مئويَّة استشهاد السُّلطان علي دينار (ت. 1916م): الأسباب والمآلات
(الحلقة الثانية)
السُّلطان علي دينار لحظة استشهاده
مدخل الحلقة الثانية
تجسدت خاتمة الحلقة الأولى في إيعاز حكومة السودان الإنجليزي-المصري إلى السيِّد علي الميرغني بأن يطلب من السُّلطان علي دينار أنْ يؤجِّل مسألة استيراد الأسلحة والجبخانة من الحجاز، وأنْ يُسوي خلافاته السياسيَّة مع الناظر موسى مادبو بالطرق السلمية؛ وأن يصلح علاقاته مع الخرطوم؛ لكن السُّلطان لم يأخذ تلك النصائح بعين الاعتبار، بل احتج بأن ارتباطه الوثيق بالخلافة العثمانية والتزامه العقدي يمنعانه من التعامل مع "الكُفَّار"، مدَّعيًا بأنه أصبح "أبًا للمسلمين في العصر"، ومكلَّفًا بإعادة الدين الصحيح. بهذا الالتزام الديني والتطلع السياسي، قطع السُّلطان علي دينار "شعرة معاوية" مع حكومة الخرطوم وأعلن الجهاد عليها. كما قَدح في مواقف الزعماء الدينيين في السُّودان، بخطابه إلى الشريف السنوسي في جغبوب (ليبيا): إن "جميع المسلمين الذين بشرق السُّودان والعلماء والفقهاء ومشائخ الطرق وغيرهم صاروا يكاتبوننا، ويُثنون على دولة الإنكليز، يمدحونها في مخاطباتهم لنا، ويطلبون منَّا أن نميل لمعتقدهم الفاسد، ونتبع النصارى، ولم نوافقهم على ضلالهم، وضربنا عن إفادتهم صفحًا. ووردت لنا بالجرايد شهادات من أعيان السُّودان وأهالي النواحي مادحين فيها دولة الإنكليز بتمويهاتٍ مكذوبةٍ". بهذه الجرأة أعلن السُّلطان علي دينار موقفه الصريح من مجاهدة الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا) تحت راية دول المحور (ألمانيا، والنمسا، وبلغاريا) والخلافة العثمانيَّة، في حرب كونيَّة كان لها أبعادها الاستراتيجية العالمية والإقليمية التي لم تكن حاضرة بكل مفرداتها في مُخَيِّلة السَّلطان. وفي ظل هذا المشهد السياسي المعقد نطرح الأسئلة الآتية، ونحاول الإجابة عنها في ثنايا هذه الحلقة الثانية: ما العُدَّة التي أعدَّها السُّلطان لمواجهة جيوش المستعمر وسندها الديني والقبلي في السُّودان؟ وكيف أفضى إعلانه الجرئ للجهاد على حكومة الخرطوم وسدنتها إلى استشهاده في 6 نوفمبر 1916م، وإلى ضمِّ دارفور إلى حظيرة السُّودان الإنجليزي-المصري؟ هل كان السُّلطان المجاهد مدركاً لذلك المآل؟ أم دفعت الحَمِيَّة الدينية والنزعة السُّلطويَّة وقراءة الواقع الضبابية إلى ذلك الإعلان الصعب دون إدراك للعواقب الوخيمة المترتبة عليه؟
السلطان بين مكر الزعماء الدينيين في الخرطوم ونجدة زعماء العشائر
لا ريب أن فقدان الثقة في الزعماء الدينيين في الخرطوم قد دفع السُّلطان علي دينار للنجدة بزعماء العشائر في كردفان ودارفور، فتواصل مع الناظر محمد حريكة، والناظر علي الجلة في دار المسيرية، وأخبرهم بأن السُّلطان العثماني قد أعلن الجهاد ضد الإنجليز وأعوانهم، وأن الواجب الديني يحتم عليهم الاستجابة لنداء الجهاد؛ "لأن الساعة حانت للانتقام من الكُفَّار". وفي مناشدة أخرى كتب إلى الناظر موسى مادبو وعمد ومشايخ الرزيقات بأن يستجيبوا لأمر السُّلطان العثماني، ويجاهدوا الذين يلونهم من الكُفَّار، ويعتقوا رقابهم من رِقِّ الاستعمار وأسره. ثم خاطب مدير كردفان بعبارات مستفزَّة، قائلًا: "فأنتم النصارى الكُفَّار، مأواكم النار، ومصيركم إليها، رضيتم بالموت فكيف نحن لا نرضى بالشهادة في سبيل الله، والفوز برضى الله والنعيم الأبدي المقيم، فلا تظنونا أننا نعمل أقل حساب من جهتكم، لا من مدافعكم، ولا من بنادقكم ومكانتكم، لا والله لا نخشى منكم، بل نجاهدكم بالحراب، وينصرنا الله عليكم".
