عادل القصاص: السلطات السودانية الشمالية المركزية التي أعقبت الخروج المباشر للمستعمر لم تقم بتشييد بنية سياسية راسخة

 


 

 

 

س 1: يحتفل السودان بعد أيام، بالذكرى الـ 60 لاستقلاله، أين يقف من شعار "الاستقلال نهاية تاريخ، وبداية مستقبل"؟

ج 1: أودُّ – توخِّياً للدقَّة، واعتماداً على النتائج الموضوعية لحالة السودان – أن أقترح تعديل هذا الشعار إلى: "الاستقلال: نهاية مرحلة وبداية مرحلة". فالصيغة التي تفضَّلتَ بها قد تتضمَّن وقوع نُمُوَّ أو تطوُّر اضطلعت وتضطلع به "الدولة المستقِلَّة" (السودان في هذه الحالة) لتتبيَّن آثاره الإيجابية على المجتمع؛ وهو ما أرى أنه لم يحدث. بل أزعم أن الذي حدث – على أكثر من صعيد – هو العكس. فإذا كان المعنى أو المحتوى النموذجي لمفهوم الاستقلال، بمعنى استقلال الارادة السياسية والاقتصادية والثقافية لصالح البناء والانماء المحليين، فإن هذا لم يتحقق على أي مستوى. وحتى مستوى تغيير السلطة، أي انتقالها من حكم المستعمر المباشر إلى حكم القيادات السياسية المحلية، لم يتم إلَّا على مستوىً شكليٍّ؛ حيث أن من خَلَفَ الاستعمار، من القيادات "الاستقلالية"، الشمالية المركزية، لم يكونوا سوى وكلائه المحليين. فالمعروف – على نحو عام في الكثير من حالات المستعمرات "السابقة" للاستعمار الغربي، بما في ذلك حالة السودان – أن الادارة الاستعمارية قد أعدَّت فئة من القيادات المحلية لتستلم السلطة بعد خروجها. ولنا في التقرير الذي أعدَّته واعتمدته الادارة الاستعمارية البريطانية في السودان – عقب إسقاط الدولة المهدية – أحد الشواهد المبكِّرة على إحدى الاستراتيجيات – بعيدة المدى – التي ابتكرتها تلك الادارة للمحافظة على مصالحها في السودان – إنْ هي أُضُطرَّت يوماً للتخلِّي عن حكمه المباشر (وهي التي كانت وقتها في عنفوان جبروتها وبداية مرحلة توطيد سيطرتها في السودان؛ أي أن نشوة انتصارها على المهدية لم تُنْسِها أن تتحسَّب للمستقبل). في ذلك التقرير وردت توصية يقول معناها إنه يتوجَّب على الادارة البريطانية في السودان أن "تعتني" بأبناء مفجِّر الثورة المهدية والمُرسي الأول لدعائم دولتها، الإمام محمد أحمد المهدي، عبر عدَّة وسائل من بينها تمكينهم من خلق الثروة ومساعدتهم على تنميتها والاستغراق في الرفاه الناتج عنها لكي يُنسيهم ذلك التبنِّي العملي للتعاليم الرادكالية للأب الروحي للثورة والدولة المهدية. طبعاً لاحقاً أُضيفَت الإستراتيجية الثقافية التي تتمثَّل – من بين ما تتمثَّل – في المِنَح التعليمية والتدريب الثقافي والتقني الذي سيعزِّز من النفوذ الطبقي لتلك الفئة. وقد نجحت هذه الاستراتيجيات – وغيرها – أيَّما نجاح، ربما فاق تصوُّر المستعمِر. أمَّا الأنظمة السياسية السودانية، الشمالية المركزية – مدنية كانت أم عسكرية – التى توالت على السلطة، فإن تبعيَّتها للغرب – من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية – لهي أكثر من ملموسة. ربَّما تتشدَّق الأنظمة المدنية بأنها كانت "مستقِلَّة". قد يكون هذا صحيح نظرياً. بيد أن حكومات تلك الأنظمة – وهي التي كانت تتمتَّع بقيادة يمينية بامتياز (وبعضها سليل "العناية" البريطانية طبعاً) – ما كان لها أن تخالف المحدِّدات الاقتصادية والسياسية الغربية، ربَّما فيما عدا الموقف من إسرائيل في ذلك الوقت. أمَّا فيما يتعلَّق بالأنظمة العسكرية، فلعله قد يكفي شاهداً أو مثالاً أن من العوامل التي فاقمت سخط الشارع السوداني على نظام الفريق إبراهيم عبُّود (1958– 1964) وساهمت، بالتالي، في إشعال ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت به كانت تتمثَّل في قبول ذلك النظام للمعونة الأميركية. وكذلك فإن تبعية نظام المشير جعفر نميري (1969 – 1985) للغرب عموماً – ولأميركا على نحوٍ خاص – فقد كانت تفوق تبعية سلفه على مستويي الكم والكيف. على أن أحد تأثيراتها البارزة كانت تتمثَّل – أيضاً – في مضاعفة غضب الشارع السوداني على ذلك النظام إذ كانت من الأسباب الفاعلة في الثورة عليه وإسقاطه عبر انتفاضة مارس-أبريل 1985. أما النظام العسكري الراهن، فهو – وإن كان لا يحظى بالدعم العلني لقوى الاستعمار الجديد – إلَّا أنه مرغوب من قِبَلها – لقابليته وأمنياته أن يغدو تابعاً (بوضوح) أكثر من الأنظمة المدنية، وذلك بعد أن تخلَّى عن أوهامه الآيديولوجية وشططه السياسي (من وجهة نظر الاستعمار الجديد). وسبب تفضيل قوى الاستعمار الجديد للتعامل مع حلفاء عسكريين على الحلفاء المدنيين (لاسيَّما في السودان) يكمن في أن الأنظمة المدنية-الديموقراطية – رغم ولاء قياداتها التقليدية له – تسمح بالمساءلة السياسية العامة؛ وبالتالي فهي تسمح بتجييش الرأي العام – لا سيَّما من قِبَل الأقليَّات المعارِضة، خصوصاً قوى اليسار – ضد ما يبدو – مثلاً – أنه مسٌّ بالسيادة الوطنية. أما قيادات الأنظمة العسكرية فليس هناك من يساءلها (غير رؤسائها المستعمِرين الجُدد طبعاً).
غير أنه من الثابت أن جميع الأنظمة السياسية، الشمالية المركزية، التي تعاقبت على السلطة في السودان – بعد الخروج المباشر للمستعمر – ساهمت في التدهور المضطرد للواقع العام فيه. حتى الكثير من البنيات الاقتصادية – إن لم يكن كلها – التي أنشأها المستعمر لأجل مصلحته هو بالأساس – ليس لم يتم تطويرها فحسب، بل لم تتم المحافظة عليها كما هي. خُذْ – مثلاً فحسب – مشروع الجزيرة، هذا الذي جعل السودان أحد أهمَّ مصدِّري (إن لم يكن أهمَّ مصدِّر على الاطلاق) للقطن طويل التيلة في العالم، وقل لي أين هو الآن؟ خُذْ – مثلاً فحسب – مشاريع تصدير الصمغ العربي، السمسم، الفول السوداني، الماشية وقل لي أين هي الآن؟ خُذْ – مثلاً فحسب – شبكة الموصلات العامة متمثِّلة في خطوط السكة حديد وخطوط الترام، وقل لي أين هي الآن؟ أمأ إذا نظرت إلى واقع الخدمات الصحية، التعليمية، الاجتماعية والثقافية – على نحو عام – فحدِّث ولا حرَج كما نقول. إن جميع هذه البنيات – وغيرها طبعاً – لم تنهار الآن، أي في عهد هذا الحكم، وإنما ظلَّلت تتآكل خلال حكم جميع الأنظمة السودانية، الشمالية المركزية (وإن كان معدَّل التدهور في عهد النظام الراهن أسرع بكثير من عهود الأنظمة التي سبقته).
فهل – بعد هذا – يمكن القول إن خروج المستعمر كان ايذاناً ببداية مستقبل للسودان؟ نظرياً، كان هذا ما يجب أن يكون. عملياً، ما حدث هو أن الاستقلال كان بداية عهود من قمع سياسي داخلي، ذي درجات وأشكال مختلفة من نظام إلى آخر، وأنماط متباينة من التدهور السياسي، الاقتصادي والاجتماعي.

س 2: لأكثر من نصف قرن، يتقلب السودان بين ثنائية متلازمة، ثورة شعبية تقضي على حكم عسكري، يعقبه انقلاب عسكري ينقضُّ على حكم ديمقراطي، برأيك ما أسباب هذه اللازمة الثنائية في السودان الحديث؟

ج 2: السبب يكمن – برأيي – في هشاشة البنية السياسية السودانية على نحو عام. فالسلطات السودانية، الشمالية المركزية، التي أعقبت الخروج المباشر للمستعمر لم تقم بتشييد بنية سياسية راسخة. والسبب يعود إلى إفتقار قيادات هذه السلطات للأُسس الوجدانية-الأخلاقية-الفكرية-الثقافية-السياسية الَّلازمة لمثل هذا التشييد. كما أن البنيات العامة، تلك التي يكون من شأنها المساهمة في توليد وترسيخ بنية سياسية عامة مثل النهضات الثقافية، الفكرية، العلمية، الأخلاقية والسياسية (أو أسس الحداثة بصورة عامة) بعضها كان بالغ الضمور وبعضها لم يكن موجوداً (وما يزال غير موجود). كان هذا هو حال النُّخَب السياسية التي آلت إليها السلطة بعد الاستقلال. أما الأنظمة السياسية الأخرى التي تعاقبت على السلطة في السودان بعد ذلك، فقد ورثت نُخَبها نفس الافتقار لتلك الأُسس لتظل البنية السياسية تعاني من نفس الهشاشة. في بلدان كبريطانيا، فرنسا، ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية – مثلاً – ليس من الوارد حدوث إنقلاب عسكري لأن البنية السياسية العامة في هذه البلدان راسخة بسبب وفرة ونمو البنيات التي شيَّدت ورسخَّت أنظمتها. أما في سوداننا المعاصر (وليس الحديث)، فإن "التغيير الرَّادِكالي الشكلي" للأنظمة سهلٌ: نظام مدني، فعسكري، فمدني، فعسكري...وهكذا.. بسبب هشاشة البنية السياسية العامة. إذن، نحن في حاجة إلى البنيات أو الأُسس الحديثة – المتوازية والمتواشجة في نفس الوقت – التي تمكَّن من إحداث تغيير رادكالي حقيقي، هذا الذي يقود إلى بناء وترسيخ نظام سياسي مدني ديموقراطي (دعنا نأمل أن يكون منظوره للعدالة الاجتماعية أكثر تطوراً من المنظورات الغربية). ولن يصبح هذا ممكناً دون ثورة ثقافية أصيلة.

س 3: استقراء لوقائع ستة عقود، هناك من يرى، أن السودان بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة الانسان السوداني أولا، هل تتفق أو تختلف مع هذا الرأي؟ ولماذ؟

ج 3: العناصر (البنيات أو الأُسس) التي تحدثت عنها في الاجابة السابقة هي ما نحتاجه على نحوعام. هي ما نحتاجه لأن من شأنها أن تساهم من تطوير قدرات وآفاق الإنسان. وللأنظمة السياسية دور أساس في هذا لأنها تقوم بدور "المُربِّي". وهنا تكمن معضلة أيضاً: لأن تجارب الأنظمة السياسية – على نحوٍ عام – أنها تقوم ببناء وتطوير أجهزة ومؤسسات غالباً ما تؤدِّي إلى تفريخ واعادة تفريخ نموذج المواطن الممتثِل، أو غير النقدي. وهذه الأجهزة والمؤسسات تقوم بهذا خدمة لمشيئة السلطة، التي بدورها تقوم بهكذا خدمة لمشيئة مصلحة اجتماعية-اقتصادية، أي طبقية، محدَّدة. الذي نحتاجه إذن هو إنسان – لا مفر من يأتي عبر هذه الأجهزة والمؤسسات – بشرط أن يضطلع بالتمرُّد عليها، حرصاً منه على المصلحة العامة، بالمعني غير الشعاري التي تقول به عادة الأنظمة السياسية المتباينة في عالمنا المعاصر.

س 4: شعوب كثيرة ثارت ضد الاستعمار الأجنبي، وانتصرت عليه، ورفعت أعلام استقلالها، وهتفت بنشيدها، لكنها مع الأسف، تعيش أزمة هوية وطنية (بمفهومها الشامل)،هل ترى السودانَ في تلك القائمة؟ ولماذا؟

ج 4: السودان في صدارة الدول التي تعاني من هكذا أزمة. والسبب يكمن – أيضاً – في افتقار نُخَب السلطات السودانية، الشمالية المركزية، المتوارثة للحكم منذ الاستقلال، للأُسس الوجدانية-الأخلاقية-الفكرية-الثقافية-السياسية التي تقوم – علاوةً على الفهم العميق للمؤثِّرات الخارجية، كالمؤثِّرات الاستعمارية وغيرها من عوامل – بقراءة تعقيدات الخريطة الاجتماعية، الثقافية، الإثنية، الدينية، اللغوية قراءة ثاقبة تكون نتيجتها الخروج بصيغة تمثيلية رحبة، يحسُّ كل مواطن فيها بامتلاء مكانته، غير المُنَقَّصة وغير المُنَغِّصة، فيها.

س 5: عندما يعيد التاريخ نفسه، يصبح المفهوم الوطني مأساوياً. بوصفك أكاديمي منخرط في حقول الدراسات الاجتماعية والثقافية والسياسية، هل توافق على أن تاريخ الحكومات السودانية في عمومه مأساوي، لا يحمل بداخله إلاَّ اليسير، من معاني الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية؟
ج 5: غياب العدالة الاجتماعية لهو من المظالم طويلة الأمد التي مُورسَت من قِبَل جميع الأنظمة السياسية في السودان. وحتى في الأوقات التي يتحدث بعضنا عن أنظمتها بحسبانها ذات تقاليد تنتمي لـ"دولة الرفاهة"، أي خلال العهود التي كان فيها التعليم والصحة وأنماط أخرى من الرعاية الاجتماعية مدعومة من قِبَل الدولة، فإن هذه الرعاية لم تكن رعاية عامة. كانت رعاية شمالية مركزية. أي كان المستفيدون من خدماتها شرائح وطبقات اجتماعية محددة داخل المدن الرئيسة في السودان، بينما كان معظم القُطر، أي هامشه الاقليمي وحتى داخل العواصم الاقليمية (بما في ذلك هامش الخرطوم وهوامش العواصم الاقليمية الأخرى) يعاني من الفقر وسوء التغذية والأمراض والأمية وغياب الخدمات الأساسية مثل شبكة الماء والكهرباء). الذي تسبَّب في انبثاق الكفاح المسلَّح عبر حرب الجنوب الأولى والتالية، المقاومة المسلحة في جبال النوبة (جنوب كُرْدُفان) والأنْقَسَنا (جنوب النيل الأزرق)، محاولات النضال المسلَّح في الشرق والمناهضة المسلَّحة في دار فور، لم يكن سياسياً إلَّا من حيث هو – بالأساس – تعبير عن غياب العدالة الاجتماعية بشكلها المُركَّب والواسع. بهذا المعنى، فإن تاريخ الحكومات السودانية الشمالية المركزية – المدنية والعسكرية – هو تاريخ غياب العدالة الاجتماعية بشكلها المُركَّب والواسع. إنه أيضاً تاريخ التدهور المضطرد، بشكله المُرَكَّب والواسع. إنه تاريخ الاقصاءات والسياسات المدمِّرة للإنسان وبيئته بشكلها المُركَّب والواسع.

س 7: ماهي كبرى التحديات التي تواجه الجاليات السودانية باستراليا؟ ولماذا هي جاليات وليس جالية واحدة؟

ج 7: أقترح أن نبدأ بالإجابة على الشقِّ الثاني من السؤال لأن من شأن هذا أن يقودنا إلى الإجابة على الشقِّ الأول. هي جاليات وليس جالية واحدة – رغم انتمائها إلى قطر واحد – لأنها جلبت معها إلى مهجرها هذا نفس بذور الانقسام الذي يسم – على نحوٍ غالب – واقعها في السودان. والسودان دولة قَبَلية وليس قومية (وغير القَبَلية ثمَّة عناصر أخرى تساهم في هذا الانقسام كالدين، الثقافية واللغة). ذلك أن الدولة القومية يجمع منتسبيها شعور عام بالانتماء أوسع من الانتماء القَبَلي مما يجعلهم مواطنين وليس سُكَّاناً. فالمواطن ينتمي إلى وطن بينما الساكن مقيم في مكان قد يكون دولة، ولكن ليس وطناً. فأهل جبال النوبة والأنْقَسَنا ودار فور وأقصى شمال السودان وشرقه ووسطه – مثلاً – ليسوا مواطنين سودانيين إلَّا على المستوى النظري. لكنهم سُكَان مكان تمَّ اختلاقه – والمحافَظة على تشَظِّيه – وتسميته بالسودان. وهم منفصلون عن بعضهم البعض. ولهذا السبب فهم لا يعرفون بعضهم البعض، ربما سوى بالإحالة القبلية أو المكانية المحلية (الإقليمية) العامة، التي هي غير دقيقة وملتبِسة في كثير من الأحيان. إذ لا علاقة وثيقة تجمعهم. في عام 2010 – وكان هذا قبل انفصال اقليم جنوب السودان بعام تقريباً – قدَّمت ورقةً في دار إحدى الجاليات السودانية في مدينة سيدني، كان موضوعها "الوحدة [في السودان] بين الماضي والمستقبل"، جادلتُ فيها بأن شمال وجنوب السودان لم يكونا موحَّدين في أيَّما وقت – لا سيَّما عقب تعيين حدوده المعاصرة بواسطة الاستعمار – إلَّا نظرياً. ذلك أن الوحدة – الحقيقية – تعني وجود علاقة قائمة على الإلمام بين المواطنين وتشارُكهم في أكثر من منحىً وتقاسمهم مصيراً واحداً. وهذا – بالضبط – ما تفتقر إليه العلاقة – ليس بين سودانيي الشمال المركزي (بالمعنى الجغرافي والإثني الضيِّق للشمال) وسودانيي الجنوب فحسب – وإنَّما بين سودانيي معظم – إن لم يكن كل – أقاليم السودان. لو سألت جميع السُكَّان المنتمين لما يدعوه الدكتور شريف حرير بـ"الشمال النهري" السوداني عن من زار منهم جنوب السودان وجبال النوبة وجال فيهما طواعية (أي غير مدفوعٍ إلى أو مرغَمٍ على المشاركة في الحرب)، فانك لن تحصل – في أفضل الأحوال – سوى على بضع مئات من ردود إيجابية. بل حتى الأفراد الجنوبيين ونوبة الجبال المقيمين في مدن هذا الشمال، كالخرطوم، لا يكاد الشماليون (بالمعنى الجغرافي والإثني الضيِّق للكلمة) المقيمون في نفس هذه المدن يعرفونهم. لا صداقات أو أنماط أخرى من علاقات حميمة، كالتزاوج، تجمعهم. والحكومات "الوطنية"، المتوالية منذ الاستقلال، كرّست هذا الانقسام لأنه جزء أصيل من البناء الوجداني، النفسي، الاجتماعي والثقافي لها. وهذه الحكومات لا تتذكَّر "غِنى تعدُّدية السودان" إلا لأغراض كالرشوة السياسية الموسمية والتسويق البروتوكولي والسياحي. هذا ما جعلني أقول إن الجنوب فُصِلَ عملياً بواسطة الجهل والاستعلاء العرقي والاجتماعي والثقافي السائد في هذا الشمال والمدعوم من قِبَل السلطات الشمالية المركزية الحاكمة المتوالية. أما الانفصال الرسمي السياسي، الذي حدث مؤخَّراً، فقد جاء كتتويج لذلك الانفصال العملي. وبقية الأطراف السودانية – بالذات هذه التي ينحدر أغلب سُكَّانها من أصول أفريقية غير مُلتَبِسة (كجبال النوبة والأنْقَسَنا وإلى حدًّ ما دار فور) – تعاني – بدرجات متباينة – من عين الجهل والاستعلاء العرقي والاجتماعي والثقافي السائد في هذا الشمال والمدعوم من قبل السلطات المركزية الحاكمة المتوالية. أي أنها، بهذا المعني، منفصلة أيضاً. وما وجود جاليات سودانية متعدِّدة هنا (وفي مهاجر أخرى) إلَّا برهان على "الانفصال الأُم".
لذلك فإن التحدِّي المركزي لهذه الجاليات هنا يكمن في أن تمتلك القدرة على أن تغدو جالية واحدة. وإنَّ تواجدنا في أستراليا لهو سانحة يتعيَّن الإفادة منها في هذا الاتجاه. فتواجدنا هنا (وفي مهاجر أخرى) يفتح العين، ليس على وضوح وقوة وأهمية المشترك بيننا كمهاجرين سودانيين فحسب، بل بيننا وبين جاليات أفريقية أخرى، كما بيننا وبين جاليات مهمَّشة أخرى في أستراليا (كالسُّكَّان الأصليين لها وغيرهم). كما إن هذه فرصة مواتية لكي نعتذر للبعض منا لما بدر منا هناك. وربما يساهم هذا – وحتى لو بدرجة أقل – في عملية توحيدنا هناك أيضاً. على أن هذه انجازات ليست سهلة. لكنها ليست مستحيلة.

س 8: كيف ترى مستقبل السودان؟

ج 8: لو استمرَّ الواقع الانقسامي الذي قمت بتوصيفه في الإجابة السابقة على نفس المنوال في السودان، فالراجح ألَّا يكون هناك مستقبل للسودان لأنه لن يكون هناك قطر إسمه السودان، بحجمه الراهن على الأقل.
أجرى الحوار مع عادل القصَّاص: أحمد شريف (صحفي إرتري مقيم في أستراليا) – ملبورن – ديسمبر 2016

أبعث لعنايتكم بهذا الحوار الصحفي الذي أجراه معي زميل صحفي إرتري، هو أحمد شريف، بمناسبة الذكرى الحادية والستين لاستقلال السودان. وكان هذا الحوار أُجري للنشر في صحيفة أسترالية-عربية، تُدعى "الوسط"، وهي اصدارة محدودة الانتشار حتى داخل أستراليا.
ولقد رأيت، وأحمد، وأصدقاء آخرين، إعادة نشر هذا الحوار في منبركم المحترم توسيعاُ لقاعدة القراءة وأملاً في أن يكون مناسبة لاستدرار حوار رصين.


algassas@hotmail.com


melashraaf111@gmail.com

/////////////////

 

آراء