كما اختتمتُ المقال السَّابق، فإن مجلس السِّلم والأمن الأفريقي قليل الحيلة، لا حَوْلَ له ولا قوَّة، في مواجهة الحكومة السُّودانيَّة، فالمجلس يظلَّ نادياً للدُّوَلِ، لا يملك الصلاحيَّات ولا الآليَّات الضَّروريَّة لتنفيذ قراراته. في واقع الأمر، هناك عقبات رئيسة تعترض مسيرتي التفاوُض مع الحركات المُسلَّحة، والحوار الوطني الشامل.. هي من صنع قُوانا السياسيَّة ونُخَبِنَا وحُكوماتِنا، وليست لامبيكي فيها ناقة ولا جَمَل.. فما هي هذه العقبات؟!
أولاً: عقبات في طريقي التفاوُض والحِوَار
(1) عقبة الاجتماع التحضيري (في أديس أبابا)
1. كما أوضحتُ في الورقة السابقة، “البيان 539: تحميله ما لا يُطاق” فإنَّ الاجتماع التحضيري (وهو ليس بمُؤتمرٍ كما دَرَجَ البعض علي تسميته) ليس من بنات أفكار المعارضة، بل هو أحد الخُطُوات التي أقرَّها مجلس السِّلم والأمن الأفريقي في اجتماعه رقم 456 (سبتمبر 2014)، وأكَّد عليه بيان المجلس الأخير 539. ومِن المُهم، أن نُدرك بأنَّ فكرة الاجتماع التحضيري قد سَبَقَ أن طَرَحَهَا امبيكي، ووافق عليها طرفا التفاوُض، وتمَّ تضمينها في “مشروع الاتفاق الإطاري، 30 أبريل 2014”، الذي أطلَقَت عليه الوساطة “النصُّ المُتَّفق عليهAgreed Text ، أو “الوثيقة المُلوَّنة”، بين الحكومة والحركة الشعبيَّة - شمال.
2. كما أنه ليس بجديدٍ في شيء، أن ترفض الحكومة المُشاركة في هذا الاجتماع. فقد انتقد الرئيس بشدَّة، في خطابٍ مُتلفز ومنقول على الهواء مباشرة (23 ديسمبر 2014)، فكرة الاجتماع المُقترح، كما رفض بقوَّة المُشاركة في أي اجتماعٍ يُعقَدُ خارج البلاد. وبعد هذا التوجيه الصَّريح، كنتُ متيقناً، وكتبتُ بالحرف في المقال الموسوم: “وضع كل بيض المعارضة في سلَّة البيان 456”، الذي نُشِرَ في صحيفة ‘الرأي العام’، 19 مارس 2015، قبل التاريخ المُقرَّر لعقد الاجتماع (29-30 مارس)، بأنَّه: «ليس بمقدور الرئيس امبيكي إحضار المؤتمر الوطني إلى طاولة الاجتماع المُقترح انعقاده في أديس أبابا، لكُلِّ الآراء وأصحاب المصلحة، من دون ضمان موافقة البشير أولاً». وها هُو الرئيس، بعد مُضِيِّ تسعة أشهر، يعود هذه المرَّة، أمام الجالية السُّودانيَّة في بكين، علي خلفيَّة البيان 539، الذي أكد علي ضرورة عقد اجتماع أديس التحضيري، ليُعلِنَ بلغة مُتشدِّدة: «لن نسمح بأي حوار في الخارج، وأنا رئيس لجنة الحوار، ولن يأتي شخص ليترأس الحوار ويكون رئيساً لي، سواءً كان من الاتحاد الأفريقي، أو أي حتة تانية» (قناة ‘الشروق’، 4/9/2015). وتلك رسالة واضحة إلى المعارضة والمجتمع الدولي، وفحواها: ألاَّ صفقة أو مساومة تاريخيَّة يمكن إعداد طبخها من وراء ظهر الرئيس. وفور سماعها بالنبأ، إلاَّ وأسرعت آليَّة “7+7” للحِوار الوطني، بعد دراسة البيان 539، برفض مُقرَّراته، واعتباره غير مُوفَّق ومُعيقاً للعمليَّة برُمَّتها. وفي رأيي، هذا هو السبب الأساس وراء مُمانعة الحكومة من المُشاركة، فالأمر بيد الرئيس، الذي لا يجرؤ أحد علي تحدِّي قراراته. وهو أمرٌ يرجع لأحد الاعتبارات الإستراتيجيَّة في تصوُّر النظام للتعاطي مع ملفي التفاوُض والحوار الوطني، كما سأبيِّن ذلك لاحقاً عند الحديث عن العقبات التي تعترض المسارين.
