بحديث صديق، قريب إلى النفس ، بأن صرير أبواب العشرينات ، الثلاثينات ، الأربعينات وخمسينات القرن الماضي ،لن يمنع الدخول إلى عصر الحياة الاجتماعية والثقافية - بمعناها الغربي- كجزء مخْفِيٌّ من حكاية القَّمر التاريخي المظلم الذي لا نراه عادة كوثيقة لتاريخ وسط السودان . ففن الشِعر و الغناء في ذات الوسط ، لم تستطع معاول التاريخ الكلاسيكية من الوصول لأعماق تربته الثريَة بعد .
*
حاول كثيرون نقل وتوثيق مواضي غِناء وسط السودان . وحاول شعراء تلك الحقبة ومن بقي منهم فترة أطول ، أن يوثقوا ويؤرخوا للحياة عبر خلجات نفوسهم ، وفق ما تيسر من إعلام ، أن يقرؤوا نتاج إبداعاتهم من وراء حُجب المُجتمع المُحافظ : كيف يكون العِشق في زمنهم طريقاً لمعرفة وجدان هؤلاء الشعراء ، وهم مرآة عاكسة لما يمور به المجتمع من نقائض بين المسموح وبين الممنوع . وهم الناطقون الفنيِّون عن مشاعر هذا المجتمع ، الذي يضيق بهم ساعة ذكرهم ، ولكنه يبحث عنهم عند الأفراح . كانوا هم فئة من المثقفين من طرف على قدر نسبة التعليم المُتاحة في زمانهم ، و على علاقة وثيقة بفن الغناء وألحان وأداء المطربين .معظمهم أسهم في وضع هياكل الألحان الغنائية على "السُّلم الخماسي ، في منطقة وسط السودان، الذي هضم تجارب الأرياف الفنية والشِعرية في معدة الوسط ، وأنتجت فناً خُلاسياً بقدر فعل الزمان ، والمكان والجغرافية والتاريخ .
(2)
تخمَّرت فنون " الكرير " والحُمبّى " و" الدوبيت " في بيئة أم درمان القرية الكُبرى في زمانها الماضي ، من بعد العقد الثالث من " معركة كرري " التي كانت فاصلة بين مجتمع قديم ،كان قد حرّم فن الغناء والطرب ، عدا " ضرب النحاس " وهو إيقاع الحروب أو ما كان يُسمى " بالجهاد " ، وبين مجتمعٍ جديد تم ترويضه بقوة حديدية ، حيث كان المعارضون للسلطة الاستعمارية ، يتم نصب المشانق لهم في الأسواق، إمعاناً في الترهّيب . وتقف قصيدة " رثاء عبد القادر ود حبوبة" ، واحدة من أمثلة تلك التي يختلط فيها أدب " مناحات رحيل الفوارس " بالشِعر والغناء والحزن ، كما أشعرت تلك المرأة التي ارتجلت مدح " ود حبوبة ":
بِتريد اللِطام
أسد الخزاز الزَّام ،
هَزَّيت البلد من اليمنْ للشام
سيفكْ للفِقَر قَلام
(3)
تناول الشعراء والنُقاد الغناء في وسط السودان ، سيرته وسيرة أهله . منهم الباحث الأستاذ " معاوية حسن ياسين " كموثق "، والأستاذ "عوض بابكر " ، والأستاذ متعدد المواهب بين الشِعر والتلحين والغناء والمسرح " السر أحمد قدور" ، ومن قبلهم " المبارك إبراهيم " ومن الشعراء " إبراهيم العبادي " و"عبيد عبد الرحمن " و "محمد بشير عتيق " ، ومن دفتر الذكريات التي سجلها المطرب والملحن " أحمد المُصطفى " والمطرب والمُلحن " حسن عطية" لإذاعة أم درمان . و الفنان "عبد الكريم الكابلي" ، و"عثمان حسين" ، و"عائشة الفلاتية ".وكثيرٌ ممن سجّلوا تاريخ أغنيات تراث مناطق وسط السودان ، وهو يكشف ثروة غنية عن تلك الكُرة المعرفية التي نفتقدها دائماً توثيق تراث مجتمع وسط السودان وأثر الأمم السودانية التي تداعت على الوسط . هنالك عبء كبير ينتظر أهل المباحث في توازٍ مع المأساة التي يعيشها وطننا الذي نأمل أن ينال حقه من العدالة ، إن كان في الخير من نصيب.
(4)
الشاعر سيد عبد العزيز :
إن الشاعر سيد عبد العزيز ( 1905/ 1906 – 1969 ) واحد من فُحول شعراء أغنيات ما تُسمى بالحقيبة : كتب الشاعر :- " أنا ما معيون". و " نظرة يا السمحة ام عجّن " و " يا أماني وجار بي زماني " و " سيدة وجمالها فريد " و " قائد الأسطول و " أقيس محانِك بمنْ " و " أنّة المجروح " و " حاول يخفي نفسه" و " أنا راسم في قلبي صورة الباسم " و " إنتَ عارف أنا بحبَّكْ " و " الليلة لاقيتو " و"غصباً عنك يلفت نظرك"و " الجنان في الدنيا " و" فتنة " و " الملكة الكامل جمالِك " و " الجمال والحب في بلادي " و " غنى القمري على الغصون " و " أم جمالاً يشفي السقيم " و " صباح النور عليك يا زهور "وجاروا أهلك وجورُم أمر " و " اجلي النظر يا صاحي " و " من حور الجنان " وغيرهم .تعاقب عليها أساطين فن الغناء والموسيقى في مواضي أيامنا :
" كرومة " و "محمد أحمد سرور " و " عبد الله الماحي " و " فضل المولى زنقار " و " إبراهيم الكاشف " وغيرهم .
