قراءة صامتة فى مقالة راشد الغنوشى فى (شؤون دولية)!
maqamaat@hotmail.com
علامات الإقتباس المزدوجة المحيطة ببعض العنوان أعلاه, دالة على ان العبارة ليست لي فقد وجدت ضمن مقتنياتى من أوراق قديمة مقالة مصورة لصديقنا الطالب محمد محجوب هارون فى جامعة الخرطوم آنئذ والدكتور الأستاذ بذات الجامعة ورئيس معهد السلام بها إلى جانب الراحل الدكتور الطيب حاج عطية رحمه الله رحمة واسعة . كانت مقالة الطالب / الدكتور بعنوان (قرائة صامتة فى فكر الأستاذ راشد الغنوشى) نشرتها له مجلة الجامعة التى كان يصدرها إتحاد طلاب الجامعة فى ذلك الوقت أواخر عقد السبعين من القرن الفائت و بداية ثمانينيات ذلك القرن الحافل بالأحداث الجسام. واتحاد الطلاب فى تلك الحقبة أوشك أن يكون حكراً على منسوبى "الإتجاه الإسلامى", وهو الاسم الذى اختارته الحركة الإسلامية السودانية عنوانا لفروعها فى الثانويات والجامعات والمعاهد العليا. ولعل المهرجانات السنوية التى كان يقيمها الاتحاد الذى يسيطر عليه "الإتجاه الإسلامى" كان هو ذراع الحركة وأداتها فى إقامة تلك المهرجانات الفكرية والثقافية. وعبرها كان الأستاذ راشد الغنوشى يتردد على السودان(ذلك ما نمى إلى علمى إذ لم أكن بالبلاد وقتها) ولذلك اقول بحذر أن تسمية الحركة الإسلامية فى تونس ب "الإتجاه الإسلامى" التى أسسها الغنوشى مع الشيخ عبدالفتاح مورو عام 1980 ربما كان صدى لتلك العلاقة الحميمة التى جعلت الغنوشى يسمى الحركة الإسلامية (الشقيقة الكبرى) كما كان يرى فى شيخها الدكتور حسن الترابى شيخاً له وكانت حركة الإتجاه الإسلامى قد اُتهمت بالتدبير لإنقلاب عسكرى فى تونس قبل يوم واحد من تنحية بن على للحبيب بورقيبة وأن تلك الحركة الإتقلابية التى سبقت إنقلاب السودان أطلقت على نفسها ذات الاسم ( حركة الإنقاذ الوطنى)أو هكذا يمضى الإتهام.. لكن المفارقة أن الأستاذ راشد فى مقاله المنشور الأسبوع الفائت فى عدد سبتمبر أكتوبر 2016 من مجلة (شؤون دولية – فورين أفيرز) الأمريكية بعنوان "من الإسلام السياسى إلى المسلمين الديمقراطيين: حزب النهضة ومستقبل تونس", أغفل تماماً الإشارة إلى تلك الصلة بالحركة الإسلامية السودانية وشيخها بل للسودان نفسه رغم إشاراته إلى تاثير حركة الاخوان المصرية وإلى فكر مالك بن نبى فى الجزائر ومصطفى السباعى فى سوريا والطاهر بن عاشر صاحب المقاصد الإسلامية كمصادر ساهمت فى قيام حركة الإتجاه الإسلامى فى تونس. ولا أدرى لماذا ولكن ربما لأن المقالة المحررة بالإنقليزية موجهة فى الأصل للقارئ الغربى, قد اختارت أن تتحاشى الإشارة إلى السودان لما لحق باسمه من تشوهات . وأنوه هنا بالإستعراض الجيد للمقالة من قبل الشاب المستنير بابكر فيصل بابكر فى يومية "السودانى" عدد الفاتح من سبتمبر الحالى بما يغنى عن استعراض جديد. إذن فالمراد بهذه المقالة محاولة طرح تساؤلات مشروعة تنقدح فى الذهن بعد قراءة المقالة التى كتبت أصلاً لتوضيح المقصود من مراد حركة النهضة بالتحول الذى أقرته قبل شهور فى مايو المنصرم , من من حركة إسلامية إلى حزب سياسى على غرار الأحزاب المحافظة فى أوربا الغربية: الحزب الديمقراطى المسيحى فى إيطاليا وفى ألمانيا وغيرها. يقول الأستاذ راشد الغنوشى فى المقالة بالحرف "إن الحركة التى شاركت فى تأسيسها (مع آخر) عام 1980 لم تعد حزباً سياسياً وحركة إجتماعية فى ذات الوقت. لقد أوقفت جميع أوجه نشاطها الثقافية والإجتماعية وتنخرط الآن و فقط فى الشأن السياسى." ولقد كان سبب قراءة الدكتور محمد محجوب هارون الصامتة, دهشته و دهشة منسوبى الحركة الإسلامية السودانية من منعطف جديد تقتحمه الحركة الإسلامية التونسية وهى وليدة يومئذ, منعطف جديد مفارق لخطاب الحركات الإسلامية فى السودان وفى غيره وهو نبذ العنف واعتماد السلمية فى كل الأحوال بينما كانت حركة السودان ترى أن تتخذ الحركة فى نضالها ما يلزم من الطرق والوسائل المعتمدة من سلوكيات ووسائل أعدائها فى محاربتها ربما وفقاً لقاعدة "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (البقرة الاية 194) , إن كان النزال ديمقراطيا سلكت دروبه وإن كان مناجزة عنيفة أعدت للمنازلة العُدد كما وقع عام 1970 و1976 واتنفاضات 1973 وهكذا. فكانت تساؤلات طالب الفلسفة وقتئذ تبحث و تتساءل عن ماذا لو جاء سعى الأعداء إليها منازلة عنيفة؟ وما أشبه الليلة بالبارحة فحركة تونس تفاجئ الحركات الإسلامية بقفزة أخرى هى الأولى من نوعها فى العالم الإسلامى سيما بالنسبة للحركات التى نشأت فى حضن حركة الاخوان المسلمين المصرية وأبادر إبتداء إلى القول بأنى أؤيد الخيار الأخير لحزب النهضة بالتحول إلى حزب للمسلمين الديمقراطيين ولقد دعوت كتابة فى مقالة لى بعنوان " المسلمون بين المناجزة وصناعة الحضارة " وفى غيرها وعبر الأسافير فى إطار المجموعات إلى شئ من ذلك لكن بقناعات مختلفة تتلخص فى إيمان عميق بأن الأصل فى الإسلام هو الحرية , حرية الخيارات جميعاً وأن تجارب الإسلاميين لم تؤكد إحتراما لتلك القناعة ولم تتجاوز حد الشعارات ولم تبلور رؤية مستمدة من قيم الإسلام فى إقامة أنموذج يؤكد على الكرامة الإنسانية فى الحرية وفى شأن المعاش. وظلت تصوغ نظما بعيدة عن تلك القيم تدورحول القانون الجنائى فى الإسلام المتمثل فى الحدود كأنما الأصل فى الإنسان الإنحراف الموجب للعقاب لا الخيرية التى فطر الله الناس عليها لعمارة الأرض . بينما عزا كما سنرى الغنوشى التحول إلى السياسى إلى ظروف تطور الأوضاع فى بلده تونس . لم أجد فيما كتبه تعبيراً واضحاً عن قناعات مبدئية أملت على الحركة ذلك التطور. وبالتالى فتساؤلاتى فى شأن المقالة ليست إستدراكات على الشيخ الغنوشى فى فكرته المركزية وليست رفضاً لها ولكنها تساؤلات أراها مشروعة وأن مقاله لم تجب عليها.
عزا الغنوشى ظهورحركة النهضة أول ماظهرت كحركة إسلامية إلى ظروف القهر السياسى والتسلط الذى مارسته الحكومات العلمانية الديكتاتورية على الشعب التونسى بحرمان الناس من الحريات الدينية وحريات التعبير والتنظيم. يقول ولأن حركة النهضة قد ساهمت عبر نوابها مع القوى الأخرى فى أول برلمان منتخب بعد ثورة الياسمين التى أطاحت بالنظام الديكتاتورى لابن على فى وضع دستور نص على الديمقراطية وحماية الحريات السياسية والدينية وأنه قد تمت المصادقة عليه عام 2014 وعليه فقد ضمن هذا الدستور الجديد للتونسيين حرية العبادة وأن يعبروا عن معتقداتهم وقناعاتهم بحرية مع التأكيد على هويتهم العربية الإسلامية . وبالتالى و استناداً على ذلك فإن حركة النهضة لم تعد بحاجة إلى بذل طاقاتها وتصويب رميتها لحماية تلك الحقوق. بمعنى أن تضمين الديمقراطية والحريات العامة فى الدستور قد أعفى الحركة من مسؤولياتها السابقة فى حماية تلك الحقوق ومكّنها من مغادرة تلك المحطة متفرغة للسياسة وحدها . ووفق لهذه السببية تكون نشأة الحركة إبتداء, كحركة إسلامية قد جاءت إستجابة لظروف داخلية مرت بها تونس وليست إندياحاً لفكر الأممية الإسلامية الذى روجت له حركة الاخوان المسلمين. ذلك رغم إشاراته للينابيع الفكرية الإقليمية التى شربت منها. كأن القناعات الفكرية والإرتباط العضوى بالتنظيم العالمى للاخوان لم تكن هناك. فحركة الاخوان المسلمين جاءت فى إطار الظروف الدولية التى أحاطت بالعالم الإسلامى وخلفت الحركات الجهادية التى نشطت فى القرن التاسع عشر ضد الإستعمار فيما يسمى بمرحلة التنظيميين فى مسيرة ردة الفعل الإسلامى للهجمة الإستعمارية الغربية على المنطقة متأثرة برؤي الأفغانى ودعوته للجامعة الاسلامية وبأفكار محمد عبده ورشيد رضا فى الإصلاح . وعجل سقوط الخلافة العثمانية عام 1923 بقيام الحركة رسميا عام 1928 على يد حسن البنا للإبقاء على فكرة أن الإسلام يتسم بالشمول فهو دين ودولة و"مصحف وسيف " كما جاء فى أدبيات جماعة الاخوان. وشكل ذلك إطارا فكرياً لكافة الحركات التى انبثقت عن فكر الاخوان وتونس لم تكن إستثناء لذلك .لا نغفل دور أبو الأعلى المودودى فى بلورة تيار الحركات الإسلامية وأبرز سماته كما أسلفنا شمولية الإسلام بمعنى أنه دين ونظام حياة فى ذات الوقت.
