الدكتور منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب (3/3)

 


 

 


"قراءة في منهج بحثه العلمي"

تمهيد
تطرقتُ في الحلقة الثانية إلى المرتكزات الرئيسة لمنهج الدكتور منصور خالد متعدد التخصصات، ودوره في توصيف المشكلات السودانية، وطرح الفرضيات والأسئلة، وحبك المتون السردية والحواشي من الناحيتين المنهجية واللغوية-الأسلوبية. وفي هذه الحلقة الثالثة والأخيرة، نعرض نماذج من عناوين منصور الجاذبة وإهداءاته ذات النزعة الوقائعية، التي تكتنز ثلة من القيم السياسية، والإيماءات المعبرة عن واقع الحياة في السودان، فضلاً عن توثيق الحواشي، ما تذخر به من معلومات توضيحية، وإشارات شارحة لغامض المتون، ثم نختم ذلك بقراءة مجملة عن السمات العامة لمنهج الرجل الذي يُوصف عمارة العقل وجزالة المواهب.    

العناوين والإهداءات
يعتني مَنْصُور بالعناوين الجاذبة والمثيرة للجدل، والإهداءات الوقائعية. ونذكر منها عنوان إحدى مقالاته في حوار مع الصفوة "يوم أكل الثور الأبيض الشيوعيَّة .. وخطرها الداهم." ويبدو أن العنوان مأخوذ من مأثورة فلكلوريَّة نصها: "أُكلت يوم أكل الثور الأبيض"، ومَغْزاه أن التضحيَّة بالحزب الشيوعي السُّوداني في البرلمان عام 1965م لم تصن وقار الحياة الديمقراطيَّة الناشئة، ولا بقاء الأحزاب السياسيَّة التي تآمرت عليه، بل مهدت الطريق للقضاء على الديمقراطيَّة الثانيَّة في 25 مايو 1969م. والعنوان الآخر "أكتوبر حقيقة أو وهم كظهور العذراء"، يُجسِّد موقف مَنْصُور الناقد لمخرجات "ثورة أكتوبر"، وذلك استناداً إلى منطوق قوله: "حقيقة الأمر أن أهل السياسة - على تباين مواقعهم الفكرية- قد أخطأوا فهم الظاهرة الأكتوبرية، أو تعاملوا معها بكثير من الرومانسية، ومن هنا جاءت القطيعة بين الخطاب السياسي والواقع الاجتماعي." ولذلك يرى أن شعارات أكتوبر كانت شعارات رغائبيَّة لم تحدث أي تغيير جوهري على أرض الواقع، بدليل أن الذين تسنموا قمة حكّمها الديمقراطيَّة بعد حكومة جبهة الهيئات الانتقاليَّة كانوا يتقاتلون على "الثريد الأعفر". والإشارة هنا إلى صراع محمد أحمد محجوب والصادق المهدي داخل أروقة حزب الأمة؛ وصراع إسماعيل الأزهري (الوطني الاتحادي) وعلي عبد الرحمن الضرير (حزب الشعب الديمقراطي) في أوساط الاتحاديين؛ وصراع الأزهري والمحجوب في بعض القضايا السيادية. ويستشهد مَنْصُور بشهادة المحجوب: "إن ما نشهده اليوم هو أزمة في ديمقراطيتنا، وأزمة أخلاقية، وأزمة في العلاقات الإنسانية. ومن العار أن الذين دافعت عنهم طوال حياتي هم أنفسهم الذين يكبلون يدي، ويحطمون قوسي، ويستعيضون عن سيفي الفولاذي بسيف من خشب." وأفرد مَنْصُور لذلك الصراع الذي لا يمثل هموم الشعب السُّوداني ومشكلاته المزمنة آنذاك مبحثاً في النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل بعنوان: "حُكَّام السُّودان... الاقتتال على الثريد الأعفر". وهنا استأنس بقول الإمام مالك بن أنس عندما وصف مواقف بعض الصحابة من الفتنة الكبرى، قائلاً: "والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر." والمقارنة هنا أن الصراع السياسي الذي كان دائراً في السُّودان آنذاك "كله كان صراعاً بين رجال يقفون في خندق واحد على المستوى الاجتماعي، والمستوى السياسي، والمستوى الطبقي؛ إلا أنهم كانوا يتعاركون جميعاً على أنصبتهم من الكعكة السلطوية."
    أما الإهداءات الوقائعيَّة فيُقْصد بها أن مَنْصُور كان يختار الأشخاص المُهدى لهم بعنايَّة فائقة، تثميناً لمواقفهم المشهودة في تاريخ السُّودان المعاصر، دون أن تكون تلك الإهداءات عرفاناً شخصياً محضاً، كما يفعل معظم الكُتَّاب والباحثين. فمثلاً أهدى كتابه الموسوم بـ "السُّودان أهوال الحرب ... وطموحات السلام: قصة بلدين" بتصدير رفيع، أعقبه بذكر ثلاثة أعلام، تركوا بصماتهم في تاريخ السُّودان السياسي والفكري. وجاء نص ذلك الإهداء على النحو الآتي: "يروي [هذا] الكتاب قصة خمسين عاماً من أجل لا شيء. فيه تتبعنا أخابير الحاضر والماضي، فالتقينا ببعض الأبطال وطائفة من شِرَّة الناس، وكان لنا في كليهما أحكام أقمنا عليها الدليل. أخطأنا أم أصبنا في تلك الأحكام، فقد قدمنا البينة الواضحة على ما ندعي. ولئن تركنا الحكم على أبطال الحاضر للتاريخ، وينقضه أو يبرمه هو خير حاكم. نظلم التاريخ إن لم نشيد بمن أدركوا عاقبة الأمر منذ البداية. آخرون لم يدركوا العاقبة إلا بعد أن أتت بها الأنباء في ضحى الغد، وبعد أن أعيتهم المكائد. من الأبطال ننتخب ثالثة:
•    إبراهيم بدري الذي لم يصانع في النصيحة خداعاً للنفس، أو ارتكاناً للعنجهيَّة. قال لأهله خذوا الذي لكم، وأعطوا الذي عليكم، إن أردتم أن لا يفسد تدبيركم، أو يختلَّ اختياركم. عزفوا عن رأيه، ونسبوا الرأي وصاحبه للاستعمار، ثم مضوا في خداع النفس، فأغراهم بالآمال العواطل الباطلات. واليوم إذ يعودون إلى ما قال دون استحياء، ولا يذكرون الرجل، وهم التابعون."
•    "ستانسلاوس عبد الله بياسما: نشأ في بيئة شماليَّة إسلاميَّة (دارفور)، وحفظ القرآن في خلاويها، ثم استرقُه، وبقي في رقَّه إلى أن حُرر فرعاه في بحر الغزال المبشرون ونصَّرنوه. تلك الرحلة القاسيَّة لم تبق في نفس الرجل غيظاً عندما جاء الاستقلال، فالمغيظ يتشفى. كان بياسما في طليعة الدعاة لوحدة الشمال والجنوب. ولإحترام ديانات أهله وأعراقهم على اختلافها، وكان يُعَبِّر عن رأيه بعربيَّة فصيحة، يغذيها بكلام الله. هذا الرجل الذي كظم غيظه، وعفى عن الناس، وعريَّ عن كل ملامة، طُرد من الوزارة، وأودع السجن لدفاعه عن الوحدة الفيدرالية."
•    "محمود محمد طه: رجل لم ياسره الحرص، إذ غني عن الدنيا باليأس منها، ومفكر ذو بصر حديد لم يتق غير الله فى التعبير عن فكره. جابه الناس بهذا الفكر ولم يستدبرهم بغيب. فاراؤه السياسيَّة التى أجلينا فى هذا الكتاب، منذ مؤتمر الخريجين، أراء لا يجسر عليها إلا أولو العزم، فى وطن فيه للباطل سلطان. واجتهاده في الدين بديع بريع، لا يرفضه إلا من ضاق وعاؤه. ولئن عاد من عاد إلى الكثير من تلك الاجتهادات فهو متبع لا مبتدع. إلى ذكرى هؤلاء الأبطال، نهدى هذا الكتاب."

