النص الآخر الذي ورد في المصادر القبطية عن اتحاد المملكتين هو رسالة البطرك إلى ملك الحبشة وملك النوبة أن يصطلحا كما في النص رقم 5 في الحلقة الماضية (رقم4). وقد رفض مصطفى محمد مسعد (السلام والنوبة في العصور الوسطى ص 74) الاستدلال بهذا النص باعتبار أن المذكور هنا هو ملك الحبشة وليس ملك مقرة. وذكر أن بتلر أورد في حاشية رقم 1 ص 361 في تاريخ أبي صالح الأرمني أن الاشارة وردت إلى ملك الحبشة، وكذلك وردت في كتاب رينودوت "تاريخ بطاركة الاسكندرية". ولم يهتم المؤرخون بصورة عامة بهذا النص المكمل لنص أبامنا المذكرو أعلاه.
ومن الواضح هنا أن رسالة البطرك تتعلق بنفس الحدث الذي ذكره أبا منا في سيرة البطرك اسحاق، هذه الرسالة عبارة عن رد الطرك على رسالة ملك مقرة إليه. غير أن الاشارة وردت هنا بلفظ ملك الحبشة بدلاً منملك مقُرة. وقد جرت عادة بعض المصادر القبطية والعربية إطلاق لفظ الحبشة على النوبة .
فابن المقفع (تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية، ص 83) أشار إلى ملك مقرة بملك الحبشة حين قال: " وكان ملك المقرة الحبشي ارتدكس وهو الملك العظيم" وفي سيرة الأنبا ميخائيل (أو خايال كما يكتبه ابن المقفع) تحدث أبو صالح الأرمني (ص 139) عن " ملك النوبة وملك الحبش" عندما قاد ملك النوبة كرياكوس جيشاً كبيراً لغزو مصر عام 132 هـ / 750 م ليخلص البطرك الذي سجنه والي مصر. وقد تردد في بعض المصادر العربية استخدام اسم الحبش للدلالة على النوبة. فالمسعودي (مروج الذهب، موقع الوراق، ج 1 ص 37) يقول عند حديثه عن مناطق جنوب أسوان:. " وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، ولا سبيل إلى جريان السفن فيه هناك، وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع سفن الحبشة في النيل وبين سفن المسلمين."
ويقول المسعزدي في مكان آخر (نفسه ص 161): " وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي. الحبشة" وذكر القلقشندي عن خط حدود مصر الغربية:" ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان."ومن الواضح أن المسعودي والقلقشندي يستخدمان لفظ الحبشة للحديث عن النوبة.
فملك الحبشة في رسالة البطرك رقم 5 مقصود بها ملك مقرة، وملك النوبة مقصود به ملك نوباديا. فقد أطلقت المصادر العربية اسم النوبة صورة عامة على سكان مملكتي مقرة وعلوة، لكنها أطلقته بصورة خاصة على النوبة المجاورين لمصرفي مملكة مريس (نوباديا) كما ذكر ابن سليم (في مسعد ص 98) حين قال: "اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام" والمريس كما سيأتي هم النوباديين.
أما ما يخص النقشان (النص رقم6 أعلاه) الذان يخصان ملك مقرة ميركوريوس والذان يوضحان اعتناق الملك للمذهب اليعقوبي مذهب الكنيسة القبطية بدلاً من المذهب الملكاني الي تبعته مملكة مقرة منذ اعتناقها المسيحية، كما يوضح النقشان أن سلطة ملك مقرة ممتدة على أراضي مملكة نوباديا. وكانت هذه أول إشارة عثر عليها في الآثار تشير إلى اتحاد المملكتين نوباديا ومقرة وتحولها للمذهب اليعقوبي.
فاعتبر البعض أن اتحاد المملكتين تم في عصر هذا الملك، أي بعد نحو خمسة وأربعين سنة من حملة عبد الله بن سعد.
من الواضح أن مملكة مقُرة كانت لا تزال على المذهب الملكاني حتى عصر البطرك اسحاق الذي توفى عام 689م أي قبل ثمانية سنوات فقط من اعتلاء ميركوريوس عرش مقُرة، مما يشير إلى أن التحول إلى المذهب اليعقوبي قد تم في عصر هذا الملك. ولكن لا يوجد ما يشيرإلى أن الاتحاد السياسي قد تم في عصره، فقد يكون تم قبل ذلك كما يقول مؤيدوا من يرون أن اتحاد المملكتان قد تم قبل حرب عبد الله بن سعد.
