قال الشاعر الراحل محمود درويش بيروت خيمتنا الأخيرة !!!
أخيراً .. وصل الفرقاء السودانيون لمحطة الحوار الوطني ... بعد أن تعب كل الاطراف من الحرب التي لا تؤدي الى نصر حاسم في قتالهم الأهلي المتطاول قبل استقلال السودان عام 1956م .
إبتدار الدعوة للحوار الرئيس عمر البشير في يناير 2014م ، ولأن الهوة بين الفرقاء واسعة استغرق إنعقاده كل هذه المدة التي تبدو طويلة للكثير من المراقبين .
الحكومة بدأت الدعوة في بداية الأمر بإعتصام موارب حول رؤيتها ثم رويداً رويداً ألزمت نفسها بتعهدات رئاسية ليطمئن حملة السلاح على سلامتهم الشخصية ، حتى لو لم يكمل الحوار غاياته ، ويصل المتحاورن الى تفاهمات حول مواضيع النقاش التي حُددت بستة موضوعات( الحكم، الحرية، الاقتصاد، السياسية الخارجية، السلام ،الهوية)
على جنبات قاعة الصداقة الواسعة ، إنتظم الحوار الوطني بمنْ قبل الدعوة بشكلها الحار والواضح من الرئيس البشير ، الذي أعلن أنه سيقبل مخرجات الحوار بكاملها وبدون مواربة او تردد أقبل المجتمعون بجدية وفاعلية نحو الحوار ، رغم المقولات التي تتناولها الصحف ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، عن تجاوز الأحزاب الكبيرة مثل ( حزب الأمة جناح الصادق المهدي ) والحركات المسلحة الفاعلة في دارفور ، وقطاع الشمال للحركة الشعبية ، بمعنى آخر أبرز المعارضين لهذه الحكومة ، وأكثرهم لؤماً وعناداً وفاعلية على المسرح السياسي والعسكري ، مما يعني نقصاً مريعاً في مكوناته السياسية حسبما يقال .
يبدو ظاهرياً أن هذا الحديث واقعي الى حد ما ، ولكن بالنظر الى معطيات أخرى ، تتضح الحقائق مثل سقوط مشروع " السودان الجديد " سقوطاً داوياً ، بدءاً بإنفصال الجنوب ، ثم الفوضى والدمار و الفشل الذريع المخيب للامال ، مروراً بالتعثر المربك في امتحان الديمقراطية لاختيار رئيس الجبهة الثورية مؤخراً .
اذا دققنا قليلاً في العوامل التي أفضت الى انفصال جنوب السودان ، تجدها كثيرة ، ولكن إذا ركزنا على مشروع السودان الجديد ، الذي روّجت له الحركة الشعبية لتحرير السودان ، ورسمت منه صورة زاهية لبلد ينعم بالسلام ، والامن ، والعدالة الاجتماعية ، الا ان ذات المشروع ( الحلم ) إنتهى الى رؤية عنصرية إنفصالية ، منعزلة ، أدت الى فصّل الجنوب بعقلية رجعية هزمت كل الشعارات التقدمية التي كانت تدعو لها الحركة الشعبية ابان نضالها الثوري ( المزعوم ) ذاك .
بعد انفضاض العدو ( المتوهم ) وهو حرب الشمال ، اقبل الثوريون على كرسي الحكم يتنافسون الى درجة اضرمت النار بينهم ببأس شديد ، احرقت الأخضر واليابس وتحرك شعب الجنوب ، عارياً ، مريضاً ، لاجئاً ، بعد فشل الحكومة في إقامة دولة ديمقراطية ، أو ديكتاتورية ، بمعنى أن نموذج السودان الجديد السياسي ، هُزم هزيمة قاسية من رواده الاوائل الذين اختلفوا اختلافاً مريراً غُذي بالدماء والهلاك والعنف .
الارتباط العضوي والمعنوي للحركة الشعبية قطاع الشمال ، عطّل مفاوضات السلام في كلا المنطقتين جنوب كردفان والنيل الازرق ، إضافة لمحاولات دمج أزمة دارفور التي قطعت اشواطاً في السلام والاستقرار بعد وثيقة الدوحة ، وإنحسار التمرد إنحساراً لافتاً في جميع مناطق العمليات ، وأستبدلت نعيماً واستقرار الى حد كبير .
هذه المحاولات المستميتة التي سميت بالجبهة الثورية التي تصل بين شتات الحركات المسلحة و احزاب أخرى محدودة تريد إسقاط الحكومة تناهض الدعوة للحوار الوطني ، برغبة من أعضاء بارزين بالحركة الشعبية سابقاً
هذا التوصيف للحالة ، لا يسُر ابداً ، لان موبقات هذا السلوك ، يُعرض السودان لموجات هائلة من اللجوء الذي يؤدي الى نقص مريع في الثمرات .
هذا حال المعارضة المسلحة سواء في المنطقتين أو دارفور ، حيث تعاني تلك الحركات المسلحة محقاً كبيراً في إمتدادتها على الأرض ، والرجال ، والسلاح .
أما المعارضة السلمية فحالها ليس بأحسن من المسلحة ، الا بوجودها و مشاركتها فيالحوار بالحسنى ، وذلك لاسباب لوجستية تتعلق بإجتماعاتها ومؤتمراتها التأسسية ، حتى الحزب الحاكم الذي يعتبر الأفضل ، يحتاج هو الآخر الى أصلاحات جوهرية ، انتبه لها مؤخراً ، وأصدر أورقاً للمعالجة العاجلة والفورية .
إذن الحال يستدعي هذا الحوار الهام بين مكونات اللعبة السياسية ، إضافة الى مؤسسات المجتمع المدني ، ليفضي الحوار معالجة قضية السودان .
إذن بدأ الحوار الآن جاداً وإنضم له أحزاب سياسية عديدة وكثيرة ، بالأضافة لحركات مسلحة ، نفضت يدها من السلاح في التو و اللحظة، واتت لقاعات الحوار هذا يعني الكثير ، بالرغم من وجود حركات مسلحة كبرى ، وأحزاب كبيرة مثل حزب الامة جناح الصادق والمهدي والحزب الشيوعي لم توافق لحضوره الا ان تمثيل هذا الطيف من الوسطيين او اليساريين تجده حاضراً في الحوار بوجوه أخرى ، وطريقة ثانية في التخاطب .
قد تبدو فكرة الحوار الشامل لكل الناس مستحيلة والاقرب للواقع جمع اكبر من مكونات السياسة والمجتمع للتحاور لاجل غدٍ أفضل للسودان .
بعد تجارب صعبة ، وصادمة ، ومؤلمة على الاقل مطلوب منه ، ان يعمق لغة الحوار بدلاً من استخدام لغات اخرى ونبذ ثقافة الإقصاء ، و تعلية مفهوم السودان يسع الجميع ، فضلاً عن تأسيس مجموعة من المخطورات الوطنية التي لا علاقة لها بحزب او فئة ، او طائفة ، او عرق ، او لون ، لإنتمائها للسودان الوطن ، ثم حزمة أخرى من افكار تُعزز من الحرية دون افراط او تفريط ، ثم محاولة الخروج بخطوط حمراء تجتمع حولها كل الفئات الوطنية ، وخطوطاً خضراء اخرى لإعلاء مساحة للتنافس وابراز العضلات الذهنية لاجل الارتقاء بالوطن ، فتجد الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي يعملان لاجل مصلحة امريكا اولاً وأخيراً .
في تقديرنا أن الحوار إنعقد بقناعة راسخة من الحكومة ، ورغبة مُلحة للكثير من المعارضة ما عدا القليل ، لأسباب خارجة عن إرادتهم ، وأخرى شخصية جداً لكراهية الاسلاميين .
كل سنوات الاستقلال قد افرزت ضرورة الحوار بعد مخاض عسير وجارح .
في اعتقادي ان ما يحدث في العالم من حولنا ، خاصة العربي منه ، يجعل حتمية اساسيةللحوار ، لايجاد بدائل ومنافذ ، غير الاقصاء ، او الغاء الاخر او الاستبداد والتهميش .
هذا يعني بشكل مباشر لا رجوح لكفة على الأخرى ، فالميل والتمييز ، وعلو الكعب يعني الطوفان ويغرق الجميع !!!