3. مع ذلك، ساقت الحكومة عدَّة دوافع لتخلُّفها عن الاجتماع، الذي دعت له الآليَّة رفيعة المستوى، في أديس أبابا، في أواخر مارس 2015، وأيضاً إعلان رفضها للمُشاركة في أي اجتماع آخر، يجمعها مع الحركات المُسلَّحة وكافَّة فصائل المعارضة المدنيَّة، في أي مكان خارج السُّودان. وضمن هذه الحُجَج، ولو أن بعضها لم يفصح عنه مباشرة:
• الحكومة لا تريد أن تشارك في اجتماعٍ خارج البلاد مع أي قوى سياسيَّة مدنيَّة، بينما ترى أنَّ التفاوُض مع الحركات المُسلَّحة يجب أن يكون حكراً عليها، بوصف أنها السُّلطة الحاكمة دُستورياً، فهي حركات تشُن حرباً ضدَّ الدَّولة.
• تخوُّف الحُكومة من حصارٍ دبلوماسيٍ وإعلاميٍ يَفرِضُهُ عليها جُمهور المُشاركين من القُوى السياسيَّة ومُنظمَّات المُجتمع المدني الإقليميَّة والدوليَّة، مع ما يصاحب ذلك من تفخيخٍ لأجندة الاجتماع. وللمُفارقة، لم تدَّخر المعارضة المدنيَّة والمُسلَّحة، ومُنظمات المُجتمع المدني، جهداً في تضخيم مشاركتها في الاجتماع وتوقُّعاتها بمُقرَّراته المُرتقبة، وبدعم المُجتمع الدَّولي لمواقفها، مِمَّا جعل الحكومة أكثر توجُّساً وخشية من المُشاركة في الاجتماع، وهذا هو ما عبَّر عنه قُطبي المهدي بقوله، أنَّ سبب المُمانعة في قيام الاجتماع هُو: «خشية الحكومة من السُّقوط في فخِّ الأهداف الخفيَّة لهذا المؤتمر» (قطبي الهدي، صحيفة ‘الجريدة’ 3 سبتمبر 2015).
• أسباب إجرائيَّة، علي شاكلة: عدم تقديم الدعوة إلى آليَّة “7+7”، وعدم تحديد هُويَّة المُشاركين، خاصَّة تمثيل منظمَّات المُجتمع المدني، وأنَّ الدَّعوة للاجتماع جاءت متأخِّرة، وفي ظرفٍ عصيبٍ يُحيط بالانتخابات، التي قرَّرت الحكومة المُضِيِّ فيها رغماً عن أنف القُوى السياسيَّة المُعارضة وتوسُّلات المُجتمع الدَّولي، وأن جُلَّ المُشاركين في الحوار هُم مِن المُرشَّحين، مِمَّا لا يُمكِّنهم من السَّفر والغياب من ساحة المُنافسة.