(5)
روى المثقف النابه الراحل الفريق أول شرطة " إبراهيم أحمد عبد الكريم " في برنامجه التلفزيوني المشهور " نسايم الليل" ، الذي ضاع ضمن ما ضاع من تراثنا الفني بفعلٍ قاصِد ،" قصة قصيدة " بِت ملوك النيل " :
تحدث " إبراهيم أحمد عبد الكريم " عن أن الشاعر" سيد عبد العزيز" كثيراً ما كان في ضيافة السيد " عبد الرحمن المهدي" في قصره. وكان بينهما ودٌ ومسامرة لا تنقّطع .و كان السيد "عبد الرحمن المهدي " كريماً جواداً كما هو معروف ، وملاطفاً طيب المعشر كما هي سيرته ، وهو ما لا يذكره المؤرخون عنه .
وكان ضيفاً عليه ذات يوم الشاعر " سيد عبد العزيز " ، وأثناء جلستهم تلك، أطلّت طفلة صغيرة من "أهل البيت " على مجلس السيد "عبد الرحمن المهدي". وخاطب "السيد عبد الرحمن المهدي " الشاعر مُلاطفاً وهو يتبسَّم :
- ألا تكتُب قصيدة عن صغيرتنا ؟
فكتب الشاعر " بِتْ ملوك النيل " . تجاوز فيها الشاعر عن الطفلة التي أمامه ، وطفق بشِعره يذكر محاسن السيد " عبد الرحمن" وعشيرته ، ثم يعود إليها وقد تمثلها كأنها صبية في ميعة الصِبا. اختلط في بطن القصيدة الغزل وشعر الفخر . واستبطن الشاعر المشاعر الوطنية كسَربٍ أخذ طريقه وسط بحر الشِعر . لحَّن القصيدة الفنان المخضرم " عبد الكريم عبدالله مُختار " المشهور بـ " كرومة " وغنّاها . ومن بعده تغنَّت بها الأجيال جيل من بعد جيل. الفنان والموثق " عبد الكريم الكابلي" أدخل على اللحن والأداء بصمته الغنائية الطروب . ومن بعده صارت الأغنية كما نعرف اليوم، يتوارث نبتها الصداح بالطِيب كل مُجربِ لفن الغناء ، لازدحام القصيدة بمعاني كثيفة متنوعة . أيقونات تركها الشاعر المخضرم " سيد عبد العزيز " كمثيلاتها اللاتي يُضاجِعنَّ الزمان ويلِدنَّ أعراقاً جديدة .
لن نُعنى كثيراً بمنْ كانت تُسمى الطفلة آنذاك ، لأن بطون التاريخ حافلة بالكنوز التي بعضها يحتبس اللسان عن ذكرها ، لأغراض الخصوصية .
(6)
صحبتْ الشاعر الراحل" سيد عبد العزيز " ألف سلامة ، إلى خير مآل نأمله عند كريم عزيز ، ومثله ندعو للراحل الموثق العظيم فريق أول شرطة " إبراهيم أحمد عبد الكريم " و أن يتقبل العلي القدير السيد " عبد الرحمن المهدي " ، وأن يطويه بزُخرف النعيم ، بما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعتْ ، فما حرمونا قط من سيرة عطرة و غزل عفيف وغسيل ناصع لوجداننا .
(7)
القصيدة :
يا بِت ملوك النيل
يا أخت البُدور
مين لى عُلاكِ ينيِل
في البَدو والحُضور
....
الجَّبرة فيك بتخيل
مَحمية الحِمى
الما حام حِداها دخيل
ما كان أبوكِ بخيل
بت عِزّ الرجال
أهل الدِّروع والخيل
والهنا والسرور
....
الرَّاقية سِت الجِّيل
طرفِك من حياهُ
في عصر السّفور خِجيل
حُسنِك وُضع تَسجيل
في صُحف الدُّهور
يتلوه جيل عن جيل
لى يوم النُشور
....
الهيفا يا الخنتيل
حروف آيا ت محاسنِك
أرتلِن ترتيل
يعجبني فيك تمثيل
أخلاق الملاك
في سطوة القِتيل
الفارس الجسور
....
غُصنِك رطيب وعَديل
شَعرك ليل
جبينِك يخّجِل القنديل
النور عليكِ سَديل
يا معنى الجمال
الما اتوجدلو عديل
في ناس ولاَّ حُور
....
فُقتي الِكانوا قبيل
ماخدات في الجمال جائزة نوبيل
حَيَّرتي كل نبيل
عيناك سِحرِهن يَسحر سِحر بابيل
يخترق الصُدور
....
يا صاحبة الإكليل
ما أظن النَّهار العين تدورلو دليل
محياكِ نورو جليل
كنت أقول شمس
لو ما الزمن كان ليل
إنتِ عليكِ نور
....
لا زلت ليكِ أميل
يا رمز السعادة
الما اتوجدْلو زميل
يا آية التكميل
يا مراية الجمال
الفيكِ كل جميل
ريحانة العصور
...
عبدالله الشقليني
5 سبتمبر 2016
وتقبل التحية الاحترام
عبد الله الشقليني
alshiglini@gmail.com