الضحية والجلاد في تاريخ الأستاذ أحمد سليمان المحامي

 


 

 


لم يكن الأستاذ أحمد سليمان المحامي حدثا عابرا في تاريخ السودان الحديث، بل كان أخطر أبناء جيله، فرغم وفاة الرجل رحمه الله، إلا أن الأحداث التي شارك فيها، أو نسبت اليه ما زال يشتجر حولها الخلاف ويصطرع فيها الجدل العام. وما فتئت بقايا كلماته التي نثرها علي أعتاب اللقاءات الصحفية العابرة تستدعي التفسير والمقاربة والبحث عن الأسرار.
استمتعت بصحبة السفر الشيق الذي حرره الصحفي المصري الراحل يوسف الشريف عن أسرار السياسة والمجتمع في السودان، وهو سياحة ممتعة في طبوغرافيا الأحداث والشخوص والذكريات لحقبة زمنية هامة في تاريخ السودان ، هي خواتيم الحقبة الناصرية في مصر حتي نهايات الفترة المايوية في السودان. ونقل بحسه الصحفي الدقيق وروح الدعابة المتحفزة خفايا السياسة وأسرارها والمناخ الإجتماعي لمجالس الونسة والقعدات في ليل الخرطوم الجميل. وقد أشار في سرده الشيق الي شخصية الأستاذ أحمد سليمان المحامي، التي قال عنها أنها كانت ريحانة المجالس وفاكهة السمر وذلك لعمق تفكيره، وسعة إطلاعه ، وتفرد تجربته السياسية ، وسماحته الإجتماعية. ومن طرائف ما ذكره أن النخبة التي كان يجمعها السمر في منزل الأستاذ الأديب والسياسي المرموق محمد أحمد المحجوب أدارت حوارا حول السلطة والإستوزار ، فطفق المتحدثون يسددون ويقاربون ، ويحومون حول الحمي حتي قال ، والله لقد ذقت حلاوة الإستوزار في أكتوبر ، وما زلت أنتظر دوري مجددا، فأنفجر المجلس بالضحك البرئ.
حين كانت تجلجل تلك الضحكات في ذلك الحي الأمدرماني العريق،كانت خيوط الفجر تنسج آخر تفاصيل المشهد،حيث كان البعض يؤدي دوره الأخير في مسرح الحياة، قبل أن يترجل وينسرب في غياهب الغياب. والآخرون أمتد بهم العمر وساقتهم الأقدار ليؤثروا تأثيرا عميقا في مجريات الأحداث السياسية والثقافية والإجتماعية في السودان.  
لقد كان الأستاذ أحمد سليمان المحامي أخطر ابناء جيله،حيث إنتمي في بداية حياة الطلب في مصر الي الحركة الماركسية علي يد هنري كورييل. ولدي عودته الي السودان ، إنخرط في العمل السياسي مع طلائع الحزب الشيوعي السوداني تدفعه أشواق العدالة الإجتماعية ، وأحلام ثورة البلوتاريا.
عادت سيرة الرجل الي دائرة الضوء مرة أخري بفعل تصريحات ألقاها مؤخرا الدكتور علي الحاج في حوار أجرته معه صحيفة سودانايل الألكترونية حيث وصف الرجل في إجابة علي سؤال حول تفاصيل إنقلاب الإنقاذ بأنه انقلابي بطبعه ،وسرعان ما إلتقط الكاتب الحصيف الأستاذ كمال الجزولي (اسبغ الله عليه آلاء العافية ونعمة الشفاء)، هذه التصريحات ليعيد إنتاج تساؤلاته التي إبتدرها في سلسلة مقالاته السابقة في الروزنامة حول ذات الموضوع. ، مذكرا بأنه يضمر إهتماما خاصا بحادثة التحريض علي الإنقلاب وعرض الأمر علي الصادق المهدي حيث قال إن أهتمامه " ليس من باب المبالغة في تقدير دور الفرد في التاريخ، وإنما من باب عدم الإهدار المطلق لهذا الدَّور، خاصَّة وأن عقدين من الزَّمان تصرَّما، دون أن تتضح الكثير من تفاصيل الحدث". وبالطبع فإن إهتمام الأستاذ كمال الجزولي بدور أحمد سليمان في إنقلاب الإنقاذ ليس نابعا من إحساس عميق بالتوثيق التاريخي كما زعم في مقاله ،بل يصب في دائرة تكريس الصورة النمطية التي صنعها اليسار للراحل