• لا شكَّ، أن تحالُف السيِّد الإمام الصَّادق المهدي مع الجبهة الثوريَّة قد أربَكَ حسابات النظام، إذ ستضعه المُشاركة في الاجتماع في موقفٍ يبدو معه وكأنه يعترف، ولو ضمنياً، بتحالف “إعلان باريس”، أو “نداء السودان”. وهذا، أمرٌ ظلَّت الحكومة، وحزبها الحاكم، دوماً تسعى إلى تجنُّبِهِ، وهو ما يُفسِّر اضطرار رئيس الآليَّة رفيعة المُستوى لتوقيع “الاتفاق حول الحوار الوطني والعمليَّة الدستوريَّة”، أديس أبابا، 4 سبتمبر 2014، بينه، وأحمد سَعَد عُمَر وغازي صلاح الدين، من جهة، كممثلين لآليَّة “7+7”، من الحُكومة والمُعارضين، والإمام الصَّادق المهدي ومالك عقار، كممثلين لقُوى “إعلان باريس”، من جهة أخرى. فقد تعرَّض السيِّد الإمام الصَّادق للاعتقال والمُعاملة المُتعسِّفة من قِبَلِ النظام، والذي ظلَّ يُثابر في دعوته للحِوَار معه، ما أكسبه عداء قُوىً عديدة، كما أدخله في معارك حتى مع قيادات حزبه. ومع ذلك، فقد مثلت القفزة المُفاجئة للسيِّد الإمام الصَّادق المهدي من قارب حِوَار “الوثبة” ضربةً شخصيَّة قويَّة إلى الرئيس، الذي، وفقاً لمصادر موثوقٍ بها، أبدى غضباً شديداً تجاه السيِّد الإمام. وفي ظني، وأعيد ما نوَّهتُ إليه، في المقال “البيان 456”، أن الرئيس لن يطيق مشاهدة السيِّد الإمام وهو يضع يده في يد “المُتمرِّدين”، ويتبادل معهم الابتسمات، حول طاولةٍ واحدة. فالرئيس يرى أن الإمام يحاول أن يختطف مبادرته للحِوَار الوطني “الوثبة”، وظلَّ يدعو لعَزْلِهِ من قيادة آليَّة الحِوَار الوطني لصالح شخصيَّة وطنيَّة تَحظَى بالتوافُق، بل حدَّدها بأن يكون واحداً من القُضاة (‘سودانايل’، 12 سبتمبر 2015). رغماً عن ذلك، لن يألو الحزب الحاكم جهداً من أجل إقناع الإمام بالعودة والمُشاركة في الحوار الوطني.
• إلى جانب ذلك، فهُناك بعض الأحزاب السياسيَّة الأخرى، في خانة المُعارضة، ولا سيَّما المُؤتمر الشَّعبي وبعض أحزاب البعث والناصريين، تقف ضدَّ فكرة أي اجتماع يتم خارج السُّودان، بحُجَّة إمكانيَّة التدخُّل الأجنبي في القضايا الوطنيَّة واختطاف الحوار بواسطة جهاتٍ خارجيَّة. ليس ذلك فحسب، بل هناك قوى معارضة، منضوية تحت لواء تحالف “قُوى الإجماع الوطني” أغلقت نهائياً باب المُشاركة في الاجتماع التحضيري، وبلُغة حاسمة لا تقبل التأويل، «مع تقدير المجهودات التي يبذلها الاتحاد الأفريقي ولجنته رفيعة المستوى أكد الاجتماع على الخط السياسي المُجمَع عليه بتحالف قُوى الإجماع الوطني وهو طريق الانتفاضة الشعبيَّة لإسقاط النظام، وأن الحديث عن أي حوارٍ يستوجب استجابة النظام لشروط قُوى الإجماع المُعلنة في إعلان سبتمبر 2014».. (تحالف قُوى الإجماع الوطني، 1 سبتمبر 2014). ومن جانب حاملي السلاح، يتطابق موقف عبدالواحد محمد نور، رئيس أحد فصائل حركة تحرير السُّودان، وإن كان من المُفترض أن يجمع الاجتماع التحضيري، في أديس أبابا، كُل القُوى السِّياسيَّة"، أصحاب المصلحة، لمُناقشة المسائل الإجرائيَّة المُتَّصلة بانعقاد الحِوَار الوطني في الخرطوم، فلا شكَّ أنَّ خلافات قُوى المعارضة، وتفرُّق سُبُلها، تحول دون عقد هكذا اجتماع. وبذلك، تنتفي صفة “شمول” المُشاركة في الاجتماع، التي تطالب بها قُوى المُعارضة نفسها، ما يُهدي للحُكومة مسوغاتٍ قويَّة لتسويق موقفها الرَّافض للاجتماع. بمعنى آخر، فإن المعارضة وهي على هذا الشكل “المبهدل”، تخدم، ولو بغير قصد، أغراض الحكومة وتشُدُّ من أزرها بامتياز.
