15 نوفمبر 65 يومٌ له ما بعدهُ: في أعقاب حل الحزب الشيوعي

 


 

 


boulkea@gmail.com
العنوان أعلاه هو عنوانُ الكتاب الذي صدر مؤخراً للصديق العزيز و الكاتب الصحفي المعروف عادل إبراهيم حمد, والذي يتناول قضية الديموقراطية في السودان من خلال البحث في قرار حل الحزب الشيوعي السوداني وما ترتب عليه من نتائج ومواقف لمختلف القوى السياسية.
يُدخلك الكاتب بإسلوبه الرفيع ولغته الروائية الجاذبة التي عبَّرت عنها ألسنة الشخوص الذين إختارهم بعناية لعكس أجواء الديموقراطية الثانية بنقاشها الحيوي وتنافسها الإنتخابي ولياليها السياسية الحاشدة وخطب الزعماء التي تهتز لها المنابر, ومن خلال كل ذلك تتسلل الأسئلة حول علاقة الدين بالسياسة, والماركسية والطائفية, وعبد الخالق والأزهري, والعسكر والديموقراطية, وغيرها من الموضوعات والقضايا.
ينفُذ الكاتب لموضوعه بعد أن يتطرق لحادثة "معهد المعلمين العالي" التي أدت في خاتمة المطاف لصدور قرار حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان, ولا يكتفي بالقول السائد أن طالباً شيوعياً أساء لبيت الرسول الكريم, بل يُعطي الخلفيات التي دفعته للتفوه بعبارته التي إلتقطها بعض المتربصين الذين نجحوا في إستثارة عواطف الناس الدينية وسارت معهم غالبية قيادات و نواب الأحزاب في الجمعية التأسيسية.
إختلفت أقوال النواب حول الدوافع وراء مقترح تكليف الحكومة بتقديم مقترح لحل الحزب الشيوعي, فمنهم – مثل نصر الدين السيد – من قال أن الخطوة لا تتعارض مع الديموقراطية, ومنهم – مثل وزير العدل محمد إبراهيم خليل - من قال أنَّ التنظيم الشيوعي لا يؤمن بالقيم الروحية, ولكن المدهش في الأمر أنَّ نائب جبهة الميثاق الإسلامي و الفقيه الدستوري الدكتور حسن الترابي لم يجد ما يسعفه من حجج قانونية تسند دعوة الحل فما كان منه إلا أن نقل الأمر لصراع عقائدي بين الإيمان والكفر فقال :
(نحن لا نطالب بحل الحزب الشيوعي لأنَّ طالباً أساء للنبي, ولم تكن تلك عاصفة هوجاء, فما قاله الطالب ثمرة لشجرة خبيثة زرعت في هذه الأرض, هى الشيوعية. ولقد طالب الشعب بحل الحزب لأنه حزب بلا إيمان بالله ).
غير أنَّ نائب الوطني الإتحادي حسن بابكر الحاج وقف ضد الخطوة وطالب زملاؤه أن يتركوا الحماس وأعتبر أن مقترح الحل إجراء غير قانوني وقال لهم أن الخطوة ستؤدي لذهاب الديموقراطية وأنها ( ستنزع منكم برمتها كما إنتزعت في الماضي .. لا أريد أن أسجل حرباً على الديموقراطية, فخير لأبنائي أن يدفنوني شهيداً من شهداء الديموقراطية بدلاً من أن اعيش حياً في عهد وأد الديموقراطية).
وعلى نفس النهج سار نائب حزب الأمة كمال الدين عباس الذي صوَّت ضد مقترح تعديل الدستور وقال إنَّ ( التعديل الذي يجري الآن ويقضي بطرد عدد من النواب الشيوعيين يخدش ويطعن في النظام الديموقراطي طعنة نجلاء ).
وقد إستعرض الكاتب مختلف المراحل التي مرًّ بها قرار الحل داخل الجمعية التأسيسية وفند مزاعم الذين وقفوا وراءه مستشهداً بالإحصاءات وموثقاً بالأقوال وكاشفاً بالتحليل لمواقف مختلف النواب من القرار.