المقيم بأنه إنقلابي وإنتهازي ، وقد ذكر ذلك صراحة الأستاذ كمال الجزولي عندما قال إنه ورط الحزب الشيوعي في انقلاب 1969. إن إنقلاب الإنقاذ تتحمله نخبة ما زالت تعترف آناء الليل وأطراف النهار بمسئوليتها السياسية والأدبية عن الأنقلاب منهم من قال أنه " خطيئة الإسلاميين"، ومنهم من قال أقبل مبدأه ولكن أرفض نتائجه. لهذا يظل السؤال قائما:لماذا البحث عن دور الأستاذ أحمد سليمان المحامي في الإنقلاب، والنخبة التي صنعته تعترف به وتتحمل مسئوليته السياسية والأدبية؟.هذا منهج بائس في البحث التاريخي ، لأنه يركز علي دور الأفراد في صنع التغيير لأغراض التجرييم السياسي، متناسيا الظروف التي قدرها هذا الكيان بأنها (موضوعية) ودفعته لإحداث تغيير شامل عن طريق الآلة العسكرية. إن الإستدلال بمناهج البحث الموضوعية في التحليل بما في ذلك المنهج الماركسي، يقود الي نتائج مقبولة وهي أن حدوث هذا الإنقلاب سببه الأساسي ليس نزعة أحمد سليمان الإنقلابية ، وتحريضه النخبة الإسلامية للتغيير العسكري ، ولكنه نتيجة مغامرة سياسية أو ظروفا موضوعية ترتبط بطبيعة الصراع السياسي والإقتصادي والإجتماعي، و الطبقي وطبيعة المهددات الخارجية والداخلية ، مما دفع هذه النخبة لإتخاذ هذا القرار المصيري أخطأت التقدير أم أصابت.
عكف الأستاذ كمال الجزولي علي مقاربة عدة روايات صدرت من شهود عدول منها شهادة الإمام الصادق المهدي التي أسر بها للأستاذ كمال شخصيا ونشرها فيما بعد في صحيفة الشرق الأوسط، وهي أن المرحوم عرض عليه خيار الإنقلاب، مما دفع الأستاذة  فاطمة أحمد إبراهيم لسؤال الصادق المهدي في القاهرة ولماذا لم تلق القبض عليه؟. لم يكن الأستاذ أحمد سليمان يكن كثيرا من الود للإمام الصادق المهدي لظروف الصراع السياسي والتوجهات الأيدلوجية، ولعل السبب الأقوي في تقديري هو إنحيازه لمعسكر المحجوب  في ظل صراعه السياسي مع الصادق المهدي داخل حزب الأمة.  وقال إنه لم يلتق الإمام الصادق منفردا قط وكل لقاءاتهما كانت عابرة ولا تتعد المرات الخمس.وفي حديث شخصي في فرجينيا قال الأستاذ أحمد سليمان أنه لا يمكن أن يقدم عرضا للإنقلاب علي الديمقراطية للسيد رئيس الوزراء لأن ذلك يوقعه تحت طائلة القانون، كما أن الكيمياء السياسية والشخصية خاصته لا تتفاعل مع شخصية الإمام الصادق لظلال الصراع مع المحجوب.وإتساقا مع ذلك اشتكي احمد سليمان من جراء تحرش الصادق المهدي به، مشيرا الي إتهامه بأنه نسق مع الأمريكان لقيام الإنقلاب . وقال في الحوار الذي أجراه معه الصحفي الحاذق والنابه ضياء الدين البلال في مجلة )الخرطوم الجديدة(، وأعاد نشره بعد وفاته في صحيفة )الرأي العام( ، أنه كتب مقالات إقترح فيها ترشيح الصادق المهدي لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة فأغضب ذلك الصادق المهدي ، وحسب روايته رد عليه مجموعة من الأنصار بإيحاء من الصادق المهدي قالوا له "إنك تريد التخلص من الصادق المهدي ليخلوا لكم الحكم في السودان ، ولكننا نريده هنا ليصبح رئيسا للوزراء" . هذا التنافر الشخصي لا يتسق مع فرضية أن الأستاذ أحمد سليمان تجرأ  لعرض مشروع الإنقلاب علي رئيس الوزراء دون التفكير في النتائج السياسية والقانونية المترتبة عليه. و توضيحا لهذه القصة سرد إفادات متقاربة حيث قال مفندا تلك المزاعم.:" إنه دخل علي الترابي ذات يوم في مكتبه فوجده ضائقا متبرما  فلما أستفسره مد اليه ورقة من رئيس الوزراء حينها يطلبه للتشاور في مذكرة الجيش.