4. ربَّما، من أجل فهمٍ أعمق، فإنه من المهم أن نُدرك ترتيب التدابير التي اقترحها مجلس السِّلم والأمن الأفريقي، والمنصوص عليها في البيان 456، جاء متسلسلاً بطريقةٍ واضحةٍ، تبدأ بالمُفاوضات المُنفصلة، ولو كانت متزامنة، على وقف الأعمال العدائيَّة، مِمَّا يقود على الفور إلى اتفاقٍ شاملٍ للترتيبات الأمنيَّة في دارفور والمنطقتين، على حدٍ سَوَاء. يَحسِبُ المجلس هذه الخُطوة بمثابة تمهيد الطريق لاجتماع كُلِّ الفُرَقاء وأصحاب المصلحة التحضيري المُقترح في أديس أبابا. ومِن ثمَّ، ففي الوقت الذي سيتم فيه عقد الاجتماع، سيكون حينها قد تمَّ التوصُّل إلى قسطٍ من بناء الثقة المُتبادلة بين الأطراف المُتنازِعَة، والى إبرام اتفاقٍ لوقف إطلاق النار. وتكتمل بهذه الخطوة، في نهاية المطاف (نظرياً طبعاً)، عمليَّة التحضير لعقد الحِوَار الوطني الدُستوري في الخرطوم. ولقطع الشكِّ باليقين في هذه النقطة، ينُصُّ البيان في الفقرة (iv) على: «توفير الضمانات اللازمة للحَرَكَاتِ المُسلَّحة للمُشاركة بحُريَّة في الحِوَارِ الوَطَنِي، حالما أُبرِمَت اتفاقيَّاتٍ شاملة لوقف إطلاق النار والترتيبات الأمنيَّة».
• دَعَت الحكومة الألمانيَّة (بمساندة أوروبيَّة وأمريكيَّة) جميع الأطراف المُتنازِعَة إلى برلين (25-26 فبراير 2015) بهدف تقريب وجهات النظر بين الفُرَقاء حول سُبُلِ حَلِّ الأزمة السُّودانيَّة، وإيجاد وسيلة لتليين شروط وثيقة “نِدَاء السُّودان”. كما أنها دعوة لفتح الطريق للتواصُل بين المؤتمر الوطني وفصائل المعارضة المدنيَّة والمُسلَّحة. وبما أن ألمانيا من أكثر دول الغرب قُرباً من النظام ودعماً له، فقد أبدى الحزب الحاكم، على لسان بعض قياداته، موافقته على قيام الاجتماع التحضيري بأديس أبابا. وذلك، بالرغم من أن المبادرة الألمانيَّة أفسدت تسلسُل الخُطوات أعلاه، ودفعت بانعقاد الاجتماع أديس أبابا (قبل التوصُّل لاتفاقٍ لوقف العدائيات يُفضي إلى وقفٍ شاملٍ لإطلاق النار). ومن جهة أخرى، أعدَّت قُوى المعارضة، وبعض الأطراف الخارجيَّة، عُدَّتها لاستخدام الاجتماع المُرتقب في سعيها لتأجيل الانتخابات العامَّة في ابريل 2015، والتي لم يتبقَّ من مواعيد انطلاقها إلا بضع أسابيع. وهكذا، فات على المجتمعين في برلين أن الكتابة قد باتت واضحة على الجدران منذ وقتٍ طويل: الانتخابات خطٌ احمر، بالنسبة للنظام. لا شكَّ، أن خشية الحكومة من محاولة فرض موضوع الانتخابات على جدول الأعمال، كان أحد الدوافع الهامَّة وراء قرار مقاطعة الاجتماع.
• وما يستحق الذكر، أنَّ الولايات المتحدة تراجعت عن دعمها، ولو كان من وراء ستار، للتدخُّل الألماني، بعد إحياء دور مبعوثها الخاص، وفي وقتٍ بات الملف السُّوداني يجد اهتماماً من الإدارة الأمريكية، وأوباما بنفسه. بل، ولربَّما ساهَمَت في قتل المبادرة الألمانيَّة، التي أضحت غير مرضي عنها، بمعاونة جهاتٍ في سكرتارية الآليَّة، وربَّما التمهيد للقرار 539. ذلك، خاصَّة وأن ألمانيا ليست في الترويكا، ولم تكُن طرفاً في تسهيل المُفاوضات من قبل، لتبرُز فجأة في الواجهة، بل وأضحت الطرف الفاعل. ومن ناحية أخرى، لعلَّ التقارُب بين الحكومتين الألمانيَّة والسودانيَّة أيضاً قد أثار حفيظة المعارضة وتشكُّكها في نوايا الألمان. حقاً، ما يؤكد هذه الرِّيبة من جانب المعارضة، بحسب مصدر رفيع المُستوى، سؤالٌ كان يُوجَّه دائماً إلي وفد الحكومة المُفاوض: لماذا ألمانيا؟!
