حينما عدت قبل سنين الى القرية -أم دقائق-على مفارق اللقاء والافتراق تربة ومساقطا للمياة واشجارا بين السافنا الفقيرة والغنية على الحدود التي تفصل بين "الرهود" و"القيزان"في شمال كردفان - تحلقت حول من تبقى من قدماء اهلي واسترجعت مع الاخوان وأحباب الصبا الباكر وزملاء المدرسة الاولية الذين ما زالوا ينازلون نوازل السودان التي ليس لها نهاية بسيوف صبرهم ومضاء عزائمهم استرجعنا اخبار البلد تلك التي لاتسر ولها عدد يزداد باضطراد مع كل رقم جديد يضاف والاخرى البهيجة وهي جد قليلة. ومهما بكن من أمر المزعجات من الليالي فان الخبر الاول غير السار فان تبلدية "ودجانو" الشامخة ذات الفروع والعروق والثمار التي لا تتخلى عنها خضرتها صيفا وشتاء ورشاشا وخريفا ولا تميل مع الريح متى هبت مكفهرة فقد هوت من اسفل الى اعلى فزلزلت عرصاتها زلزالها واستبان وسرى النبأ الفاجع في لحظة مصرعها بدوي جلل شق طبال الاذان وأخترق كل ارجاء منطقة أم "جقرو" الواسعة التي تمتد من ديم ابوزبد الى أم بدة وام دفيس والمشابك شمالا ومن قرى ابوقلب شرقا الى طيبة وابوجفالة غربا. ولما لم لم يكن بين كل الاحياء من شهد أو سمع طوال حياته الشخصية أو من الذين غادروا الى باطن الارض ان ثمة شجرة من التلبدي قد خرت ميتة فقد داخلهم احساس عميق بالتشاؤم وانهم لا يبتعدون كثيرا من محطة نهاية عالمهم المحفوف بالمكارة أما ذلك الصوت الداوي الذي صدر من التبلدية في ثنايا ارتجاجها فسقوطها فقد كان اعلانا بخروج روح هذه الشجرة التي تعد من معالم هوية كل القرى من حولها. -2- التجسيد والترميز
رغم انتشار اشجار التبلدي في شرق ووسط كردفان وبعض اجزاء السودان وغرب وشرق افريقيا الا أن لها وجودا نباتيا كثيفا وذاتية لها تفرد واعتبار تتخطى وجاهة الاشجار الكبرى التي تجاورها في السافنا الوسيطة كالحراز والطلح والسمر والصباغ والخروب والخشخاش والهشاب والنبق (السدر) والحميض والشحيط وابوليلي والعريب والدوم والدليب والهبيل والدروت والعرد والغبيش. وللتبلدي ايضا حضور يرقى الى اعتاب التقدير الخاص والتجلة سيما في غرب كردفان من الدودية شرقا الى مرتفعات الشريف كباشي والزرنخ وام ضبية غربا وعلى وجة الدقة في دار حمر حيث استقى سكان تلك الديار من تلك الشجرة المتفردة اسمهم وانتماءهم المكاني –اذ يطلقون عليها اسم الحمرة (المفرد للشجرة ألْحَمَرَة- جمع الشجرألْحَمَرَ- مفرد حَمَرِي-الجمع: حَمَرْ-) الجدير بالذكر أن سكان دار حمر الذين اقرب في تشكلهم الاجتماعي الى القومية منهم الى القبيلة لا يتداولون مفردة تبلدي وتبلدية كما ترد في لسان قاطني المدن ولكن كما اشرنا انفا يستخدمون الحمرة والحمرللشجر وللبشر حمري وحمر أما ذلك الخطأ الشائع لدى الذين يخلطون في النطق والدلالة بين الحمري والحمراوي وحمر والحمر بضم الحاء والميم فلا يقترفه الحمري والحمراوي. يبدو أن للشعوب في تصاوريها وترميزها لذاتها توق وعجائب وشئؤون فقد توله الانجليز قديما بالاسد فتسمت وترمزت به " ريتشارد قلب الاسد" وعلمت به صناعاتها المعدنية الاثيرة أما الامبراطور الاثيوبي هيلاسلاسي سليل الماجدة ملكة سبأ وسليمان بن داوود صاحب الهيكل ملك الانس والجن فقد اضحى اسد يهوذا المظفر بمرسوم ملكي مقدس وليس لغيره من رعيته ومن في الارض جميعا مشاركته في ذلك اللقب " ملك الملوك –المختار من الرب –اسد يهوذا المظفر". واذا كان الاوربيون يتفاؤلون بالضفدعة وسريالية مقدماتها وعجزها في جلستها القرفصائية ويتشاءمون