تم حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان, واستقال رئيس القضاء إحتجاجاً على القرار, وسارت الديموقراطية المتعثرة في طريقها حتى قيام الإنتخابات العامة التي شهدت إنقسام حزب الأمة ( جناح الإمام الهادي وجناح الصادق المهدي) وتوحد الإتحاديين بعد إنقسام طويل فاكتسحوا الإنتخابات وحصدوا 101 دائرة مقابل بضع وستين دائرة لحزب الأمة بجناحيه, وتمثلت المفاجأة في فوز عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي المطرود من البرلمان في دائرة أمدرمان.
ثم وقع الإنقلاب العسكري في مايو, وهنا يتناول الكاتب بالتحليل الدقيق موقف الحزب الشيوعي منه, ويفند دعاوى عدم تأييد عبدالخالق للإنقلابيين, ومحاولات إظهاره بمظهر الرافض "مبدئياً" لتحرك عناصر البرجوازية الصغيرة في الجيش, ويتتبع الكاتب العديد من مواقف سكرتير الحزب الشيوعي بقدر عال من الموضوعية والإنصاف, تُضاهي الموضوعية التي تناول بها خطأ قرار الأحزاب القاضي بحل الحزب وطرد نوابه من البرلمان, ويقول في هذا الخصوص :
( سمعت من يقول أنَّ عبد الخالق معارض للإنقلاب, هذا غير صحيح, ومع ذلك لا يمكن القول أنه مؤيد للنظام بلا تحفظ, عبد الخالق لا يمكن وصفه بالرافض للإنقلاب وهو يشارك بالخطابة في لقاء جماهيري, ورئيس مجلس الثورة ينصت لسكرتير عام الحزب, كما في الصورة التي أبرزتها الصحف كبيرة كأنها رسالة للتقدميين بأن كبيركم في مركب واحد مع الثورة ).
أوضح الكاتب أنَّ الإرتباك الذي وسم موقف الحزب الشيوعي من مايو لم يكن بالأساس بسبب قصور في النظرية الماركسية, وإنما كان بسبب موقفه المبدئي من الديموقراطية وأنه ( إذا ظل الحزب الشيوعي يحصر تحليله في برجوازية الضباط الذين قاموا بالإنقلاب, فلن يتمكن قط من وضع يده على سبب إرتباكه وسبب إختلاف عضويته حول توصيف ما حدث في 25 مايو ).
بعد أن يتناول الكاتب الموقف الشيوعي من مايو وما إنطوى عليه من خطأ جسيم, يخلص إلى نتيجة هامة هى في ظني تمثل جوهر الرسالة التي أراد إيصالها لجميع الأحزاب التي تسعى للوصول للسلطة عبر الإنقلاب العسكري أو تتخذ مواقف ضبابية تجاه إسقاط الأنظمة الديموقراطية, وهى أن نضال الحزب الشيوعي ضد خصومه الذين قاموا بحله وطردوا نوابه من البرلمان كان يجب أن يتلازم مع التمسك بالنظام الديموقراطي وحمايته, ويقول :
( فالديموقراطية , رغم علل التطبيق , تتيح بطبيعتها – لا بكرم الحاكمين – رحابة ومخارج للمتضرر من إجراءات سلطوية متعسفة. وفي المقابل فإنَّ الدكتاتورية بطبيعتها – لا بلؤم الحكام – تضيق الخناق على كل مخالف في الرأي . وبالفعل تمكن الحزب من مواصلة نشاطه والوصول للجمعية التأسيسية وهو محلول ).
ويتناول الكتاب العلاقة المُعقدة بين القوميين العرب والشيوعيين داخل نظام مايو, والدور الذي لعبه عبد الناصر في تدعيم موقف الأوئل, كما يتطرق للفوارق بين علاقة الشيوعيين المصريين بثورة يوليو وبين الحزب الشيوعي السوداني ومايو, ويتطرق للتنافس الشخصي بين النميري وعبد الخالق ويعتبره أحد أسباب الخلاف التي أدت للقطيعة النهائية بين الطرفين بعكس علاقة النميري بعبد الناصر والتي لم تتأثر بذلك البعد وأدَّت في خاتمة المطاف – ضمن أسباب أخرى - لتفوق موقف القوميين داخل صفوف مايو.