• وبالرغم من ما تعرَّض له ثابو امبيكي من إحراجٍ بالغ، بعد أن قاطعت الحكومة الاجتماع، تظل الحكومة مُمتنَّة لجنوب أفريقيا، خاصَّة بعد إحباط محاولة توقيف الرئيس في يونيو المُنصرم، والذي أيضاً يكِنُّ احتراماً مُقدَّراً للرئيس ثابو امبيكي. إضافة، إلى اللقاء الوُدِّي الذي جمع البشير وزوما، على هامش زيارتهما الأخيرة للصين، سيجعل من العسير على الرئيس أن يرفض الاجتماع التحضيري، هكذا جملة وتفصيلا! رغم تلك التصريحات المُستفزَّة في بكين، والتي تفوَّه بأغلظ منها في العديد من المناسبات السابقة. علاوة علي ذلك، فالاتحاد الأفريقي يظل سنداً قوياً للنظام، ولا مجال لتوترٍ جديد في العلاقات الإقليميَّة، بالرَّغم من انتقاد الحكومة اللاذع لمجلس السِّلم والأمن والأفريقي لعقده جلسة استماع دعا لها قيادات المُعارضة والحركات المُسلَّحة، أديس أبابا في 23 أغسطس 2015.
• تضاربت تصريحات بعض قيادات الحزب الحاكم حول الاجتماع التحضيري وإمكانيَّة انعقاده. ومع ذلك، فأنا اعتقد أن الحكومة، على خلفيَّة العوامل أعلاه، إضافة إلى متانة علاقتها مع ألمانيا، ستقبل الحكومة بعقد اجتماع تحضيري في أديس أبابا بشرط أن يتم تنظيمه على هدى اتفاق برلين. فما هو اتفاق برلين؟!
• بعد تداوُلٍ مستفيض حول المُشاركة في الاجتماع التحضيري المُرتقب، تمَّ اتفاق ممثلي أطراف النزاع، في أديس أبابا، مع رئيس الآليَّة الأفريقيَّة، على أجندة الاجتماع وتحديد المُشاركين. وخلال مداولات هذا اللقاء، أصرَّت المعارضة على مشاركة قُوى الإجماع الوطني، والمرأة والشباب، ومنظمات المُجتمع المدني. وكان رد الحكومة أنه بمثل هذه المُشاركة سيكون الاجتماع أشبه بتظاهُرة سياسيَّة، خاصة وأن أ) طبيعة الاجتماع إجرائيَّة بحتة، تتصل بالحوار من أجندة وخارطة طريق، ب) الطرفين لن يتفقا على ممثلي هذه الفئات، وج) قُوى الإجماع رافضة للحوار من أساسه. لم تقبل الآليَّة - حينها - منطق المشاركة المُضخَّمة، وتمَّ التوافُق على حصر المشاركين في: آليَّة “7+7”، المُمثِّلة لأحزاب الحكومة والمعارضة (التي أقبلت على الحوار) والإمام الصَّادق المهدي، كمُمثلين للمعارضة والحركات المُسلَّحة، بعد تفويضهما في ورقة موقعة من أعضاء مُؤتمر برلين.