بالطاووس وخيلاء ذيله فسيفسائي الالوان فقد كان الاخير رمزا لعرش امبراطور ايران محمد رضا بهلوي الذي ينتهي نسبه الى ال البيت النبوي . قد فضل من جانبهم الصينيون التدامج في الشخصية والترويع مع التنين ذي الاذرع التي تشبة شجر الشحيط الشوكي الذي يبث الرعب في مشاعر كثير من سكان كوكب الارض. قد عثرت بعض طوائف شبة القارة الهندية في البقرة تجسدا للخصوبة لا تتوفر لغيرها فرفعتها الى شماريخ القداسة ويبدو أن بعض الباحثين وفي ذات شبة القارة الهندية عن مصادر اكثر ثراء وترميزا للخصوبة فتراءت لها في العضو التناسلي للانثى فتباهلت وسجدت واستغرقت تعبدا في تعظيم ذلك العضو بوصفه ينبوع الحياة الدافق. ولما كان لبعض الحكام النرجسيين في عشقهم وسجودهم تحت اقدام ذواتهم مذاهب فقد كان اللقب الرسمي للرئيس الكنغولي جوزيف ديزي موبوتو سي سيكو الذي استولى على كل عائدات مناجم الماس والزمرد في ذلك الجزء من العالم بوصفها ملكية خاصة له - وفقا للمرسوم الرئاسي " Mobutu Sese Seko Kuku Ngbendu wa Za Banga مو بوتو سييكو كوكو نقبنقا وازا " وتعني ترجمتها الحرفية –الديك الذي لم يترك دجاجة دون ان يعتلي ظهرها. لم يتخلف السودانيون بعد نيلهم الاستقلال كثيرا عن الانجليز والاثيوبوبيين والايرانيين والهنود والصيننيين والكنغوليين في مضمار الترميز للذات بالحيوان والطائر فاختاروا رمزا لهم بعد تقليب غير سطحي لوجهات النظر –وحيد القرن (الكركدن -الخرتيت ) الذي لا يقهر ولا وجود له في غير أفريقيا السودانية وحينما ولغ نظام 17 نوفمبر(1958 -1964 ) جرح الكردن كتب محمد المكي ابراهيم شعرا محذرا : ايها الوالغ جرح الكركدن أن غرك تهويم الدجن فان الاحرار قد خاطوا الكفن . لم يتمتع السودانيون طويلا بالخرتيت اذ هب من ينبههم أن هذا الذي ينبت قرنه بين عينية لصيقا بجبهته يرمز للرعونة والبلاهة. يختلف سكان ديار شجرة التبلدي –دار حمر-عن كل اولئك التجسيميين فلم يرفعوا مقامها الى مصاف الالوهية ولم يولوا وجوههم شطرها ولم يتقربوا بها زلفى ولكنهم تعرفوا على محامدها الشجرية عبر خواصها الطبيعية فجعلوا من عرصاتها احواضا وسدودا في الخربف ومن تجاويفها خزانا للماء ومن ثمارها عصيرا ودواء لاوجاع المعدة ومن اوراقها مقبلات ومشهيات للوجبة الرئيسية ومن تلافيف اغصانها مصدات للرياح وظلالا باردة في الهواجر ومن لحائها خيوطا وحبالا . ومن عجائب سكان ديار التبلدي أن لم يسمع قط بسارق لمخزون مائها رغم ندرته في الصيف الحارق. تمثل وتجسد شجرة التبلدي للحمري البذل الدائم والعطاء المطلق من الام الطبيعة لانسان تلك الديار الذي تضافرت جهود اليريطانيين والذين ال اليهم الاستقلال لاهماله والفرار من مطالبه رغم انتاجه الوفير من الثروة الحيوانية والمحاصيل والصناعات اليدوية. -3- عبد الماجد بوب شجرة التبلدي التي هوت تدافعت الى وجداني وذهني وقائع وصور أشجار التبلدي واحباب واصدقاء ومجالس وحوارات بلغات ومداخل ومخارج شتى عبرت بها وعليها كالهارب من نفسه من ابوزبد الى النهود والفاشر الى الخرطوم الى براغ ثم الى درسدن ولايبزج وهالا - برق امامي وقفز صديق الاسد في لايبزج يمازح خليل الدابي القادم حديثا من برلين الغربية "يا خلي" اين المسيح –والمسيح هو اللقب الرسمي لماجد بوب في المانيا لصبرة وسماحته وتسامحه وسمعت صديقا لعبد الماجد بوب من مالي يناديه - ما جيدو بوووب -بصوت منغم –فقد كان بوب صديقا له مقام في اوساط طلاب غرب افريقيا . تدافعت كل تلك الصور كالرياح القارية في الصحراء الكبرى فاقتلعتني من ليدز وطارت ودارت بي في مجرة لا اراها ولا احسها فاصبحت انسانا معلقا في الهواء حدث كل ذلك بغتة دفعة واحدة حينما دق في يافوخي وصدري الصديع : مات عبدالماجد بوب فتساءلت :هل حقا ما عاد ذلك النهر الماجد بوب ينساب هادئا؟ وهل تجف الانهار ؟هل حقا تهاوت كبرى اشجار الفكر السياسي والفلسفي في السودان؟هل خرت شجرة التبلدي السامقة؟ سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم … فتخرموا ولكل جنب مصرع -4- نهر الدون الهادئ
قد يفضل بعد تأمل أصيل القادم من المانيا والنمسا والمجر وسلوفاكيا أو من استغرقه روائي روسيا الكبير ميخائيل شلوخوف بملحمته الدون الهادئ أوهادئا ينساب الدون وقد تعرف عن قرب على عبدالماجد محمد علي بوب أن يصفه بنهر الدون الهادئ للقواسم المشتركة بينهما ولكن القادم من أم دقائق وود ليونه وود حمد وابوقيد فيرى أن الماجد بوب يقاسم شجر التبلدي في صموده اذ يصد دون أن يهتز هوج الرياح ويخضر في كل الفصول –الوابل منها والصابن-ويطعم ويسقي ويحمي الانسان والحيوان والطير-يؤدي شجر التبلدي كل تلك الخدمات والوظائف والعطايا بصبر وحنو بالغ ورحابة ظل . -5- الماجد بوب : تدبير العقل الفلسفي تكن الثقافة الغربية للفلسفة تقديرا عاليا اذ ان الاباء المؤسسين للعلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية في اليونان القديمة كطاليس-واكسوفانيس-وزينون الايلي وهراقليطس وديموقريطس وليوسيبس وانكساكوراس وسقراط وافلاطون وارسطو وابيقور هم من رفعوا قواعد الفلسفة وفصلوا بين العلم والخرافات والاساطير وعلى نقيض ذلك مخرت سفينة الثقافة العربية الاسلامية حيث استقت اصولها من الدين أو من تقاليد معارف المجتمعات البدوية السابقة للاسلام فجفلت ونفرت من الفكر الفلسفي وتمرأى الفلاسفة ومقولاتهم ومنطقهم في مراتها خصوما يحملون معاول هدمها لذا حرم الامام النواوي وابن الصلاح دراسة الفلسفة ووصم ايوحامد الغزالي عامة الفلاسفة كالكندي والفارابي وابن سينا بالكفر والالحاد وكتب فصلا في كتابه المنقذ من الضلال بعنوان: مداخل السفسطة وجحد العلوم ثم اضافت عصور الانحطاط بعد انهيار الحضارة العربية الاسلامية طينا وهبودا على ذلك الوحل الظاعن والمقيم ولم يشأ خبراء التعليم الذي نشأ على يد الدولة الاستعمارية أن يتجاوز حدود ادارتها السياسية لتلك البلاد وسقطت دولة ما بعد الاستعمار في جب التبعية والانتقائية والتلفيقية والايدولوجية والاصولية في سياستها التعليمية والثقافية وانبهمت المسالك أمام المتعلمين والمثقفين وكثيرا ما وضعوا العربة امام الحصان في مسارهم فلم ير بعضهم في الفلسفة سوى السفة وغث الحديث والثرثرة والتنطع واللت والعجن والمغالطات ثم لعبت المصادفات والضرورات دورا أن يتسنى لبعض المثقفين في السودان ومنهم عبدالماجد محمد علي بوب أن يتجاوز بايجابية حواجز التعليم الكولنيالي والتلفيقي والاصولي ليتلقى اصول الفلسفة اليونانية الرومانية –القرون الوسطي الاوربية -المنطق –نشأة الفلسفة الاوروبية الحديثة-الفرنسية والانجليزية والالمانية من اصولها في عقر دارها حيث ازدهر أمانويل كانت وفختة وشيلر وهيجل وفيورباخ وماركس ولما لم يكن الماجد بوب في بناء نسيج شخصيته الاساس أحمقا أو عفويا أو فوضويا او اصوليا يساريا فقد جلس في شخصه الفكر الفلسفي في مقعد العقل الذي يناسبه. فقدت العقلانية في المواقف وفي البحث برحيل الماجد بوب علما ومنارا . د- عبدالسلام نورالدين