قال قلت له: إذهب، فقال: لن أذهب، لأن الصادق ليست لديه كلمة .. وأنا لا أثق به! فقلت له: هل يُعقل لرجل في المعارضة يطلبه رئيس الوزراء ليشاوره ويطلعه على معلومات خاصَّة بالجيش .. ويرفض؟! فأصرَّ على موقفه  فقلت له: أنت حُر! فتردد ثم قال سأذهب إن وافقت أن تأتي معي .. فقلت: أنا لا أعرف الصادق .. وعندما ذهبا الي منزل السيد الصادق إبتدره مقترحا ضرورة إجراء سياسي وقانوني داخل البرلمان لتغيير النظام من برلماني الي رئاسي بالتحالف بين الجبهة وحزب الأمة اللذان يشكلان الأغلبية، وخلق نظام رئاسي أقرب للنمط الفرنسي يتولي فيه الصادق رئاسة الجمهورية بينما يتولي ممثل للجبهة ربما الترابي رئاسة الوزراء. فطلب الصادق المهدي الإنتظار حتى تتحوَّل الجمعيَّة التأسيسيَّة إلى برلمان، وبعد ذلك يمكن إجراء تلك الخطوة. فقال له الأستاذ أحمد سليمان الأمور لن تنتظرك لأن القوي الأخري (شغالة). حسب الوقائع التاريخية فإن هذه الرواية ربما تكون أقرب للواقع لأن الأستاذ أحمد سليمان بخبرته القانونية والسياسية لا يمكن أن يطرح مقترحا يوقعه تحت طائلة القانون ، كما أن علاقته السياسية والشخصية مع الصادق المهدي لا تسمح له بهذا الطرح الجرئ، علما بأن الأستاذ أحمد يشكو من أن الصادق المهدي دائم التحرش به لسبب لا يعلمه. ولكن الواضح أنها بعضا من ظلال الصراع التاريخي مع المحجوب.
الراوية الثانية التي أستشهد بها الأستاذ كمال الجزولي هي رواية الدكتور الطيب زين العابدين حيث ذكر بأن المرحوم كان أكثر المتحمسين للإنقلاب مستشهدا بحواره مع صحيفة )الوطن( في يونيو 2010، حيث قال  " أحمد سليمان ساهم حتى في إقناع الترابي نفسه بالموضوع ده! وكان يردِّد قولته المشهورة: الانقلاب زي الموزة، أحسن حاجة تأكلها أول ما تنضج، مش قبل ما تنضج أو بعد ما تنضج خالص!". الدكتور الطيب زين العابدين من أكثر الذين عارضوا قيام إنقلاب الإنقاذ وكان يري أن الجبهة الإسلامية يتعزز كسبها في المناخ الديمقراطي فلماذا تلجأ الي إنقلاب عسكري تعرض فيه كسبها للضياع، كما يعتقد أن الإسلام لا يتعزز بالتغيير العسكري بل بالتدافع المدني. لهذا فإن هذه الشهادة يبدو فيها الإختيار الإنتقائي لأنه لم يكن الوحيد الذي ينادي بذلك.لم ينكر الأستاذ أحمد سليمان المحامي دعمه ومساندته لمشروع إنقلاب الإنقاذ ولكنه لم يكن الصوت الوحيد، حيث يعلم القاصي والداني من خلال الأدبيات المنشورة للنخبة الأسلامية أنهم وضعوا تدابير الوصول الي السلطة عبر تغيير فني منذ عقود خلت وتحديدا منذ أكتوبر 1964 ، ولعل المصالحة مع نظام نميري كانت ضمن خطة التغيير الإستراتيجية للإستفادة من مساحة الحرية التي يتيحها التحالف مع نظام نميري لتعزيز صفوفهم وتوسيع قاعدة إنتشارهم ، وبناء مؤسساتهم حتي يكونوا أكثر إستعدادا ومنعة لإحدث التغيير في الوقت المناسب. لهذا لا أظن أن التأثير الشخصي للأستاذ أحمد سليمان كان حاسما في التقرير بشأن الإنقلاب ، بل كان منسجما مع خطط وسياسات تلك المرحلة ، ربما يكون الإختلاف فقط حول التوقيت ولكن ليس حول المبدأ بأي حال.وقد ذكر الأستاذ أحمد سليمان أن الترابي إشترط لتنفيذ الإنقلاب أن يكون أبيضا لا ترق فيه نقطة دماء واحدة.
