضوع "العقيدة" وإنكاره للسببية "إرتباط الأسباب بالنتائج", و الغزالي بتأكيده على أفكار الأشعري, وتشديده على نفى "الإرادة" عن الإنسان, ومحاربته للفلسفة, وقوله بأنَّ "الحدس" وليس "العقل" هو طريق الوصول للحقيقة وإثبات وجود الله.

(3) 

تابعت بإهتمام زيارة البابا فرنسيس لأمريكا وخطابه أمام قمة التنمية المستدامة بمقر الأمم المتحدة, وكنت بدأتُ منذ فترة متابعة أخبار هذا البابا "الإستثنائي" الذي وجدتُه يطرقٌ أموراً في غاية الأهمية, ويتحدث في قضايا جادة وملحة تهم البشرية جمعاء, منها إهتمامه الشديد بموضوع البيئة وتغير المناخ, وكذلك تنديده بالراسمالية المتوحشة و دعوته لتغيير لنظام الاقتصادي العالمي مما حدا ببعض "المحافظين الجدد" في أمريكا لإتهامه بأنه "ماركسي" التوجه.

في جولته بالعديد من دول أمريكا الجنوبية قبل عدة أشهر ندّد البابا فرنسيس بما أسماه "عبودية رأس المال", وقال أنَّ النظام الإقتصادي العالمي بحاجة لتغيير جذري لأنه لم يعد يعمل, " ولم يعديحتمله الفلاحون ولا العمال ولا المجتمعات ولا القرى. الأرض لم تعد تحتمله ", كما دعى الفقراء الىالعثور على "بدائل خلاقة".

وكان البابا فرانسيس قد أصدر منشور "لوداتو سي" حول البيئة, وهو عبارة عن بيان من أجل كوكب الأرض, قال فيه بوضوح أنَّ تدهور المناخ يعود لأسبابٍ انسانية, ودعا فيها إلى استبدال الوقودالأحفوري ( النفط والفحم والغاز) بالطاقة المتجددة، مما أثار غضب شركات النفط, كما استنكر فيهقيام الشركات متعددة الجنسيات بالسيطرة على الأراضي والغابات في البلدان الفقيرة.

قال البابا – وهو الزعيم الروحي لحوالي 1.2 مليار من الكاثوليك في العالم - في قمة التنمية بنيويورك بجسارة أنَّ " التعطش الأناني واللا نهائي للسلطة والرفاهية المادية يقود إلى إساءة استغلال المواردالطبيعية المتاحة وإقصاء الضعفاء والبؤساء ", كما أنه أدان التهميش الاقتصادي والاجتماعيواعتبره "إثما كبيراً ".

في مقابل هذه المواقف والآراء للزعامة الروحية المسيحية, إختفى أية صوت يُعبِّر عن الإسلام والمسلمين في هذه القضايا والهموم الكونية المشتركة, وكنتُ قد تطلعتُ في الماضي لدور "روحي" إسلامي شبيه بدور البابا يقوم عليه شيخ "الأزهر" بإعتباره المؤسسة الدينية الأقدم والاكبر في العالم الإسلامي.

ما الذي يمنع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب, وهو عالمٌ مستنير, من تبني هذه القضايا الملحة, المتمثلة في التدهور البيئي والفقر والعدالة الإجتماعية, والقيام بجولات في الدول والمجتمعات الإسلامية للحديث عنها, في أفريقيا وآسيا, والتي تعتبر الأكثر معاناة من الآثار السلبية لتغير المناخ و من السياسات الرأسمالية الفجَّة ؟

لا يجب أن ينشغل الأزهر بقضايا وهموم محلية متواضعة فحسب, بل عليه أن ينهض لمواجهة المشاكل الكبرى التي تهدد وجود الإنسان على كوكب الأرض, وتتسبب في إحداث الكوارث والحروب والنزاعات, لا سيما وأنَّ مُجتمعات المسلمين تدفعُ أثماناً باهظة جرَّاء المشاكل البيئية وانشطة الشركات الرأسمالية الكبرى.

(4)

طرقت باب منزلنا أسرة "سورية" تطلب المساعدة, تحدثتُ إليهم وعرفت أنهم من ريف العاصمة دمشق, خسروا كل شىء في الحرب, تركوا خلفهم منازلهم وممتلكاتهم وذكرياتهم, وخرجوا من وطنهم مُجبرين حتى وصلوا السودان, وقد عبَّروا لي بكلمات ملؤها العرفان والشكر عن إمتنانهم للسودانيين الذين رحبوا بهم واستضافوهم في ديارهم وتقاسموا معهم لقمة العيش الشحيحة.

مأساة الشعب السوري تعكسُ العواقب التي يُمكن أن تترتب على إصرار الحكام المستبدين على التشبث بالسُّلطة والمواقع والإمتيازات وإن أدى ذلك لتمزيق الوطن وتشريد الشعب, عندما تصبح مقدرات الوطن وأرواح أهله رهينة لطموحات غير مشروعة لفئة محدودة من الحاكمين يكون الثمن هو القتل والدمار والدماء والدموع والأشلاء.

في هذا الإطار وقعتُ على أبيات شعر مؤثرة خطها يراع الدكتور وائل عبد الرحمن, يبكي فيها ربوع الشام ويتحسرعلى شتات أبنائه في المنافي, وهى بلا شك تتحدث بلسان الأسرة السورية التي طرقت بابنا في عيد الفداء العظيم :

إِنِّي لَأعرَفُ فَي دمَشقَ حِجَارةً            

تُلْقِي عَلَىَّ  إذا مَرَرْتُ سَلَامَا   

فِيهَا مِن قلُوبِ أحِبَّتِي وَدمُوعِهِم         

وربُوعَ نَجـدٍ ..  خَلْفَهَا وتُهَامَة 

هَلْ تَعرِف الدُنيَا بِلَاداً صَخْرُهَا   

عِند الّلقاءِ يُميّزُ الأرحامَا ؟   

مَنْ لَمْ يَنَمْ فٍي الشَامِ يَوْمَاً  

لَمْ يَنَمْ ، مَهْمَا أدّعَي وَظَنَّ أنّهُ نَامَ  

يَوْمٌ بأرضِ الشَامِ يعْدِلُ سَحَرُهُ   

وَجَمَالهُ ... فَي غَيْرِهَا أعوَامَا  

اليَاسَمِينُ ، صَبَاحُهَا، وَمَسَاؤهَا     

والقَاطِفُونَ اليَاسَمِينَ ، نُشَامَي  

وَرَحِيقُ جَوْهَرِهَا عُصَارةُ أُمَّةٍ    

كَانتْ عَلَي مَرِّ العُصُورِ ، غَمَامَا،     

يَا ظِئرُ أهْلَ الأرْضِ ، مَنْ أنْجَبْتِهِم   

تَاهُوا، وَصَارُوا فِي البِلَادِ يَتَامَي

 

آراء