لم يجد الشاعر " محمد محمد علي "، حقه من التكريم الذي يليق بمكانته ، في حياته أو من بعد رحيله، سوى بضع رسائل أنجزها طلاب وطالبات الدراسات العليا . فقد رحل الشاعر مساء ذات اليوم الذي رحل فيه زعيم مصر جمال عبد الناصر ( 28 سبتمبر 1970 ). عندها انشغل الإعلام بسلطة السياسة ، وترك سلطة الثقافة الأبقى .ولن نوفِه حقه اليوم. ضخم ومتسع هو الحقل الذي تناوله الشاعر المُبدع ،لا يسعه مقال عجول ، فمزرعة ابداعه اشتغلت على النفائسمن نباتات الأرواح ذات الروائح الزكية . في مجلس الجمعة من كل أسبوع ،حيث يلتقي الشاعر بالمثقفين من الأقارب والأصدقاء ، كانت الدنيا في ذلك الزمان لا تدوّن تلك الشرارات الشاردة من نار الوعي ، فيذهب اللقاء أريج محبة ، تذكره القلوب التي تجمّعت سرباً ، وليس لنا حظٌ في التوثيق. إن الشِعر القويم ،رقيقٌ، يعرف مسكنه في النفوس الأبيّة ، والأرواح الطلقة حين تُعانق بعضها . عرف سيدنا الشِعر من منطق الهوى والعشق الذي لا يعرف ما مصيرسفائن الصبابات : بداياتها والنهايات.
(2)
هو شاعر مُجدّد ،يختار لغة المعاني الرشيقة ، الدقيقة العاطفة ؛ كتب وفق نظم الشِعر المُحافظ حيث يكون الالتزام بالوزن والقافية ، والجديد الذي يتخذ التفعيلة خياراً لشِعره وهو حال أجيال الشُعراء من أترابه . تميّز قاموسه الشِعري بالسلاسة وتتدفق لغته ثراء ووجّداً . دقيق العبارة ،رقيق الحاشية ، يخاطب العواطف . خياله قطعة شاردة ،مُنطلقة لاهية . وتعبيره لاهبٌ ،كريح تعصف بالنفس في مراكب الأهواء . التزم أوزان الخليل إطاراً فأغناه من ذوقه العالي . شاعرٌ حالمٌ يعشق الخلود. راح يتلبّس الروح رداء لتخرج قدر ما تستطيع عن الجسد ، راغبًا في النفاذ إلى العُلا بالمقاصد النبيلة ، روحٌ نورانية تُحلق بعيدًا عن كثافة الجسد. بالشِعر استنطق تلك العوالم السابحة في عوالم النفس البشرية ونال منها ما يُحب.
(3)
صديقه وتوأم روحه الشاعر" إدريس محمد جمّاع" . كلاهما تخرج من كلية دار العلوم وكلاهما أنجز دراسات عليا بها وكلاهما عمِل بالتدريس. اشتركا رهافة الحس ورومانسية أشرقت بالواقع الحي ، حتى لكأنك أمام فتحٍ صعد بالنفوس إلى مقامات العُلا، فاستجمعت الأرواح أنسّها ومجلس صحابتها . بين الشاعرين ليست وشائج قُربي فحسب ، بل سيرة ناعمة من رومانسية جديدة ، لوّنا بها القصيدة العربية . وتجد بيانها واضح من النماذج التي سنورد:
(4)
نقطُف باقة من لطائف شعر " محمد محمد علي " :
مقدمة ظلال شاردة:
هُنا بعضُ الذي أجرّتهُ نَفسي ..على الأرواقِ من شتاتٍ
وما لجماله حرصٌ عليه .. ولا ليكون زُخراً للرواة
ولكني أُطالِع فيه وَجهي .. يَلُوح مُعبّراً عن بعض ذاتي
*
شروق :
تاه في دُنياك تغريدي ولحني ..وانطوى في كونَك المَسحُورِ كَوني
ذاب في عينيك إحساسي وروحي .. وهنائي وصباباتي وأمني
سَكِرتْ في روحك العربيد نفسي .. وارتوت من شاطئ الأحلام عيني
فاستفاقَ الفجرُ في بيداء صدري .. واحتويت الكونَ في بيداء ظني
*
أبيات من قصيدة: غار ثور:
يا صاحبان تغربا في الحق وارتضياه ذخرا وتجنبا متع الحياة تشع إغراء وسحرا أمسيتما تحت الثرى في خاطر الظلمات ذكرى والموت خبأ في نيوب الرقط للأضياف شرا والبيد تزخر بالعدو ونابه للفتك أضرى ناجيتما الحيات باسم الحق فارتشفته خمرا سكرت به واستبسلت للخير إعلانا وسرا بشراكما رجع العدو مزودا ندما وخسرا
(5)
ونقطف من رفيق عُمره " إدريس محمد جمّاع " :
رحلة النيل :
النيل من نشوة الصهباء سلسله
وساكنو النيل سمار وندمان
وخفقة الموج أشجان تجاوبها
من القلوب التفاتات وأشجان
كل الحياة ربيعٌ مشرق نضرٌ
في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصائل في واديه حالمة
يحفُّها موكب بالعطر ريّان
وللخمائل شدو في جوانبه له
صدي في رحاب النفس رنان
إذا العنادل حيّا النيل صادحها
والليل ساج فصمت الليل آذان
حتي إذا ابتسم الفجر النضير
لها وباكرته أهازيج وألحان
تحدر النور من آفاقه طرباً
واستقبلته الروابي وهو نشوان
تتلمس أنت التوافق بين طعوم الشِعر لدى الشاعرين .صفاءٌ لم يكن يناسب معارك الحياة التي كانا يعيشانها . تلون الدهر تلك الأيام بمعارك الحياة المُتقلبة، وكان ميدانهما صفحة النفوس المنسية ، والأرواح الهائمة . لشعرهما هالة من أنوار ، يحتاج القارئ مدافعة ، ليتعرف على دنيا تلك المجاهل ، وتُحاول اللحاق بقبس النار المُبدعة .
(6)
سيرة الشاعر" محمد محمد علي " كما تسير بها الرُكبان :
ولد الشاعر في حلفاية الملوك (السودان)، وتوفي فيها. عاش في السودان ومصر. تلقى تعليمه الأولي بين بلدتي حلفاية الملوك ورفاعة. ثم تخرج في معهد أم درمان العلمي عام 1945. التحق بعدها بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة التي أحرز شهادتها العالية آنذاك (الليسانس)، إضافة إلى حصوله على دبلوم معهد التربية، فالماجستير أيضاً في كلية دار العلوم، وكانت رسالته عن الشِعر السوداني في المعارك السياسية . عمل بعد عودته إلى السودان صحافيًا (1945 - 1946)، فمدرسًا للغة العربية بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، ثم محاضرًا بمعهد المعلمين العالي في أم درمان. شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات في كلية دار العلوم. وفي عام 1959 شارك في مهرجان الشعر الأول بدمشق.
الإنتاج الشعري: - له ديوانان: «ألحان وأشجان» و «وظلال شاردة» ، ونشرت له مجلة الرسالة (القاهرية) عددًا من القصائد. الأعمال الأخرى: - له كتابان هما: «من جيل إلى جيل» (1945 - 1946) - وهو مجموعة من المقالات نشرتها له الصحف السودانية في زمانه. و «محاولات في النقد» (1952 - 1958) وهو مجموعة من المقالات ،نشرتها له الصحف السودانية أيضًا. له شعرٌ في مناهضة الظلم، وهضم حقوق الإنسان . مجِّد كفاح الأحرار من أبناء أفريقيا التي كان يحلُم لها بغدٍ جديد. إلى جانب شعر له في وصف المدن، وفي الرثاء، و نذكر رثاءه للعقاد صاحب «مدرسة الديوان»، إلى جانب أشعار التحيات والتهاني، والمعارضة الشعرية.
كان صديقاً للشاعر" محمد المهدي المجذوب "،و الاستاذ "صالح عبد القادر "، ومن تلاميذه البروفسير عون الشريف قاسم، الذي جلس أكثر من أربعين عاماً لإنجاز أول مجموعة لسيرة الأنساب والقبائل السودانية .
*
الشكر الجزيل للواء (م) ناصر جمّاع ، قريب الشاعر ، الذي رفدنا بالكثير .