وأرى أيضاً أن ما ورد في النقشان قد لا يكون دليلاً قوياً على اتجاد المملكين في عصر الملك ميرقوريوس، ولكن ما ورد في رسالة ملك مقرة إلى البطرك اسحاق ورد البطرك عليها دلالة واضحة على وجود مملكة نوباديا مستقلة عن مملكة مقُرة بعد مدة طويلة من حرب عبد الله بن سعد. غير أن هنالك دليل آخر قوي ومباشر ورد في المصادر العربية عنوجود مملكة نوباديا مستقلة عن مملكة مقرة بعد حرب عبد الله بن سعد. ولست أدري لماذا تم تجاهل هذا النص وعدم الاشارة إليه إيجاباً أو سلباً.
هذا الدليل المباشر أورده المسعودي حيث ذكر بصورة واضحة من هي المملكة التي حاربها عبد الله بنسعدعام 31 هـ. يقول المسعودي (في مسعد ص 51 - 52 وفي كتاب مروج الذهب ج 2 ص 21)
" وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما افتتح عمرو بن العاص مصر كتب إليه بمحاربة النوبة، فغزاهم المسلمون، فوجدوهم يرمون الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم، حتى صرف عن مصر، ووليها عبد اللّه بن سعد، فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة، مما يسبي هذا الملك المجاور للمسلمين من غيرهم من ممالك النوبة المقدم ذكرها فيما سلف من صدر هذا الباب المدعو بملك مريس" فالمسعودي وضح أن عبد الله بن ساعد حارب الملك المجاور للمسلمين المدعو بملك مريس. وقد وضحت المصادر العربية من هم مريس. يقول ابن سليم الاسواني (في مسعد ص 98):
"اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام، وبين أوّل بلدهم، وبين أسوان خمسة أميال" ووضح (ص 96) أن بلاد مريس تمتد جنوباً حتى " بيستو، وهي آخر قرى مريس، وأوّل بلد مقرة، ومن هذا الموضع إلى حدّ المسلمين لسانهم مريسي"
وورد في لسان العرب (موقع الوراق ج 1 ص 315): "قال أبو حنيفة: ومريس أدنى بلاد النوب التي تلي أرض أسوان" ونقل ابن عبد السلام في كتابه الفيض المديد (في مسعد ص 405) عن الجاحظ أن "النوبة هم المريس المجاورون لأرض الاسلام".
ووضح المسعودي (في مسعد ص ومروج الذهب ج 2 ص 18): "أن البلد المتصل بمملكته [ملك مُقُرة] بأرض أسوان يعرف بمريس، وإليه تضاف الريح المريسية، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من ارض الصعيد ومدينة أسوان."
فمملكة مقًرة التي حاربها عبد الله بن سعد تقع بين حدود المسلمين الجنوبية وبين مملكة مقرة، وهذه هي مملكة نوباديا التي عرفت عند المسلمين بمملكة مريس وعرفت في المصادرالرومانية بمملكة نوباديا. وقد اشتهر اسم نوباديا في كتب التاريخ العربية والأجنبية ولم يشتهر اسم "مريس" الذي أتى في المصادر العربية. فعبد الله بن سعد حارب مملكة مريس كما ذكر المسعودي، والتي تقع جنوب مصر وشمال مملكة مقُرة كما وضحت المصادر العربية، ودارت المعركة في منطقة أسوان كما وضح ابن حوقل الذي تناولنا ما ذكره في الحلقة رقم 2من هذه الموضوعات (أخطاء في تاريخ السودان) . فما ورد في المصادر القبطية حول حرب عبد الله بن سعد يتطابق مع ما ورد في المصادر العربية. وكلاهما يوضحان أن مملكتي مقرة ونوباديا اتحدتا بعد حملة عبد الله بن سعد عام 31 هـ، وأن عبد الله حارب مملكة نوباديا ولم يحارب مملكة مريس ولم يدخل أراضي مملكة مقرة وبالتالي لم يصل إلى عاصمتها دنقلة. وينبغي علينا دارسي ومدرسي التاريخ مراجعة ذلك.