• في حقيقة الأمر، فإن نص المادة (14.iii) من بيان مجلس السِّلم والأمن الأفريقي 456، لم يُحدِّد المشاركين في الاجتماع التحضيري بصورة واضحة، بل دَعَت بلغة مُعمَّمة إلى اجتماع يضم «الأطراف السُّودانيَّة، في مقرِّ الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا، اجتماع الأطراف السُّودانية، في مقرِّ الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، لمناقشة القضايا الإجرائيَّة ذات الصِّلة، من أجل تمهيد الطريق للحوار الوطني في الخرطوم». أيضاً، كرَّر بيان المجلس في 539 مجدَّداً دعوته إلى اجتماعٍ عاجل، يسبق عمليَّة الحوار الوطني، «يضم جميع الأطراف المعنية»، دون تعريف لهذه الأطراف. وهكذا، فمن الواضح أن المجلس قد ترك عبء تحديد المشاركين للفُرقاء السُّودانيين، بتسهيل من الآليَّة الأفريقيَّة رفيعة المستوى، وهذا ما تمَّ الاتفاق عليه من خلال مداولات برلين. وما يُؤكد على هذا التوجُّه هو اتفاق الحكومة والحركة الشعبية - شمال، في مسودَّة الاتفاق الإطاري، أبريل 2014، الفصل الثامن، الفقرة (39) على: «عقد اجتماع في أديس أبابا تحت رعاية الآليَّة الأفريقيَّة، بين ممثلي الأطراف المُوقعة على اتفاقيَّة 5 سبتمبر 2014، وكذلك تلك الأحزاب التي لم تنضم بعد إلى الحِوَار الوطني، والمُجتمع المدني، بما في ذلك تحالف النساء». وهذا، ما تمَّ التوافُق عليه وفق مُخرجات المبادرة الألمانيَّة، ولو بدون مشاركة المجتمع المدني، التي ربَّما تكون مثيرة للجدل.
(2) عقبة الحوار الوطني والتفاوض مع الحركات المسلحةII
1. كما سبق وأن كرَّرتُ، في مقالاتٍ سابقة، إن أمر “الحوار الوطني” المطروح لا يستقيم، ولن تقود نتائجه إلى توافُقٍ وطنيٍ حول كيف ننتقل بالبلاد إلى مستقبلٍ أفضل، وإن شارك فيه الجميع، إلاَّ إذا اتفقت كافَّة القُوى السياسيَّة، بما في ذلك المُؤتمر الوطني، وقُوى المجتمع الحيَّة على مدى “scope” التغيير المطلوب في البِنيَة (البِنيَات) السياسيَّة والمُؤسَّسيَّة للدولة السُّودانيَّة بعد أكثر من رُبع قرنٍ من الزمان من هيمنة الحزب الواحد على مفاصل ومُؤسَّسات الدَّولة. فمن جهة، يُقِرُّ المُؤتمر الوطني، الحزب الحاكم، بخللٍ في هياكل ومُؤسَّسات الدَّولة وسياستها، إلا أن سقوفه للتغيير المطلوب تحدِّدها وثيقة الحزب للإصلاح، التي قامت عليها مبادرة الرئيس للحوار “الوثبة”. وبالتالي، فالمعارضة، المدنيَّة والمُسلَّحة، مَدعُوَّة، دون قيدٍ أو شرط، للمشاركة في الحوار الوطني، الذي دعت له المبادرة، في إطار السُقوف المطروحة في الوثيقة، وفي سياق تطوُّرٍ دستوري محسوب، مع تعهُّد الحكومة باحترام وتنفيذ ما يليها من مُخرجات الحوار الوطني المُرتقب. بينما، من الجهة الأخرى، تهدف قُوى المعارضة إلى “تفكيك” النظام عن طريق الحوار الوطني، في مقابل إسقاطه بواسطة انتفاضة شعبيَّة، قد تحتاج للحماية المُسلَّحة. فالتفكيك، في نظرها، يعني إقامة وضع وترتيبات انتقاليَّة كاملة الدَّسم، تديرها القُوى السياسيَّة المدنيَّة والعسكريَّة المُناوئة، بالاحتكام لمبادئ وثائق المعارضة، تقود إلى تفكيك النظام السياسي برُمَّته وتنظيم انتخاباتٍ حرَّة ونزيهة، على شاكلة الأوضاع الانتقاليَّة التي تنتجها الانتفاضات والثورات الشعبيَّة.