التوثيق والاقتباسات والشواهد
يُولي مَنْصُور قضيَّة التوثيق أهميَّة بالغة؛ لذلك تحتشد متون مؤلفاته بالاقتباسات والشواهد التي تعضد القضايا المطروحة للنقاش. وقد أشار إلى ذلك في توطئة النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل، عندما أبان بأنَّ الذي يعنيه في منهج البحث العلمي هو الاقتراب من أصول المشكلات، والتحليل الموضوعي لحيثياتها، والاستشهاد الموثق بالدليل. لكن يبدو أن هناك سببان منعا مَنْصُور من الالتزام بطرائق التوثيق المتعارف عليها في الأدبيات الأكاديمية. يرتبط السبب الأول بأن معظم مؤلفاته نُشرت أولاً في شكل مقالات صحافية، الأمر الذي جعل عمليَّة الإشارة إلى مصادر اقتباساتها وشواهدها في الحواشي (أو الهوامش) أمراً عصياً. ويرتبط السبب الثاني، حسب اقتباسات وشواهد النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل، أن كثير من المصادر التي اعتمد عليها مَنْصُور توجد في مجموعته الخاصة، ولذلك اكتفي بالإشارة إلى نصوصها المقتبسة في المتون، دون أن يوضح أماكن إيداعها. لكن هذه الملاحظات لا تنفي أن مَنْصُور درج أيضاً على التوثيق في الحواشي، عندما يقتبس من المصادر الصحافية، أو عندما يكتب بعض الحواشي التوضيحية.