وتتناسل الروايات حول دور الأستاذ أحمد سليمان التحريضي حول الإنقلاب،ولعل الشهادات الإنتقائية التي اختارها الأستاذ كمال الجزولي تكرس لهذه النبرة التجريمية ،إذ  تخلوا هذه الإستشهادات من أي آراء أخري مغايرة مبرأة لذمة الأستاذ أحمد السياسية والأدبية كما يقتضي البحث الموضوعي. في حوارات ممتدة لا ينكر المرحوم أحمد سليمان نزعته تلك في وقت مبكر من عمره السياسي لأنه ابن بيئته وثقافته وجيله، فهي لم تكن نزعة فردية تطاله دون غيره، بل هي ثقافة جيل بأكمله تربي في فترة التحرر الوطني ، وشاعت الإنقلابات العسكرية في كل أنحاء العالم الثالث لا سيما القارة الأفريقية والعالم العربي. ولم تكن الإنقلابات حينها مشروعات خيانة لخيارات الأمة بل كانت سمة بطولية لإحداث التنمية وإستكمال مسيرة التحرر الوطني، ربما يكون الأستاذ أحمد سليمان أكثر تعبيرا عن تلك النزعة.في حوار صحفي قال الأستاذ نقد سكرتير الحزب الشيوعي الراحل إنه تم إستبعاده من معاينة الاختيار للجيش عندما كان طالبا في مدرسة حنتوب في الوقت الذي تم فيه إختيار جعفر نميري وآخرين.وسألوه ماذا كنت ستفعل لو انضممت للجيش فقال دون تردد. سأعمل إنقلاب.ذات النزعة إلتصقت بالمرحوم عبدالله خليل، وعبدالخالق محجوب، الرشيد الطاهر، ميرغني حمزة، شنان وآخرين.
في جلسة سمر بريئة سألنا الأستاذ أحمد سليمان كيف تشارك في إنقلاب عام 1959 وهو يحتوش بالمتناقضات مع علي حامد والرشيد الطاهر وهو من الإسلاميين وأنت في الحزب الشيوعي. كيف كان سيخرج اللون الأيدلوجي لذلك الأنقلاب. فأجاب قائلا. إن ذلك الجيل لم يكن يبدي كثير أهتمام للفواصل والتوجهات الأيدلوجية بقدر إهتمامه بإحداث تغيير جذري لمواكبة الثقافة والإتجاهات السائدة في ذلك الوقت والتي تعتبر الإنقلابات عملا بطوليا وأسطوريا كبيرا. إتساقا مع ذلك يقول الأستاذ فاروق أبو عيسي في شهادته التاريخية إن ظاهرة الإستيلاء علي الحكم بواسطة الجيش كانت نهجا سائدا وجد دعما من الإتحاد السوفيتي لأن "النظرية السائدة في العالم الثالث حينها تقول، إن الطبقات الحاكمة غير قادرة على تسريع وتيرة التنمية وأن القوات المسلحة قادرة أكثر على ذلك، خاصة أن معظم أبنائها من الشعب، إلى جانب أنها أكثر تنظيماً وقدرة على الحسم، لذلك برزت القوات المسلحة كأهم آلية للتغيير والتنمية في العالم الثالث". هذه الشهادة تؤكد مرة أخري أن أحمد سليمان المحامي لم يكن نسيج وحده في تفكيره ونزعته للتغيير عبر القوات المسلحة، بل كانت ثقافة جيل وعصر ونظرية سائدة تجد الدعم والمناصرة من جميع الأحزاب والكيانات السياسية بيد أنها كانت أظهر في الكيانات اليسارية والعقائدية.
يقول فاروق أبو عيسي في شهادته عن أحمد سليمان المحامي" كان أحمد سليمان رقماً مهماً في المجتمع السوداني برغم صغر سنه بالمقارنة مع القادة السياسيين حينها، وكان في العمل العام سابقاً لعبد الخالق، ومعه عز الدين علي عامر كانا ذراع الحزب الشيوعي الجماهيري، وكان أحمد رجلاً كريماً وشيخ عرب". الغريب في الأمر أن الأستاذ أحمد سليمان تعرض أيضا للتشطير والنقد في وثائق السفارات والمخابرات الغربية في الخرطوم.فقد كشفت تقارير السفير البريطاني بالخرطوم التي أطلق سراحها من الأرشيف البريطاني في بداية عقد التسعينات  بعد مرور 25 عاما، أنه ذكر في تقاريره أن الأستاذ أحمد سليمان يعد المحرك الرئيس لكل القرارات التي يتخذها المحجوب رئيس الوزراء حينها، وأنه كان ألعوبة في يد أحمد سليمان الذي كان يناديه إستملاحا بالريس Boss وقد ترجم تلك الوثائق ونشرها في منتصف عقد التسعينات الصحفي النابه والسفير الحاذق الأستاذ أبوبكرالصديق.ورد الأستاذ أحمد سليمان مفندا تلك التقارير مشيرا الي أن رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب كان شخصية إستثنائية رصينة ، يصعب التأثير عليها حيث كان يتمتع بشخصية قوية و كان يدير شئون البلاد بإستقلالية وحكمة ومرونة سياسية مبدعة.وإتهم تقارير السفير البريطاني بأنها كاذبة ومنحولة ومسيئة لشخصية رئيس الوزراء.
في أخريات أيامه ظل الأستاذ أحمد سليمان رغم تقادم السنون، واستشراء الظنون محتفظا بلباقته ومناقبه الشخصية ، من ذاكرة خارقة ، ووضوح في الرؤية ، وإتساق في النظر ، وقدرة علي الغوص في لجج الوثائق و الظواهر والأشياء وإستخلاص الجوهر دون شوائب. فقد أفترع قلمه وهو علي فراش النقاهة ليرد علي الدكتور منصور خالد الذي إدعي أن نهج الحركة الشعبية هو إمتداد طبيعي لعمل حركات التحرر الأفريقية.فرد عليه مفندا تلك الأطروحة مستشهدا بالوثائق والوقائع التاريخية بأن السودان عبر حقبه الوطنية المختلفة ظل داعما ومساندا وملهما لحركات التحرر الأفريقية ، وأن التاريخ لم يثبت للنخبة الجنوبية عبر تاريخها الطويل في مختلف مراحل نضالها السياسي أي إتصال أو إسترشاد بنهج بحركات التحرر الأفريقية.
لقد غادر الأستاذ أحمد سليمان هذه الفانية زاهدا عفيفا ، حيث كان يتدبر شئون معيشته من إيجار منزله بالخرطوم، فقد ظلمته الدولة التي لم تنصفه بإرجاع حقوق خدمته المتطاولة ، وهو الذي شرخ عمره متنقلا في المناصب الوزارية وسفيرا للسودان في عدد من المواقع حتي منتصف عقد التسيعنات كان آخرها سفيرا للسودان في واشنطون.لقد رحل الرجل وصدره ينوء بالأسرار ولكنه فضل ألا يبوح بها حتي لا يكشف عورة ، أو أن يجرح كرامة أو أن يجلب سبة لأحد. وهذا منهج في الإيثار والعفة قل من يعمل به..لقد كان الأستاذ أحمد يتقن لعبة الصراع والسياسة ، لم يكن خصما سهلا يمكن هزيمته وتركيعه، فقد قاتل بشراسة في ميدان السياسة ، واستخدم أدوات الصراع المشروعة وغير المشروعة للبقاء والإنتصار مثله مثل غيره من السياسيين في جيله ، وظل صدره يتقبل مناوشات الخصام القديمة وإغتيال الشخصية دون أن يتكلف بالرد، فقد خرجت علينا الدكتورة فاطمة عبدالمحمود الوزيرة في حقبة مايو السابقة في حوار الأسرار مع الأستاذ عادل سيد أحمد في صحيفة الوطن حيث إتهمت الأستاذ الراحل بأنه تآمر علي زوجها الدكتور سعيد المهدي أستاذ القانون بجامعة الخرطوم سابقا الذي خالفه في أحد القوانيين.فكتب الأستاذ أحمد وكان وقتها وزيرا للعدل مذكرة للرئيس نميري يعدد فيها إخفاقات د. سعيد الأكاديمية والسياسية مشيرا الي أنه يدرس الطلاب دون الإشارة للمراجع وأنه يغذي الرؤية المخالفة للنظام.وقالت الدكتورة فاطمة إن تلك الحادثة كانت مؤامرة ضد زوجها، لذا فقد إجتهدت لإثبات براءته من مدير الجامعة ووزير التعليم أمام النميري الذي تراجع عن قرار فصله إلا أن د. سعيد آثر الإبتعاد والغربة تأثرا بهذا الحادث. وربما يكون هذا الحادث صحيحا ولكنه لا يعد تشنيعا بالروح التآمرية للمرحوم أحمد سليمان كما ذكرت الدكتورة فاطمة عبدالمحمود، بل كما ذكرت سابقا فقد كان يتقن لعبة الصراع والمقاومة، وأنه لم يكن ممن يسهل تركيعه، ويستكن لبوائق السياسة ، بل كان يردد دوما أنه لم يكن طيبا مسكينا يسهل القضاء عليه ويستطيع أن يرد مكائد السياسة التي تستهدفه. لذا قال في حوارات صحفية متعددة "أنا برضو زول شر".
الثابت عن موقف الأستاذ أحمد سليمان أنه كان يعلم بالإنقلاب ولكن لم يشارك في التخطيط له ، وقد كشف ذلك الدكتور علي الحاج الذي عدد أسماء الذين أسند لهم التخطيط والتنفيذ.وقد كان مقتنعا بدوافع ذلك التغيير مشيرا الي أنه يريد أن " يذيق الأحزاب من ذات الكأس الذي أذاقتنا منه". وهي عبارة حمالة أوجه ، ولم يجهد نفسه لتفسيرها ، وشرح لنا تلك العبارة بقوله "إنه كان يظن أن  إنقلاب الإسلاميين إذا قدر له أن ينجح سيكون خاتمة مطاف الإنقلابات العسكرية في السودان".
 لقد عاش الأستاذ أحمد سليمان المحامي أقدار جيله المتقلبة ، وتحديات عصره بصدق وإخلاص وفقا لتقديراته الخاصة للمواقف والأحداث.فقد آثر نهج الإنقلابات العسكرية عندما كانت هي البطولة والثقافة السائدة والنظرية الملهمة التي تصدي لإنفاذها جيل بأكمله كان هو أحد أفذاذه المشهورين.و إرتضي أن يتقلب في خياراته كلما أشارت اليه بوصلة اليقين، فقد كان يحلف برأس عبدالخالق كما قال أحد كبار اليساريين ، ولكنه بذات الوضوح والشكيمة، عارض عبدالخالق وبارزه بالقلم في صفحات الصحف حين أتهمه عبدالخالق بحرق المراحل التاريخية وتبني فكر وذهنية البرجوازية الصغيرة التي لا تحتمل لأواء النضال وسط الجماهير للوصول الي المرحلة الوطنية الديمقراطية.ومن ثم قاد الإنشقاق المشهور مع صديقه معاوية سورج وإنحاز الي صف ثورة مايو. وظل يردد حتي وفاته أنه خدع في شخصية عبدالخالق محجوب بيد أنه كان كثير الإعجاب بالشفيع أحمد الشيخ. وقال في حواره مع ضياء الدين البلال أنه لو كان مع عبدالخالق لمنع قيام إنقلاب يوليو 71 وحتي لو شارك فيه فسيكون ناجحا وليس فطيرا كما تم تنفيذه.وكان يقول إن عبدالخالق رجل طاهر اليد، مثقفا حصيفا ويتمتع بكارزمة شخصية عالية ولكنه يغرق في شبر موية. لقد كان أكثر شانئوا المرحوم أحمد سليمان من شيعة وتلامذة الأستاذ الراحل عبدالخالق محجوب للملابسات التاريخية المعلومة، لهذا فقد أشفق الدكتور عبدالله علي أبراهيم علي هذا النهج عندما إفترعت حوارا قلميا للإحسان الي سيرة الرجل وكسبه السياسي والفكري. فقال لي "يصعب الدفاع عن الإرث السياسي والثقافي للرجل في ظل الأحداث والأحن التي شهدها أو شارك فيها" ، ولكنه أستحسن خطة الكتابة والشفافية حول سيرته. وهو موقف سديد لو إتبعه شيعة وتلامذة الأستاذ عبدالخالق محجوب.
أصاب أم أخطأ الأستاذ أحمد سليمان فقد ترك بصمته وقال كلمته ومضي، عليه فليس من الحصافة في حفريات المنهج التاريخي البحث عن أدوار الأفراد في الأحداث الكبيرة بإفتراضات تجريمية، ولكن المنهج الموضوعي يتوخي البحث عن ظروف الصراع السياسي والإجتماعي والطبقي والمؤثرات الخارجية وتقديرات القوي المتصارعة لمسيرة ومآلات الأحداث. كنا نظن أنه قد مضي زمن تصفية الحسابات مع الموتي ولكن...
(من أرشيف الكاتب)


khaliddafalla@gmail.com

 

آراء