2. وبنفس القدر، من جهة النزاع المُسلَّح، نجد أن معضلة التباعُد في المواقف بشأن “مدى” مواضيع وأجندة التفاوُض بين الحكومة والحركة الشعبيَّة - شمال، هي التي ظلَّت دوماً تهدِّد المُفاوضات بالانهيار. فالجدل يدورُ حول: هل تقتصر المحادثات فقط على قضايا “المنطقتين”، كما تنظر الحكومة للأمر، أم مخاطبة النزاع من منظورٍ شامل، بما في ذلك مناقشة المسائل القوميَّة الدستوريَّة، كما ترى الحركة؟! ومع ذلك، كما في حالة الحوار السياسي العام، فلن يُكتَبَ النجاح لجولات التفاوُض المرتقبة في الوصول لاتفاقٍ بدون تفاهُماتٍ بين الأطراف على طبيعة ومدى المُخرجات المُتوقعة من المُفاوضات. فلكُلِّ طرفٍ تصوُّره وتوقُّعاته لنتائج التفاوُض، وطبيعة ومدى التغيير الذي سيُفضي إليه، كما أنه من الضرورة أن يتفق الطرفان على المحطَّة التي ستقود إليها رحلة التفاوُض في نهاية المطاف، فيُقبِلَ كلٌ منهُما على الحوار بعقلٍ مفتوح، وبثقة فيما قد يُسفِرَ عنه من نتائج. هذا ما يجب على المؤتمر الوطني إدراكه.
3. وهكذا، فلكُلِّ طرفٍ تصوُّره لطبيعة التغيير المنشود، ومدى هذا التغيير. ومِن الواضح أنَّ مواقف الحكومة والمعارضة (المدنيَّة والمُسلَّحة)، ليست متباعدة وحسب، بل تبدو أشبه بالمعادلة الصِفريَّة. وقد كرَّرتُ الدعوة أيضاً لكُلِّ المهمومين والمهتمِّين بالشأن الوطني العام لنتداول بشفافيَّة، ونتناقش بعُمقٍ وتبصُّر، فيما إذا كان الانتقال المُكتمِل الأركان، في ظِلِّ عدم توفر شُرُوطه خياراً على قدرٍ راجحٍ من الواقعيَّة السياسيَّة، على خلفيَّة توازن القوي الراهن؟!
(3) عقبة تهيئة المناخ للحِوَار الوطني
1. يطلب مجلس السِّلم والأمن الأفريقي مِن الحُكومة اتخاذ بعض التدابير الضروريَّة لتهيئة البيئة المُناسبة للشُروع في الحِوَار الوطني. فوقف الحرب وإعلان وقف إطلاق النار، ومعالجة الأوضاع الإنسانيَّة، وضمان الحريَّات وحقوق الإنسان الأساسيَّة، وإطلاق سراح المُعتقلين السياسيِّين والمُعتقلين المحكومين، يجب أن تكون لها الأولويَّة القُصوى في عمليَّات إعادة بناء الثقة وخلق التواصُل. وللمُفارقة، هذه التدابير هي ذات مستحقات تهيئة المناخ التي وافق عليها المُؤتمر الوطني ضمن خارطة طريق آليَّة “7+7”، المُجازة من قِبَل الجمعيَّة العموميَّة للأحزاب المُحاورة، برئاسة الرئيس البشير نفسه.
2. هذه عقبة، بحُكم طبيعتها، يظلَّ تجاوُزها بيد الحُكومة، فهي وحدها القابضة على مفاصل السُّلطة، وتملك القرار وأدوات تنفيذه. فالحكومة مطالبة بأن تعلن سلسلة من القرارات والإجراءات الهادفة لطمأنة معارضيها وخُصُومها، وللمجتمع السُّوداني قاطبة، وكرسالة إيجابيَّة للمُجتمع الدَّولي. وذلك، برفع القيود المفروضة على الحريَّات العامة، خاصَّة حريَّة التعبير وما تتعرَّض له الصَّحافة من انتهاكاتٍ يوميَّة، وإطلاق سراح المُعتقلين والمسجونين سياسياً. وبطبيعة الحال، فإن كافَّة القوانين المُتعارضة مع روح ومبادئ الدستور الانتقالي لعام 2005، خاصَّة مع المواد الواردة في وثيقة الحقوق والحريَّات، وكيفيَّة مواءمتها مع الدُّستور، ستخضع للنقاش والمُداولة بشأنها علي طاولة الحوار الوطني الشامل.
3. في الواقع، بينما يُشجِّع البيان 456 الشُروع في تنفيذ خُطُوات بناء الثقة هذه، إلاَّ أنه لم يضعها كاشتراطاتٍ واجبة لانعقاد الحِوَار الوَطني. وهذا ما وضَّحَهُ رئيس الآليَّة الأفريقيَّة بنفسه، في مخاطبةٍ مكتوبة وجَّهها إلى كُلِّ القيادات المُوقعة لوثيقة أديس أبابا (4 ديسمبر 2014)، ذكر في أحد فقراتها بالحرف: «إن بيان الاتحاد الأفريقي - مجلس السِّلم والأمن الأفريقي، في 12 سبتمبر 2014، لم يقُل أو استلزم أن إجراءات بناء الثقة، المذكورة في الفقرة (15)، هي، أو يجب أن تكون شروطاً مُسبَقة لعقد الحوار الوطني». ومع ذلك، فبالرغم من هذا الفهم، إلاَّ انه يتوجَّب علي الحُكومة أخلاقياً وسياسياً الوفاء بالتزاماتها وتعهُّدها أمام الاتحاد الأفريقي، “المنظمة الأم”، كما تحرص قيادات الإنقاذ على ترديده.
4. وفيما يبدو استجابة، ولو جزئيَّة، لمُناشدة مجلس السِّلم والأمن الأفريقي، بتهيئة المناخ وبناء الثقة قبل انعقاد الحِوَار الوَطَنِي، أصدر رئيس الجُمهوريَّة مرسوماً جمهورياً يقضى بوقف إطلاق النار، لمدَّة شهرين، في مناطق النزاعات المُسلَّحة. وفي المقابل، ردَّت الحركات المُسلَّحة بالمِثل، وذلك بإعلان استعدادها لتوقيع اتفاقيَّة وقف إطلاق النار لمدَّة ستة أشهر (بيان الجبهة الثوريَّة، 15 سبتمبر 2015). ومع ذلك، ينتابني شعورٌ بالتوجُّس من إمكانية التوصُّل إلى هذا الاتفاق، وتقبُّل الحُكومة لقرار الحركات المُسلَّحة الذي يهدف إلى حماية المدنيين، وتوصيل المساعدات الإنسانيَّة دون عوائق، ومن ثمَّ إلى خلق مناخ ملائم لعمليَّة السلام والحوار الوطني. فموضوع توفير المساعدات الإنسانيَّة ظلَّ مثيراً للجَدَل منذ بداية المفاوضات مع الحركات المُسلَّحة، خاصَّة مع الحركة الشعبيَّة - شمال، إذ ترى الحكومة أن أي وقفٍ لإطلاق النار بدون الاتفاق على لجنتي التفاوُض للترتيبات الأمنيَّة والسياسيَّة، ووفق قيدٍ زمني محدَّد، لهي بمثابة استراحة محارب لهذه الحركات لمزيدٍ من الاستعداد لحربٍ طويلة.
خاتمــة:
استعرضتُ في هذه المساهمة عقبات حقيقيَّة تعترض مسيرة وقف الحرب وتحقيق السَّلام، والتحوُّل الديمقراطي في بلادنا، وهي عقبات ترجع في الأساس للقُوى السياسيَّة، معارضة أم موالية، وللحُكومة السُّودانيَّة، وخلافاتهم في أتون الصِّراع على السُّلطة، لم تصنعها الآليَّة الأفريقيَّة رفيعة المستوى، ولا رئيسها امبيكي. ومع ذلك، فثمَّة خلاف إستراتيجي يظل عالقاً، خاصَّة بين الحُكومة والحركات المُسلَّحة، وعلى رأسها الحركة الشعبيَّة - شمال، يجدُرُ الوُقوف عنده، فهُو، في رأيي، كفيلٌ بنسف مساري التفاوُض والحِوَار الوطني، على حدٍ سواء. حضَّ هذا التحدي الإستراتيجيَّة رئيس الآليَّة بطرحه على الطرفين مشروع مُقترح مُكتمل، أدعو كل المُهتمِّين والمهمومين بالشأن العام إلى دعمه والدفع به للأمام تغليباً للمصلحة الوطنيَّة، في المقال التالي.