ثم يتطرق الكتاب لإنقلاب 19 يوليو 1971 ويعود للتأكيد على فكرته الأساسية المتمثلة في الموقف من الديموقراطية, فبعد الفشل الذي مُنيت به حركة هاشم العطا نصبت مايو المشانق لقيادات الحزب الشيوعي, وهنا يكمن الفارق بين الحكم الدكتاتوري والآخر الديموقراطي, فعبد الخالق الذي طردته الأحزاب دون وجه حق من البرلمان وحلت حزبه, عاد ليصبح عضواً في البرلمان حتى ليلة 24 مايو 1969, مما يعني أن طبيعة النظام الديموقراطي قد وجدت له مخرجاً من قرار الحل والطرد سمح له بالحفاظ على وجوده وممارسة نشاطه السياسي, ولكن إلى أين أودى به وبحزبه الخلاف مع مايو ؟
وكذلك يكشف الكتاب موقف رئيس القضاء الأسبق بابكر عوض الله الذي إستقال من منصبه إحتجاجاً على سلوك الأحزاب غير الديموقراطي وعدم قبولها بحكم المحكمة القاضي بعدم دستورية حل الحزب الشيوعي فإذا به يتقدم الصفوف في الإنقلاب الذي وأد الديموقراطية و يصبح رئيساً لوزراء مايو, ثم هاهو –لسخرية القدر- لا يكتفي بمساندة الإنقلاب العسكري بل يتلو بيان ترشيح النميري للرئاسة وفي هذا يقول الكتاب :
( تذكَّر أن تاريخه المهني المرتبط بالعدالة والتزامه السياسي يُحتِّمان عليه رفض محاكمات الشجرة وإعدام رمز تقدمي في قامة عبد الخالق, فقرر بعد تردد أن يُبدي رأياً ما, ولو تحفظات يُسِّرُ بها لبعض خاصته عل التاريخ يحفظ له موقفاً, لكن أجواء الإعدامات وطغيان الغضب الأرعن أزاح عن رأسه سريعاً تلك الخاطرة, وعذر نفسه بأنه بشر, يمكن أن يخاف, وإن التعقل أفضل من شجاعة هى للتهور اقرب, فليكتغ بأن يضمر رفضاً ولا يعلنه, لكن الثورة التقدمية لم تدعه ينعم حتى بأضعف الإيمان وكانها تريد فضحه على الملأ, فنقل له رفاقع في المجلس قرار تكليفه بإذاعة البيان الذي يعلن به المجلس قراره بترشيح جعفر محمد نميري لرئاسة الجمهورية, فأذاع بابكر عوض الله البيان, ودماء عبد الخالق لم تجف بعد, وسجل التاريخ أن مرشح اليسار لرئاسة الجمهورية في النظام الديموقراطي, قد تنازل عن الترشيح في زمن الثورة التقدمية لرئيس كجلس الثورة الذي أعدم السكرتير العام للحزب الشبوعي ).
ويستمر الكاتب في تناول المواقف والأحداث التي أعقبت تصفية قيادة الحزب الشيوعي وإنفراد النميري بالسلطة بعد تخلصه تدريجياً من القوميين بعد التحولات الداخلية والخارجية التي كان أبرزها رحيل عبد الناصر وتراجع شعارات الوحدة العربية, ويتناول تنظيم الإتحاد الإشتراكي و علاقة مايو بالأحزاب بعد حركة يونيو 1976 المسلحة وإنتقال النظام لتأييد المعسكر الغربي وصولاً لإقراره لقوانين سبتمبر وإندلاع التمرد مرة أخرى في الجنوب.