يبدو أن هذا التحدي المشحون ببعض العواطف الدينية-الجهاديَّة قد دفع مدير كردفان إلى تأليب الحكومة ضد السُّلطان علي دينار، بدليل أن السير ونجت باشا بعث رسالتين لمدير كردفان، أوضح في إحداهما "أنَّ علاقتنا مع دارفور ستدخل طورًا جديدًا. بينما كانت كل جهودنا في الماضي موجَّهة نحو الحفاظ على الوضع الراهن، وألا نفعل شيئًا من المحتمل أن يورِّطنا مع السُّلطان، فإنَّ تصرُّفَنا في المستقبل سيحكمه احتماليَّة أنَّه إمَّا عاجلًا، أو آجلًا (وكلما كان آجلًا أفضل) فإن التدخل المباشر والعسكري في شؤون دارفور أمر لا مناص منه". وبموجب ذلك شرعت الحكومة في اتخاذ بعض التدابير الاستباقيَّة لإعلان الحرب، والمتمثِّلة في تأمين الحدود الغربيَّة مع دارفور، ودعم خصوم علي دينار القبليين داخل دارفور، وفرض حصار تجاري على الإقليم، يُفضي إلى ندرة السلع الاستهلاكيَّة وارتفاع أسعارها، ثم تكليف "المفتش الذكي" ماكمايكل بجمع المعلومات الاستخباراتيَّة عن دارفور. ويبدو أنَّ السُّلطان علي دينار عندما شعر بتحركات الحكومة الجادَّة ضده، استنجد بالسيِّد علي الميرغني مرة أخرى، طلب منه الإنصاف أمام الحكومة الاستعمارية، قائلًا: "أنت مندوبي، وأطلب منك إنصافي من الحكومة، وذلك بالحصول على ما ذكرت، والتحقق بأن شؤوني محترمة طبقًا للاتفاقات التي مع الحكومة، وإذا أمكنك أن تقوم بذلك فسوف أظلُّ دائمًا كما كنت من قبل، وسوف أحترم الاتفاقات التي بيني وبين الحكومة، وسأكون شاكرًا، كما هو عهدي دائمًا، وسأعاملها كما السابق". تعكس هذه الرسالة حالة القلق والارتباك والتناقض التي كان يمر بها السُّلطان على دينار؛ لأنه في الوقت نفسه تواصل مع القيادات العثمانيَّة والشريف أحمد السنوسي في ليبيا بدليل أن نوري بك كتب إليه رسالة من الحدود بين مصر وبرقة (ليبيا)، قائلًا: "إلى سيد المجد والكمال، النشط، المحارب، التقي، الصالح، الشجاع، الذكي، البارز، الأمير ابن الأمير، صاحب السعادة العظيم أمير حكومة دارفور، منحه الله النصر ووهبه كل خير". وبعد هذه التوطئة الإطرائية، أفاد نوري بك السُّلطان علي دينار بأنه وصل إلى معسكر السيِّد أحمد الشريف، زعيم السنوسيَّة في ليبيا، وأن الحكومة التركيَّة ترغب في إبلاغه بمتطلبات قوات علي دينار، وموقفها تجاه "أعداء الإسلام"، ثم أخبره أن السُّلطان العثماني أرسل إليه وسامًا وعباءة وسيفًا وسرجًا وبندقيَّة مزخرفة ومسدسًا ونظارة ميدان ستُبعث له لاحقًا، خوفًا من مراقبة الأعداء. وأكدت أيضًا المعلومات الاستخباراتيَّة البريطانيَّة لمكتب القاهرة أن نوري بك العثماني قد أرسل هدايا إلى علي دينار في نوفمبر 1915، مع رسالة من سلطان تركيا تحثُّه على الثورة ضد حكومة السُّودان، والاشتراك في الجهاد ضد إنجلترا؛ وأنَّ قافلة مكونة من 160 جملًا (يقال: إنها تحمل 200 بندقية) أُرسلت إلى دارفور؛ وأنَّ العلاقات بين السنوسي وعلي دينار قد أصبحت وديَّة، بعد أن كانت متوترة في السابق. كما أن الرسالة أفادته أيضًا بضرب الجيش الألماني لسواحل برقة في ليبيا، وسيطرة السنوسيين على الحدود الغربيَّة لمصر.
كل هذه التطورات دفعت الحاكم العام إلى تقديم طلب لوزارة الحربيَّة البريطانيَّة بالسماح له بغزو دارفور. وافق اللورد كتشنر، وزير الحربيَّة آنذاك، على اقتراح الخرطوم، ثم أرسل أربع طائرات لتعزيز قوة غزو دارفور المكوَّنة من وحدات عسكريَّة رسميَّة مختلفة (مشاة، وهجانة)، ومتطوعين من الرزيقات، والبقارة، والكبابيش. وفي تلك الأثناء تمَّ تجهيز محطات الإمدادات العسكريَّة والغذائيَّة على طول الطريق، وشراء آلاف من الجمال لترحيل عتاد الحملة العسكريَّة وعساكرها. وقبل انطلاق الحملة العسكريَّة في مارس 1916 حضر السير ونجت باشا إلى النهود؛ للتأكد من الإعداد العسكري للحملة، ثم إعلان الحرب على السُّلطان علي دينار. وبعد ذلك بدأت الطائرات بإلقاء المنشورات على أهالي دارفور؛ لتقليل الخسائر البشريَّة وإشاعة الحرب النفسيَّة والرعب في نفوس الجنود وسلطانهم "المتمرد". ويوضح المنشور أدناه طبيعة الخطاب السياسي التحريضي الذي كانت تبثه حكومة السُّودان آنذاك؛ لتبيِّن للناس أن الحرب ضد السُّلطان علي دينار ليست لها علاقة بالإسلام والمسلمين، وإنما لتخليص الناس من ظلمه، وتأكيدًا لذلك تدثرت ببعض الإيماءات الإسلاميَّة.
منشور إلى عموم أهالي دارفور
المصدر: أرشيف السُّودان، جامعة درم (SAD, 128/3/82)
شهدت تلك الفترة سلسلة من المناوشات العسكريَّة بين الحكومة وجنود السَّلطنة، ولكن بعد هزيمة الفور في واقعة برنجيَّة في 22 مايو 1916م تحت نيران المدفعيَّة البريطانية، ترك السُّلطان علي دينار العاصمة الفاشر، محتمياً بمنطقة جبل مرة الحصينة. وبعد شهور من الحصار هاجمت قوات الحكومة الوحدات العسكريَّة المرافقة للسلطان، وأثناء المعارك الدائرة بين الطرفين استشهد السُّلطان علي دينار برصاصة طائشة في 6 نوفمبر 1916م، وبذلك أسدل الستار على آخر سلاطين دارفور. وبحلول عام 1917م أصبحت دارفور جزءًا من السُّودان الإنجليزي-المصري. وعلى هامش مداولات مؤتمر الصلح بباريس عام 1919م، عقدت بريطانيا وفرنسا صفقة سياسية، تمَّ بموجبها إلحاق دار المساليت ودار قمر بالسُّودان، بينما ذهبت دار تاما ودار سلا لفرنسا، وأضحى وادي هور الحد الفاصل بين ودَّاي ودارفور.
الخاتمة
يؤكد استشهاد السُّلطان علي دينار في 6 نوفمبر 1916م مقولة السياسي البريطاني ونستون تشرشل: "ليس لدينا أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، ولكن لدينا مصالح دائمة." فالحرب العالميَّة الأولى كانت حرب مصالح دائمة؛ لذلك تبدلت مواقع الأصدقاء والأعداء على خارطة بريطانيا العظمى. فتحولت الدولة العثمانيَّة من حليف تقليدي للمملكة المتحدة إلى عدوٍ استراتيجي؛ وتحول السيد عبد الرحمن المهدي من خصمٍ مهمَّشٍ، تهاب الحكومة الثنائيَّة في السُّودان نمو نفوذه الطائفي والسياسي، إلى حليف استراتيجي، يُوظف نفوذه الطائفي لمصلحة الحلفاء ضد الخلافة العثمانية؛ وانتقل السُّلطان علي دينار من خانة الحليف المرحلي إلى خانة العدو الاستراتيجي، بعد انضمامه إلى دول المحور والخلافة العثمانية؛ ولذلك أصبح التخلص من سلطنة الفور شرط استمرار وتمكين في السُّودان. أما حسابات السُّلطان علي دينار فكانت تقوم على التزامه العقدي بالإسلام، وتشوقاته الدينيَّة لنصرة دولة الخلافة، وتطلعاته السياسيَّة ليكون خلفاً للبريطانيين في السُّودان. لذلك كان يخاطب السُّلطان العثماني بقوله "إلى من تذل الملوك لعزة سلطانه، وتخضع لعظمة شأنه، أمير المؤمنين السُّلطان محمد رشاد الدين، أيَّد الله دولته التي عَزَّ بها الإسلام، ونُشرت له بها في كل الأمصار الأعلام". ومن جانب آخر يرد السُّلطان على تهديدات المندوب السامي البريطاني في القاهرة بقوله: "أما تهديدكم ليَّ فأنا لست دنقلاوي، ولست عبد الله التعايشي، فإني بفضل الله سلطان وابن سلطان، ورثتُ الملك كابراً عن كابر، وراثة حقيقية، وجلست على عرش مملكة أجدادي وآبائي بأمر الله الواحد الصمد... ولا اتعدي على أحد، لكن مستعدٌ غاية الاستعداد، إن تعدى علي أحد، أو عزم على البطَّال معي، إن كان بمحله يخذله، وإن أتاني يخذله الله، ويقطع دابره بفضل الله، وهذه الشيء ظاهر، إن كنت لاتعلمه أسال أهل العقول والدراية يعرفوك به." وواضح من هذه الاقتباسات أنَّ السُّلطان علي دينار كان مفتوناً بزهو سلطته في دارفور، وبفخر انتمائه إلى الإسلام، وبمساندة الخلافة العثمانيَّة له في استانبول، مع العلم بأنه لم يكن مدركاً لحجم التحدي الحقيقي الذي يواجهه، والذي لم يكن مرهوناً بالقضاء على سلطانه في دارفور فحسب، بل يتعداه إلى تصيفة النفوذ العثماني في المنطقة، وتقسيم أملاك "رجل أوروبا المريض" بين الحلفاء. لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، استغلت حكومة السُّودان العناصر الدينيَّة المؤازرة لها (السيِّد علي الميرغني) في مرحلة الترغيب؛ لإبعاد السُّلطان علي دينار عن دائرة النفوذ العثماني، ولكنها عندما شعرت بالفشل، أو بعدم رغبة السُّلطان في فك التزامه الأخلاقي والسياسي في مع استانبول، لجأت لسياسة الترهيب والمواجهة العسكرية، فاستعانت بالقبائل المناوئة للسلطان في دارفور وكردفان، مثل الرزيقات والزياديَّة والهبانيَّة وبني هلبة والكبابيش؛ لتكون سنداً لقواتها النظاميَّة في محاربة السُّلطان، الذي واجه نيران الأسلحة الحكوميَّة المتقدمة (مدافع مكسيم والطائرات) بعتاده الحربي-التقليدي وأنصار قليل الدربة العسكريَّة. فكانت النتيجة هزيمة جيوش السَّلطنة، واستشهاد السُّلطان المطارد برصاصة طائشة في 6 نوفمبر 1916م، ثم أخيراً إسدال الستار على سلطنة الفور في طبعتها الثانية (1898-1916م)، وضمِّ دارفور إلى دولة السُّودان الإنجليزي-المصري، انهاءً لوضعها الإداري الاستثنائي الذي نشأ عقب سقوط الدولة المهدية. هكذا تزامن استشهاد السُّلطان علي دينار مع عملية التخطيط للثورة العربيَّة الكُبرى في جزيرة العرب ضد الخلافة العثمانيَّة؛ ومع توقيع اتفاقيَّة سايكس-بيكو السريَّة التي أفضت إلى تقسيم بلاد الشام والهلال الخصيب بين دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا).
ahmedabushouk62@hotmail.com