وأتساءل هنا مجدداً ماذا لو لم تحترم الحكومات فى تونس ما ضمنه الدستور من الديمقراطية والحريات؟ وهو أمر يتكرر كثيراً فى العالم الثالث؟ هل تعود حركة النهضة إلى سالف عهدها حركة إسلامية تناضل من أجل ضمان تلك الحريات؟
ألا تحرم هذه المحلية الخاصة بظروف تونس التى استندت عليها حركة النهضة فى نهجها الجرئ الجديد مزية الريادة لها بين الحركات الإسلامية فى إرتياد آفاق جديدة عبر العمل السياسى المحض أوعلى الأقل تحفيز حركات الإسلام الأخرى فى الشك فى جدوى برامجها وطروحاتها وإعمال الفكر بحثاً عن وسائل أكثر جدوى وجدية فى خدمة مجتمعاتها فى إطار المبادئ الإسلامية؟
حركة النهضة التونسية حركة ناضجة ومسؤولة استطاعت بحنكتها المحافظة على ثورة تونس الديمقراطية وضحت فى سبيل ذلك بمكاسب عاجلة بالإبقاء على مزايا آجلة يجنى ثمارها كل الشعب التونسى ويحمد لها الإبقاء على زعيمها بعيدا عن المناصب السياسية عندما أحجمت عن ترشيحه للرئاسيات وعن القبول بمجلة الأحوال الشخصية المتوارثة منذ أيام الحبيب بورقيبة. ما أحسب أنه كان سيعجزها رد التطور الذى اختارته إلى قناعات مبدئية تستند إلى المرجعية الإسلامية فى قداسة الحرية وأنها من تكريم الخالق للبشرو بأن مجتمعات المسلمين المختلطة التى يعيش فى أكنافها المسلم وغير المسلم اليوم يحميها ويحمى غيرها النظام الديمقراطى المبسوطة فيه الحريات التى يحميها القانون الذى ينتصب لحماية الناس من التسلط والبطش ويمنحهم حرية الدعوة للقيم ومكارم الأخلاق في وقت تواجه فيه البشرية عالم ما بعد الحداثة الذى يريد القضاء على كريم الموروثات الإنسانية الحامية لمفهوم الأسرة وقيم الخير كقيم مطلقة لا نسبية.
إن الإحجام عن رد هذه الخطوة الجريئة والمطلوبة إلى مرجعية يستند إليها الناس سيفتح الباب واسعاً للتأويلات والإتهامات ايضاً. أذكر أنه فى حوار تلفزيونى شارك فيه الغنوشى مع الجزائرى محمد أركون قبل سنوات وفى معرض دفاع الغنوشى عن إجتهادات الترابى فى شأن المرأة أن أركون علق بالقول إن إجتهادات الترابى عصرية ومناسبة ولكنه لم يردها إلى المرجعية الإسلامية التى يستند عليها لذلك تصبح دعوة عصرية وكفى. وبغض النظر عن صحة زعم الأستاذ أركون من عدمه, أتوقع لمثل هذا القول أن يقال فى حق تحول حركة النهضة من حركة إسلامية إلى حزب للديمقراطيين المسلمين. صحيح أن الأستاذ الغنوشى استدرك بالقول " بالطبع فإننا كمسلمين ستظل قيم الإسلام تقود نشاطنا لكننا نرى أن الجدال الإيديلوجى حول أسلمة أو علمانية المجتمع لم يعد ضرورياً او حتى مناسباً". ويبقى التساؤل قائماً حول المرجعية الفكرية لتلك القناعة: هل هى خلاصة قناعات بأن لا دولة فى الإسلام على النحو الذى تروج له الحركات الإسلامية؟ أم أن الوصول إلى مقاصد الإسلام البعيدة فى الحرية والكرامة الإنسانية تتحقق عبر النضال السلمى فى الإطار الديمقراطى؟