ويواصل الكاتب كذلك النظر في قضية الديموقراطية من خلال النظر في موقف ومصير زعيم الحزب الجمهوري الأستاذ محمود محمد طه الذي صمت عن كل جرائم مايو ولم يتأسف كثيراً على قتل الشيوعيين وذبح الأنصار ومع ذلك لم يكن مصيره أفضل من مصير هؤلاء وأولئك حين جهر برفضه لقوانين سبتمبر مما أودى به لحبل المشنقة واستدعى الكثير من التساؤلات حول البعد الغيبي في الفكرة الجمهورية وحول موقف الأستاذ محمود المبدئي من قضية الديموقرطية, ويقول الكاتب عن موقف الأستاذ وتلاميذه :
( أُعتِبر الأستاذ خارقاً وذا صلة خاصة بالسماء, فحال هذا التقييم الموغل في الغيبيات بين التلاميذ وجدال أستاذهم حول التناقض بين دعوته للحرية وقبوله – ثم قبولهم – إقصائية مايو التي تكمم الأفواه وتسجن وتعدم. كل هذه التجاوزات قبلتها الذهنية الجمهورية التي ربطت بالفهم الغيبي بين مايو و (الحق) ما دامت تقف حائلاً بين الشعب والطائفية. غفل الأستاذ محمود لهذا الفهم عن رؤية الخطر الكبير في قبول منهج سياسي لا يحتمل رأياً آخر واستبعد الأستاذ في مراحل كانت مايو تحتفي به أن يكون هو ذلك (الآخر) يوماً ما, حتى جاء هذا اليوم ليصبح الأستاذ محمود ضحية تأييده تهجاً سياسياً لا يحتمل رأيين ).
بعد ذلك يتناول الكاتب النظام الديموقراطي الذي أعقب سقوط مايو بإنتفاضة أبريل الشعبية, حيث عاد محمد إبراهيم نقد وعز الدين على عامر لبرلمان كانا قد طردا منه قبل عشرين عاماً ( عادا وحزبهما شرعي لا يحتاج لصك غفران من أحد), ولكن النظام نفسه عاد منهكاً شأنه شأن الأحزاب التي أرهقتها المنافي والسجون والمقاصل, فما لبث أن إنقلب عليه حزب الجبهة القومية الإسلامية الذي كان حاضراً في البرلمان كثالث أكبر قوة سياسية لتبدأ صفحة جديدة من الحكم العسكري.
يخلص الكتاب بعد تناوله لفترة نظام الإنقاذ الممتدة حتى اليوم إلى أن تجربة الحكم الوطني أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يوجد بديل أفضل من النظام الديموقارطي الذي يسع الجميع دون وصاية أو إقصاء, وأن كافة الاحزاب السودانية قد دفعت ثمن الدكتاتورية باهظاُ, ويختم الكتاب بمشهد مواراة جثمان سكرتير الحزب الشيوعي الثرى فيقول :
(ما بين 16 ديسمبر 1965 يوم خروج محمد إبراهيم نقد من الجمعية التأسيسية طريداً, ويوم الأحد 25 مارس 2012 حين خرجت جموع السودانيين تشيعه إلى مثواه الأخير, مرت مياه كثيرة تحت الجسر, حتى خرجت في تشييع سكرتير عام الحزب الشيوعي كل أطياف المشهد السياسي, فشارك في تشييعه من عمل بالأمس على طرده من الجمعية, وشيعه الذين تأذوا كثيراً من ردة فعل الحزب في مايو قبل أن تدمي مايو جسد الحزب الشيوعي نفسه وتفت في عضده .. لم تكن أعلام الحزب الحمراء وحيدة في وداع القائد الشيوعي فقد تزاحمت معها أعلام الانصار ورايات الختمية وعلم الإتحاديين, علم الإستقلال ثلاثي الالوان, وتداخلت هتافات الشيوعيين مع إنشاد المراغنة والأدارسة, وحرص على وداع "نقد" المهدي والترابي والسنهوري وغازي وسبدرات وجلاء الازهري).
(15 نوفمبر 65 يوم له مابعده : في أعقاب حل الحزب الشيوعي) سفرٌ جديرٌ بالقراءة ويشكل إضافة ثرَّة للمكتبة السودانية.

 

آراء