خاتمة:
استناداً إلى ما تقدم، تتبلور خاتمة هذه الورقة في ثلاث استنتاجات رئيسة:
أولاً: إنَّ أدبيات مَنْصُور خالد التي وقفنا عليها (حوار مع الصفوة؛ النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل) تطرح ثلاث رسائل جديرة بالاعتناء. تتمثل الأولى منها في دور المؤلف الهادف إلى تحرير التاريخ السياسي السُّوداني من ربقة الذاكرة الرسميَّة الناظمة لاستراتيجيات السُّلطة، وابتكار سرديات بديلة تقرأ الأحداث التاريخية قراءة تحليلية، كما تستثمرها في فهم المشكلات الآنيَّة والبحث عن حلول مستقبليَّة ممكنة. وتدعو الرسالة الثانيَّة إلى حوار فكري وعقلاني، يستند إلى معايير علمية في مناقشة أصول المشكلات السُّودانيَّة وحيثياتها؛ لتحقيق نتائج موضوعيَّة ومرضيَّة. وتتجسد الرسالة الثالثة في شحذ الذاكرة المضادة للقراءات الإطرائية المبتسرة للتاريخ السياسي المهمش، والتي تحتاج إلى جُرأة في الطرح ومهنيَّة في التناول، بعيداً تابوهات المزاج العام والخطاب الإعلامي التضليلي الذي لا ينفذ إلى جواهر المشكلات، بل يميل إلى تجيير وقائع القضايا المصيريَّة المسكوت عنها.
ثانياً: تحوي مؤلفات مَنْصُور طرفاً من سيرته الذاتيَّة التي تحتاج إلى بحث علمي، يميز بين المواقف السياسيَّة والدور الأدائي الذي قام به المؤلف عندما كان جزءاً من السُّلطة الحاكمة في الخرطوم، مع النظر في رؤيته لبعض المصطلحات المعياريَّة المستخدمة في محاكمة مواقفه السياسيَّة ودوره الأدائي في مؤسسات السُّلطة الحاكمة. فمثلاً، يقدح مَنْصُور في التجربة الديمقراطيَّة السُّودانيَّة بمراحلها الثلاث، ويعتبرها جزءاً من الأزمة؛ لأنه يعتقد أن" الديمقراطيَّة ثقافة قبل أن تكون نظماً ومؤسسات، وتلك الثقافة لا بد لها من أن تسرى في شرايين كل جهاز يفترض فيه توجيه، أو صياغة، أو هيكلة العمليَّة الديمقراطيَّة ومؤسساتها، [سواء] كانت تلك المؤسسات أحزاباً، أم نقابات، أم هيئات، أم أجهزة اتصال وتبليغ. ويكذب من يقول بأن الديمقراطية، بهذا الفهم، كانت تمارس في ظل كبريات الأحزاب التي ترعاها، ففاقد الشيء لا يعطيه." ويبدو أن هذا الواقع المتجذر في التجربة الديمقراطيَّة قد شجع مَنْصُور على التبشير بتجربة الحزب الواحد، كخيار صالح لحكم السُّودان، كما دفعه إلى المشاركة في حكومة مايو، حيث يمكن تصنيف مشاركته في قائمة مشاركات "أهل النظر والفعل"، الذين سعوا إلى تحليل الواقع بمعايير ثابتة بهدف استنباط سياسات شموليَّة وجزئيَّة صالحة للتطبيق على أرض الواقع، إلا أن مخرجاتها تراوحت بين النجاح والفشل. وفي ضوء ذلك يمكن تقييم مشاركته في السُّلطة من واقع نظرته للممارسة الديمقراطيَّة في السُّودان، ثم تقييم أداءه الوظيفي من واقع تصويره لمشكلات السُّودان وطبيعة الحلول التي قدمها في هذا الشأن.
ثالثاً: أثبتت الدراسات العلميَّة أن الأحداث التاريخيَّة عبارة عن وقائع حقيقية، تجسدت على أديم الأرض، وإن نقلها من شكلها الوقائعي إلى نمط مكتوب يُعدُّ تصوراً ذهنياً للحقيقة الوقائعية، أما تحليلها وفق متقضيات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة فيجعلها خاضعة للمعايير الموضوعيَّة والذاتيَّة للمؤلف. فالناظر في أدبيات مَنْصُور بإمعان يلحظ أنها تقع في حيز الضربين الآخرين، إذ يتمثل ضربها الأول في الوقائع المرتبطة بتاريخ السُّودان السياسي-المعاصر، والتي وثَّقها المؤلف من حواضن أرشيفية، أو من واقع مشاركته في بعضها، أو مراقبته اللصيقة لبعضها الآخر. ولذلك أن هذا الضرب لا يمكن الاستغناء عنه لأي باحث ينشد دراسة تاريخ السُّودان-السياسي في الفترة التي أعقبت الاستقلال. أما الضرب الثاني المستند إلى التحليل، أو المقارنة، أو الموازنة فهو محل جدل، لكن يجب أن لا يكون الجدل فيه جدلاً بيزنطياً، أو جدلاً مشخصناً، بل يستحسن أن يكون حواراً هادفاً ومؤسساً على معايير أكاديمية، تنظر في توصيف المشكلات، وفاعليَّة المنهج البحثي الذي اعتمد عليه المؤلف، وصدقيَّة المصادر التي أسس عليها مفردات نقاشاته وتحليلاته، وكيف استثمرها في معالجة القضايا المطروح للنقاش، وإلى أي مدى كانت النتائج التي توصل إليها نتائجاً موضوعيةً.  

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء