رسائل الدنيا الجديدة (4): (في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الدكتور محمد عثمان الجعلي)

 


 

 

 

 

boulkea@gmail.com
لولا مُفارقة الأحبابِ ما وجدتْ لها المنايا إلى أرواحنا سُبلاً
المتنبي

تمرُّ يوم الثلاثاء القادم الذكرى الأولى لرحيل الأديب والمفكر الكبير الدكتور محمد عثمان الجعلي, وأستميح القارىء الكريم في نشر الرسالة أدناه التي بعثتُ بها إليه قبل أحد عشر سنة, وكان الأستاذ الشاعر والأديب كمال الجزولي قد تكرَّم بنشرها ضمن روزنامته الأسبوعية. كذلك أرفق مع الرسالة الرد الذي خطه يراع الراحل الكبير. رحم الله الدكتور الجعلي وأسكنه فسيح الجنان مع الصديقين والشهداء.
----------------


دنفر في 23 فبراير 2006
الشقيق البديع الدكتور / الجعلي
تحيات طيبات عطرات
الثلاثاء
إن الفكر المستنير الذي يخلق الوعي المغاير لذلك الوعي الذي نجمت عنه المشاكل، هو أحد أهمِّ أدواتنا لتجاوز وهدتنا الراهنة, فالمشاكل – كما يقول آينشتاين - لا تحل بنفس مستوى الوعي الذي أنتجها, وقد ظلت مقولة إينيشتاين هذه تشغلني، لسبب ما، طوال الأيام الماضية وأنا أفكر في حال حزبنا الاتحادي الديمقراطي الذي أعيتني أسئلته، وأعترف بأنني لم أتوفر علي إجاباتها، وأصعبها السؤال الأكثر إلحاحاً عن مستوي إدراك من يتولون القيادة لجذور المشاكل التي تجابه (حزب الحركة الوطنية)، قبل السؤال عن مدى وعيهم بالحلول التي تتطلب، بطبيعتها، وعياً مختلفاً، وفق مقولة إينيشتاين! لكن لا بد أن هنالك من يملك إجابة ما .. لا بد !
الأربعاء
جادت عليّ مجلة "الكرمل" بحوار هو الأطول والأعمق مع الشاعر الكبير محمود درويش الذي هو عندي أهم شعراء العربية المعاصرين (الكرمل، عدد/86 على الشبكة العالمية), وأذكر أنَّ محررة مجلة (المشاهد) اللندنية سألت الراحل نزار قباني، ذات مرة، عن المشهد الشعري العربي فأجابها بقوله: "أحدِّق في كل الوجوه الشعرية فلا أكاد أرى إلا وجه محمود درويش" !
درويش يعني بالنسبة لي، مثلما للملايين، ضمن الكثير من القيم التي يعني، حب الوطن والإصرار والأمل, ففي (حب الوطن) هو القائل: "لنا بلادٌ لا حُدودَ لها كفِكرَتِنا عن المَجهول/ ضيِّقة وواسِعَة/ بلادٌ حينَ نمشِي في خريطتِها تضيقُ بنا/ فتأخُذنا إلي نفق رماديٍّ/ فنصرخ في متاهَتِها/ وما زلنا نحبُّك/ حبُّنا مَرَضٌ وراثي"!
وفي (الإصرار) على القبض على الجمر هو مبدع الأبيات الأشهر: "أنا قبْلمَا أعطيتِنِي نورَ الحياةِ وُلدتُّ ثائِرْ/ لو تسألينَ الصَّخرَ والغاباتِ والسَّفحَ المُكابرْ/ لو تسألينَ السَّاحِلَ المذبوحَ والشطَّ المُهاجرْ/ لو تسألينَ ذِراعَ طفلٍ عَلقوهُ علي الخناجرْ/ لو تسألينَ حِذاءَ جُنديٍّ يَدُقُّ علي الحرائِرْ/ لو تسألينَ بُكارَةَ العَذراءِ تشوَى بالسجائِرْ/ بَقرَتْ حِرابُ النَّذل بطنَ الحامِلاتِ وظلَّ حائِرْ/ فالوحشُ يقتلُ ثائِراً والأرضُ تنبتُ ألفَ ثائِرْ/ يا كِبْرياءَ الجُّرح لو مِتنا لحارَبَتِ المَقابرْ"!
وفي (الأمل) هو الذي ظلَّ يبشر بضوء الصبح الذي لا بد أن يبدد ليل الظلمات: "يا دامِيَ العينين والكفيّن إنَّ الليلَ زائِلْ/ لا غرفة التَّوقِيفِ باقِيَة ولا زرْدِ السَّلاسِلْ/ نَيْرونُ ماتَ ولم تزَلْ روما بعينيها تقاتِلْ/ وحُبوبُ سُنبُلةٍ تَجفُّ ستملأ الوادِي سنابلْ"!
غير أنّ حوار (الكرمل) نقل اليَّ ما أثلج صدري من جهة رأي درويش في شعر (متنبي بادية السماوة). فانحيازي لأبي الطيب لا شكَّ فيه. أحمل ديوانه في الحل والترحال (النسخة التي شرحها العلامة اللغوي عبد الرحمن البرقوقي). قال درويش "أعتبر أنه .. يلخص الشعر الكلاسيكي. واذا أردنا أن نقرأ الشعر العربي كله مجازاً في شاعر واحد نقرأه في المتنبي"! ويواصل: "لا شك في أن شعره يتمتع بجزالة رهيبة، وفيه تختلط الحكمة مع العاطفة المتأججة. وهو يضع علامات لا يمكن ان تخطئها العين ولا الأذن. أنت تعرف المتنبي من غير أن يوقع قصيدته، وقدرته علي أن يخلق سلطاناً شعرياً في هذا المستوى لا نستطيع أن نمرَّ بها مروراً محايداً". ينصر دينك !
وللمتنبي مكانة خاصة في نفوس السودانيين، يستشهدون بشعره ويدرسونه في مناهجهم ويدافعون عنه. وقد قرأت في هذا الخصوص مرافعات عديدة للطيب صالح تنصف إبن الحسين في مواجهة ما سطره عنه قلم د. طه حسين في كتابه (مع المتنبي)، وما أعده، في ظني، إحدى سقطات (العميد)! فالنقد القويم عندي لا بد أن يصدر عن حب وإلفة، وهو ما لم يتوفر لطه حسين، علي الأقل في كتابه المشار إليه.
الخميس :
وصلتني اليوم دعوة للمشاركة في (منتدي السلام العالمي) بمدينة فانكوفر ـ كندا، حيث سأقدم ورقة عن (التعليم الديني والارهاب) هي خلاصة بحث مطوَّل عن مدارس الأزهر الشريف. وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد أولت هذا الموضوع أهمية قصوي في إطار ما تسميه (الحرب علي الارهاب).
أهل الاختصاص ينقسمون في هذا الشأن إلى قسمين. قسم يرى أنَّ هناك علاقة مباشرة بين التعليم الديني والإرهاب وقسم يشكك في تلك العلاقة، ويحصرها في عدد محدود من (المدارس) في دولة باكستان, وفرضية بحثي الأساسية تقول أن المشكلة لا تكمن في مناهج التعليم بالمدارس، بل في محددات فكرية و سياسية أخرى يأتي في مقدمتها تمدُّد الآيدولوجية الدينية، بتحالف مع السلطة أغلب الأحيان، وسيطرتها علي الفضاء الثقافي و الاجتماعي والسياسي في تلك الدول. فمناهج التعليم الديني ظلت موجودة دون تغيير يذكر منذ مئات السنين، ومع ذلك لم تولد إرهاباً ! وعلي الرغم من أن هذه المناهج في غالبها محافظة وتقليدية وطائفية، بل ومتخلفة عن أحوال العصر الذي نعيشه، إلا أنها، بلا أدنى شك، غير ثورية أو حربية أو محرِّضة علي العنف. لقد تمدُّد نفوذ عناصر الجماعات الدينية في نسيج تلك المجتمعات، حتى طال، في ما طال، وزارات التعليم وهيئات التدريس، وهنا كان مكمن الداء، إذ يلعب المُعلم دوراً أساسياً في تشكيل عقول الناشئة.
خلاصة القول أن الإرهاب ظاهرة برَّانية أو دخيلة علي مناهج التعليم الدينية, وقد جلبت اليها بوساطة العديد من العوامل الفكرية و السياسية الأخرى,و بالتالي فان تغيير المناهج الدينية وحده لن يؤدي الي اختفاء ظاهرة الإرهاب!
الجمعة :
في هذا الصباح الجليدي الموحش، والثلج يحاصرنا من كل الجهات، تذكرت، بلا أية مناسبة، مقالاً كنت كتبته قبل عدة أعوام عن غناء الحقيبة. وكان مما جاء فيه أن الأخ الشقيق الشيخ الحسين صاحب ذوق رفيع، وأذن مرهفة، ومعرفة شافية بهذه الحقبة الجميلة من حقب الغناء السوداني. الشيخ من أنصار صالح عبد السيد (أبو صلاح)، بل هو يعتبره (أمير) شعراء الحقيبة. وكان كثيراً ما يقول لي: يكفي أنه كتب (وجه القمر سافِر)! وكنت علي الدوام من أنصار عبيد عبد الرحمن، أجد في شعره دفئاً حميماً وحميمية دافئة، وربما كان هذا هو سبب تذكري لذلك المقال في مثل هذا الصقيع، مثلما أجد فيه توصيفاً دقيقاً للمحبوب، وتصويراً بليغاً لأحوال العشق والعشاق. كيف لا وهو الذي كتب (جاهل وديع مغرور)، كما وأنه صاحب (سليم الذوق)، هذه الأغنية التي تصيب (الكبد) في الصميم! وكانت العرب قديماً تظن أن (الكبد) هو مكمن العاطفة، ومستقر الاحساس، وبيت الشعور، وقد جاء في بعض غزل يزيد بن معاوية: "نالتْ علي يدِها ما لمْ تنلهُ يدِي/ نقشاً علي مِعصم أوْهَت بهِ جَلدِي/ كأنهُ طـُرقُ نمل في أنامِلِها/ أو روضة رصَّعَتها السُّحْبُ بالبَرَدِ/ وقوسُ حاجبها من كلِّ ناحيةٍ/ ونبلُ مُقلتِها ترمِي بهِ كَبدِي"! ثم يواصل حتى ينشد: "فقالت: صَدَقت الوَفا في الحُبِّ شيمته/ يا بردُ ذاكَ الذي قالت علي كَبدِي"!
من نفائس مقتنياتي تسجيلان لأغنية (سليم الذوق)، أحدهما للثنائي الخالد ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة، والآخر (قعدة مكرَّبة) ضمَّت عباس تلودي إلى تلك الدنيا المسماة سميرة وآخرين. وإنني لأجد في أداء الثنائي سلاسة وسهولة، أما تلودي فيمتاز بروعة مخارج الألفاظ ووضوحها، على مدرسة الكابلي. وعدم وضوح المخارج هو، في ظني المتواضع، ولست متخصِّصاً، من أكبر عيوب الغناء.
د. الجعلي يشارك الشيخ الحسين إعجابه بأبي صلاح، وفي (رحيل النوَّار خلسة) قال عنه: ".. وإمام شعراء الأغنية السودانية، المتقدمين منهم والمتأخرين، صالح عبد السيد (أبوصلاح) .. لو لم يقل إلا (جوهر صدر المحافل)، لتقدم أهل الشعر ولتقلد إمارته .. إستمع الي سحر كلماته التي لحَّنها كرومة حين يشدو بها بلبلا شمبات عوض وابراهيم: الفرعْ البتَّنَّي راتِلْ/ طيرو ينوحْ في غصونو حاتِلْ/ بَهْوَي نديمْ لي فكري شاتِلْ/ الأسدْ الفِي القيد يناتِلْ/ يتأكدْ ما ليهو قاتِلْ/ غيرْ مَكحُول ظبيَ النَّتِيلةْ"!
وإذن فالشيخ الحسين يمنح أبي صلاح لقب (الأمير)، في حين يخلع عليه د. الجعلي لقب (الإمام)، أما أنا فأقول، بتمام أهليتي وعلى كامل مسئوليتي، إن عبيد عبد الرحمن هو (خان) أغنية الحقيبة! و(الخان) عند المغول بمثابة (القيصر) أو (الامبراطور) أو (الملك)، ومنه لقب أعظم فاتح في تاريخ الدنيا .. (جنكيز)، وأعلم أن سيرته في بلاد العرب والمسلمين غير تلك التي في كتب التاريخ المحايدة !
نعود لنتأمل كلمات (الخان) التي تحلق بك في فضاء لا حدود لاتساعه، ولا مثيل لرحابته، وتتنقل بك في دروب المجرات، الواحدة تلو الاخرى، حتي مستقر الحبيب في كواكب لم تفك طلاسمها، بعد، ولا حتى وكالة (ناسا) ذات نفسها، بكل ما أوتيت من حيل التكنولوجيا، وما زوِّدت به من عقول العلماء: "يا سليم الذوقْ الجَّمالكْ صارْ/ زينة الأيامْ ومتعة الأبصارْ/ سامِي حُسنكْ جَلَّ عن حصي وإحصارْ/ وكلْ جميلْ لجمالكْ دُونو والإقصارْ/ حُسنكْ انتَ يدُومْ والليالي قصارْ/ هوَ في العصورْ آثارْ لمفاخِرْ الأمصارْ/ نورْ جمالْ مُتسَلسِلْ من خِيارْ أخيارْ/ نظمَ الكواكِبْ سِلسِلْ كوكبُو السَّيَّارْ/ في الفرقدينْ والزهرة حبيبي ليهو ديارْ/ ما في سماءْ الدنيا بعيدْ عن الطيارْ/ من أشِعَّة مَحْيَك شَعْشَعو الأقمار/ والشموس يا الشمِس الفي سَمَا الأعمارْ"!
و(الخان) خبير يكاد يكون بلا نظير في توصيف حال العشاق وبيان شكواهم. فما بين الرغبة في توصيف حقيقة المشاعر، والنزوع لمداراة الميول، ينكشف حال المحب، ولا يجد سلواه الا في اللوم، ولو باستعارة مفردات درج الناس علي استعمالها في شئون السياسة والحكم: "لدَن المَعاطِفْ نونْ دانَتْ قطوفها ثِمارْ/ ولِمَاهُو لمَّ الدُّر علي خمْرَة الخمَّار/ يا كنوزْ الدنيا الضَّامِّى للأسرارْ/ أنا غَيْرَ أزمَة وَجْدِي ما بيَّ من أضرارْ/ قرَّة عيوني جمالكْ وقلبي ليكْ جرارْ/ وانتَ حاكِمْ ظالِمْ وحُرْ من الأحرارْ/ لكلِّ شيْ برهانْ رغماً عن الإنكارْ/ مهما أداري هواكَ يهزِّنِي التذكارْ/ أنشدْ قوافِي ثناكْ واتعمَّد الأبكارْ/ من كل معني طريف في جواهِرْ الأفكارْ/ فورانْ عواطفِي يمثل كلَّ شيْ فوَّارْ/ أستنشِدْ المُستنجد وانشدْ العَوَّار/ وإذا عزولي بدا لي قصدو يبدا حوارْ/ أتَناسَى إسمكْ عمداً أقولو ده النّوارْ"!
تُرى هل جال بخاطر الثنائي الراحل ميرغني المامون واحمد حسن جمعة أن ثمَّة من سيضطره (الحاكم الظالم) لأن يستمع لغنائهما في أقصي ركن من الدنيا، علي سفوح جبال الروكي، وفي درجة عشرين فهرنهايت تحت الصفر؟!
السبت :
في محادثة تليفونية، مساء اليوم، مع صديق وزميل دراسة عزيز، طوَّفنا في بحور الذكريات، وعدنا بالزمان (القهقرَى)، وهي عودة أشبه ما تكون بعودة شيخنا العباسي إلي مصر بعد أن ذهب الشباب إلي غير رجعة: "سبعون قصَّرتِ الخُطى فتركنني/ أمشِي الهُوَينَى ضالِعاً مُتعثرا/ مِن بعدِ أن كنتُ الذي يطأ الثرَى زهواً ويستهوي النساءَ تبخترا/ يا مَن وجدتُ بحيِّهم ما أشتهِي/ هل من شبابٍ لي يُباعُ فيُشترَى/ ولو أنهم ملكوا لمَا بخِلوا بهِ/ ولأرجعونِي والزمانَ القهقرَى"! وفي زمان مضى قال لي صديق ناقد: لم أرَ استخداماً لكلمة (قهقرَى) في الشعر أبرع من استخدام العباسي هذا !
تطرقنا، في حديثنا التليفوني المسائي هذا، لمدن السودان وملامحها الخاصة. وكان مما قلته إن لكل منها رونقها وطابعها الذي يميِّزها عن غيرها. ومثلما تتمايز المدن بمعالمها المادية من مبان ومعمار وطرق، تتمايز أيضاً بمعالمها البشرية من رجال ونساء! ذلك أن في كل مدينة أفراداً (معالم) يعرفهم الصغير والكبير، ويمثلون، في الغالب، (ظرفاء المدينة) الذين يُعرفون بخفة الظل وسرعة البديهة! فما من أحد يماري في أن بعض ما اشتهرت به مدينة أمدرمان، مثلاً، المرحوم موسي ود نفاش والمرحوم كمال سينا والهادي (الضلالي) أطال الله عمره ومتعه بالصحة، مثلما اشتهرت مدينة بحري بالمرحوم عوض دكام! ولهؤلاء دور مشهود في إسعاد الناس، وإدخال السرور إلى قلوب من جار عليهم الزمان وحكَّام السوء، وذلك من خلال النكات والطرائف التي تنسب إليهم حتى لو لم يكونوا هم مصدرها! وبعض هؤلاء قد يكون معروفاً أكثر وسط قطاع بعينه من الناس. ففي مجال الرياضة، مثلاً، يعرف أهل الخرطوم المرحوم الخزين الذي طبقت شهرته الآفاق، والذي درج على التعليق علي مباريات (ساحة الديوم الشعبية) و(ليق) الخرطوم بمكبر الصوت الذي لا يكاد يفارقه. كما كان أهل أمدرمان القديمة يعرفون المرحوم خريستو مشجع (نادي بيت المال) الذي يحلو له ان يتقدم اللاعبين عند نزولهم إلى أرض الملعب (بدار الرياضة) بأمدرمان. وفي مجال الفن سطع في سماء حفلات الخرطوم، خلال العقد الأخير من القرن الماضي، نجم أحد تلك الرموز من أبناء (الصحافة) مربع/29، وهو علوب دهب صاحب الحضور الدائم في مناسبات الأعراس والحفلات العامة بأندية الخرطوم. يعرفه، بوجه خاص، أهل (الصحافة) و(الامتداد) و(السجانة) و(الديوم) و(الخرطوم 2 و3). وقد اشتهر برقص هو أقرب الي تمارين الجمباز! يؤديه بإخلاص وتركيز شديدين، وعندما يندمج فيه لا يأبه بأي شىء حوله، وما أن تمر دقائق علي نزوله الساحة، التي عادة ما يتخيَّر فيها ركنا قصياً، إلا ويصبح هو محط الأنظار, وكان، بعد ان يؤدي وصلة الرقص، يتجه صوب الفنان ليحييه تحية خاصة فصار صديقاً لكل الفنانين الكبار.
أربعة أعوام، منذ خروجي من السودان، فصلتني عن هذه التفاصيل البسيطة الجميلة في (أرض النيلين)، وقد كنّا شهوداً علي بدايات ظاهرة علوب، بالذات، ونحن في سني دراستنا الجامعية، والبلاد، آنذاك، رهينة محبس ما أطلقت عليه السلطة (الثوابت الحضارية)، والتي لا تعدو أن تكون مجرد مجموعة (محرمات) و(محظورات) تم تشريعها من زاوية النظر (الوضعية) الخاصة لـ (حزب الإسلامويين) وحدهم دون بقية مسلمي السودان الذين قاوموها بإيجاد متنفسات ومخارج عبقرية بريئة يروِّحون بها عن أنفسهم من ضيق العسف والكبت، ساعة بعد ساعة، وكان علوب أحدها، متعه الله بالصحة والعافية.
الأحد :
بدعوة من جمعية الدراسات العليا بمدرسة الدراسات الدولية بجامعة دنفر، شاركت اليوم في حلقة نقاش حول تداعيات قضية الرسوم الكاريكاتورية التي أساءت لنبي الاسلام (ص). وفي حديثي أشرت بداية الي ثلاثة أمور اعتقدت في أهميتها لأجل فهم أعمق للموضوع. أولها هو أنه غير مسموح في المبادىء الاسلامية برسم أو نحت صورة تمثيلية تخيلية للرسول الكريم أو صحابته الأجلاء, وثانيها أن المسلمين لا يقبلون السخرية من الرسل والانبياء، جميعهم دون استثناء, وثالثتها أن حرية التعبير في الاسلام لا تعني، إطلاقاً، المساس بـ(المقدس) بطريقة تستفز المشاعر مهما كان غرض الرسالة المراد إيصالها.
هذه الأمور الثلاثة تخالف جذرياً التجربة الحضارية الغربية بشأن العلاقة بـ(المقدس) عموما وبالديانة المسيحية علي وجه التخصيص. ففي الغرب مسموح برسم الصور ونحت التماثيل التي تجسّد السيد المسيح ومريم العذراء وملاك الرب. والسخرية من الأديان والرسل متأصلة في الثقافة الغربية (كتابات فولتير علي سبيل المثال) منذ أمد بعيد. أما حرية التعبير فلا يحدها (المقدس) بأي شكل من الأشكال، فهي، في جذورها الأولى، ولدت في خضم الصراع مع هذا (المقدس)، ولذلك فأنه لا يُكترث له كثيراً. هذه الاختلافات الأساسية في البنى الثقافية تتطلب قدراً كبيراً من النظر المتعمق، خصوصاً في الظرف العالمي الراهن الذي يتميز بغير القليل من انعدام الثقة، والاحتكاكات بين العالمين المتمايزين، في ما أصبح يُعرف بقضايا الارهاب والمواجهات العسكرية في أكثر من ميدان.
وقلت أيضاً إن صور التظاهرات العنيفة في العالم الاسلامي وما تبعها من تصعيد أوروبي رافض للاعتذار عما جاء في تلك الرسومات لا يمكن فهمه إلا في أطار الفهم الصحيح لهذا التباين الثقافي بين هذين العالمين. فالمسلمين يعتبرونها إساءة تتطلب الاعتذار من وجهة نظرهم، ولهم الحق في ذلك، بينما يعتبرها الغرب ضغوطاً تشكل مدخلاً لإلغاء حرية التعبير غير المحدودة، والتي هي جزء أصيل في تكوين طريقته في الحياة, ولذلك فهو لن يقدم أية تنازلات في هذا الاتجاه, وأشرت كذلك الي أن ما كتبه صمويل هنتنجتون عن (صراع الحضارات) لا يفسِّر ما يجري الآن بين العالمين الاسلامي والغربي، لأن المسئول عن هذه الاحتكاكات هو عناصر قليلة في كلا العالمين، ولذا فإن الصراع بينهما ليس حتمياً، بل من الممكن تلافيه بمدِّ جسور التفاهم، الأمر الذي يجب أن تعكف على إنجازه جهود المفكرين والعلماء وأهل السياسة هنا وهناك.
الإثنين :
إستمعت اليوم الى حوار ابداعي شائق بالاذاعة العامة عن مقاربة عمق التعبيرين الناجمين عن مشاعر (الحزن) من ناحية, و مشاعر (السعادة) من ناحية أخرى, وأثرهما في النفس البشرية. وقد أجمع المتحدثون علي أن التعبير الناجم عن (الحزن) أقوى أثراً، وأشد خطراً، في نفس المتلقي، وضربوا عدة أمثلة من مختلف ضروب الفن، كالغناء والشعر والموسيقى والمسرح.
قادني ذلك للتأمل في غنائنا السوداني، وتحديداً ما نطلق عليه غناء (الشجن) أو (الحزن النبيل)، وهو غناء نابع من تجارب إنسانية ترتبط بمواقف (حزينة) في حياة المبدع الشاعر. وكان أول من خطر علي بالي هو الشاعر المرحوم حسن أبو العلا، وأغانيه التي صدح بها أحمد المصطفي وسيد خليفة. وهي أغاني تطرب من حيث تدفع إلى التأمل في ما وراء الكلمات من ظلال المعاني العميقة النابعة من أحاسيس شديدة الصدق والواقعية وليست محض تهويمات خيالية ، ودونك قول ذلك المبدع مما لحَّن وغنى سيد خليفة :
"أمسِي مضَى بينَ التحسُّر والأنينْ/ ووسادتِي بللتها بالدَّمع .. والدَّمع السخينْ/ مع تباشير الصَّباح وبَسمةِ الفجر الأمينْ/ غنَّيتُ مثلَ الطير فرحاً في رياض العاشقينْ/ تسري النسائمُ عذبة وأنا أهيمُ بلا ملالْ/ وتقودني الآمالُ في دنيا المباهِج والخيالْ/ وهناك أرقدُ في الرِّمالْ .. ولا أرى غير الرِّمالْ"!
----------------------------------------
في شأن الروزنامة
دبي في أربع بقين لفبراير 2006
العزيز البابكر :
التحايا لك والشكر والله نسأله أن يمددك بفيء دفيء وأنت في أصقاعك النائية القصية :
إستمتعت صباحاً وانا أطلُّ على البريد الإلكتروني فوجدت صيداً ثميناً فيه الكثير مما يُذهب الكدر ويجلب السرور ولعل أول هذا الكثير أنك أذهبت عني خبث السياسة وخبائث أهلها فوالله فالق الحب والنوى لقد سألت الله بأن يتوب علىَّ منها بأكثر مما ناشدته إقلاعي عن التدخين الذي أفلحت فيه بعد تعب ورهق ونصب !!! هذا مع فارق أن التدخين يبدو لمدمنه مخرجاً من أزمة في بدايته قبل أن يتحول لأزمة في نفسه بينما السياسة (لا سيما ما اقترن منها بأهلك الاتحاديين) كلها رهق ونصب في مبتدئها وخبرها معا !!
أعجبتني روح السياحة الفكرية في الروزنامة وقد ألقيت فيها بكل أفخاخ المثقفين!!! .... كل فخ فيها قمين بعشرة ممن يدعون المعرفة من أمثالنا !!!...ولقد أحسنت صنعاً بإحالة موقع الكرمل حيث درويش كما أصبتني في مقتلين بالمتنبي وصالح عبد السيد.
كسرة :
بحديثك عن "وجه القمر سافر" تذكرت أيضاً "الناعسات عيونن" وهذه من الصواعق الراجمة!!..الشاهد معي إن أبا صلاح قد باعهما لعمنا مسعد حنفي (أو هكذا علمنا ...وتذكر أن هاتين الأغنيتين مسجلتان بالإذاعة بإسم المرحوم مسعد حنفي وقد أثبت ذلك في الرحيل!)... حمل مسعد حنفي القصيدة "الناعسات عيونن" لعوض شمبات (وكلهم من أهل بحري) لما قرأ القصيدة لعوض شمبات صاح البلبل الغريد دون أن يشعر "دا يمين ما كلامك .. يمين دا كلام النصراني: يقصد أبو صلاح)...رحم الله أبا صلاح ومسعد حنفي وعوض شمبات.
إستعدال:
تقديمك لعبيد عبد الرحمن سرَّني جداً فعبيد جاد علينا بالعديد من الدُرر الزاهية وله مفردات خاصة كما له مطالع حسان ..كل هذا يضعه ضمن ركب الرواد ولكن لا يسلمه قياد الشعر الغنائي الحقيبي! هذه عُقدَ لوائها لصالح عبد السيد وغير بعيد عنه "المقل في شعره" ابراهيم العبادي .. إذا سألتني عن مراتب شعراء الحقيبة لما ترددت في أن أقول أن أبا صلاح هو المتنبي والعبادي هو أبي تمام أما سيد عبد العزيز فهو الأقرب للبحتري ...وهناك أصحاب "الوحائد الجياد" ...أغنية "نعيم الدنيا" لعمر البنا هي معلقة الحقيبة المذهبة وإذا سمعتها بصوت العبقري أبي داؤد فاعلم أن السعادة لديك قد اكتملت أركانها وكذلك الأمر مع "نسايم الليل" !
فيما يتعلق بتاريخ المدن : لدى مقال عن مدينة الخرطوم بحري ..ظللت أكتب فيه لمدة أربع سنوات ! كتبت أكثر من ثلاث أرباع ما أود في ثلاثة أيام ثم حرن القلم...من بواعث المقال كانت وفاة سليمان فارس عبقري الكرة السودانية وأحد رموز مدينة بحري ...لا أدري ..حاولت مرتين أن أكملها وفشلت ..لعل طول الجرح يغري بالتناسي كما قال عبد الصبور .... من أطياف ما ورد فيها المقاربة بين الأفراد والجغرافيا على مستوى العالم ...من أيزيبيو والبرتغال وموزمبيق ومارادونا والفريدو دي ستيفانو والأرجنتين ...أرجو أن أرجع لذلك المقال فلقد كتبته بمحبة عظيمة.
أعجبني نشاطك في المحافل الجامعية ولن تنل منه سوى الخير العميم فكراً وقدرة على التعامل مع القضايا العامة.
البابكر :
هذا رد فعل سريع على كتابك الجميل عسى أن أعود إليك في بعض وقت أوفر وفكر أكثر ترتيباً
ولك الود
محمد عثمان الجعلي

 

آراء