ان المثقف السوداني جبل على ثقافة المغنم (رعويا كان أم مدنيا) التي تتنافى مع مفهوم الاكتساب، فالأخيرة ترتبط ارتباطا عضويا بالأهلية والشفافية والمحاسبية وكافة طرق التصعيد المؤسسي. ميزة التدرج أنه يهيئ للشخص الاكتساب لقيم أخلاقية وفكرية ومهنية تتراكم وتزدهر من خلال ترقية للسلم الوظيفي. أما من يقفذون بالدانة، فهم لا محالة سيسقطون او يرسبون في اول امتحان اخلاقي. سألت المناضل فاروق ابو عيسي عن كيفية التحاق احد البعاعيت الامدرمانيين بالركب المايوي وهو لا يربطه بهم اي رباط ايديولوجي، فقال لي أنه يذكر مقدمه عليه عندما كان سكرتيرا للرئيس بابكر عوض الله حاملا بعض الهدايا وطالبا الدخول علي الرئيس. رفض فاروق ادخاله واعلمه انه لن يدخله ابدا ورفض قبول الهدية منه. خرج البعاتي مهرولا نحو مكتب رئيس الجمهورية للالتقاء ببعض اعضاء مجلس الثورة الذين رحبوا به اذ علموا بعلمه وخبرته -- منها ما هو حقيقي وما هو زائف. الجدير بالذكر ان البعاتي رغم ادعاءاته الديمقراطية لم يسع لإيصال فكره عبر اي قناة مدنية (نقابية كانت او حزبية) من ذاك التاريخ وحتي يومنا هذا.
اذا كان هذا من قبيل ما يحكي فإنني عايشت تجربة لا تكاد تفارق ذاكرتي لما ما فيها من بلاهة، متاهة وما من تحويه من طرفة وقحة. طلب مني والدي ترقب مكالمة من شخص في السعودية وكان ذلك فور اعلان فوز نواب حزب الامة بأغلبية ساحقة، خاصة في دارفور، في الديمقراطية (الدينية) الثالثة. اتصل الرجل وقد بدأ متلهفا لأمر لا أعلمه، وقال لي اذ كان والدي مشغولا، "بلغ دكتور بأنني علي استعداد لقبول اي تكليف يسند الي." علمت من الوالد بعدها أنه وفي اطار الموازنة الحزبية والجهوية كان لابد من تمثيل المساليت في مركز مرموق وقد يكون ذلك المجلس السيادي. الجدير بالذكر أن هذا الشخص ينتمي عرقيا للمساليت لكنه لم يكن يوما جزءا من نسيجهم الاجتماعي والثقافي ولم ينتمي الي حزب الأمة الا من الناحية الوجدانية. يرتجي من شخص مثل هذا أن يرعي المؤسسية (وان لم تنتدبه المؤسسة) التي تضمن تمثيل الاقاليم حسب اوزانها البرلمانية، وأن يحرص علي تفعيل تواصله مع دار المساليت وان عجز عن التمثل بقيمها الشامخة. لقد كان السلطان عبد الرحمن بحر الدين متحفظا جدا ولم يقبله الا علي مضض للأسباب التي ذكرتها أعلاه، ولأن والدي كان مصرا علي الاهلية بمعناها الاكاديمي والعلمي. واذا كان هذا هو التأهيل المطلوب فقد كان الشخص مؤهلا. وهذه في حد ذاتها احدي العلل لأن الرعيل الاول من البرلمانيين والسياسيين كان متواضعا في تعليمه، لكنه باسلا في تمسكه بالقيم السودانية النبيلة.
ان القيادة الطائفية لم تعرف موقع دار المساليت حينها في الخارطة دعك عن شخوصها ورموزها، بيد أنها اكتشفت في هذا المثقف مزدوج التكوين (مصرية وفرنسية) خصالا قلما يجود بها الزمان: فعنده فصاحة دون منطق وتشوف دون جرأة وامتشاق دون حرفة، الأدهى انه يجيد لغات تعينه علي التواصل مع شياطين الانس والجن وقدرة علي التأرجح دونما تلبس بعداوة. لقد اراد الكهنوت الاستعانة بغرباوي جلدا ولونا لكنه غريب عن الغرب في حسم معترك المؤسسية الذي فضح ادعاءات النخبة، فلم يجدوا أفضل من هذا الشخص المزدوج ليعطي افكهم شرعية وقتية. ان الشخص الذي أقسم بالأمس أن يكون عونا للإصلاحيين في معركتهم لحسم "اسلوب الاشارة" بات يستبطن العداوة، ومن تلكأت الطائفية في تزكيته يوما أصبحت تتلهف للقائه. بل ان من جاءت به الديمقراطية لم يصمد يوما للدفاع عنها. يحمد لهذا الشخص أنه ظل عضوا في حزب الامة وبقي محافظا علي ارتباطه الاجتماعي بالجماعة، مقارنة بالتيجاني سيسي الذي تنكر للحزب سياسيا واجتماعيا هذا الأخير أيضا من ترشيحات الدكتور آدم مادبو التي ارتكزت علي الموازنة الجهوية وارتكزت علي المؤهل العلمي والاكاديمي). بل بات أداة في يد النخب المركزية في سعيها لتجيير ارادة الفور ومحو أثار درافور الوجدانية والمكانية. مما حدا بالبعض للتعرض للأخير بالغمز في قناة قبيلته، خاصة أنه قدم من خانة المحاصصة الاثنية. وقد علق صلاح شعيب في مقالته "سخافة التهجم علي قبائل النشطاء السياسيين" مستنكرا اسلوب الاغتيال المعنوي وداعيا الي اتخاذ اساليب أكثر تحضرا اسوة بالغربيين الذين انتفضوا مؤخرا مدافعين عن المهاجرين والمسلمين من زاوية انسانية وغير دينية. ما يهمنا هو نفي الانتهازية ومغالبة ثقافة المكسب، بل التشديد علي الاكتساب.
قد يتفهم المرء بؤس المثقف السوداني وهرولته للالتحاق بعسكر جهلة ومجرمين (أو طائفين مدعين ومارقين) كي يحقق غاية آنية أو مغنم، لكنه لا يتقبل تملق العامة وتحينها فرصة الالتقاء بالمسؤولين الحكوميين في المناسبات الاجتماعية، خاصة أنه لا توجد مصلحة يجنونها من قادة نرجسيين وحاقدين – هم لا يريدون ان يغتنوا فقط، إنما أيضا أن يفتقر الاخرون. وهل ينسي احد مقولة الزبير محمد صالح لخاصته "نحن جينا عشان الفوق يبقي تحت والتحت يبقي فوق." (الفوق ما زال فوق بقيمه وأخلاقه والتحت نزل إلي أسفل سافلين بحقده وغلوائه والانقاذ لم تستطع استمالة إلا من هم علي شاكلتها). بالرغم عن ذلك فإنهم يهرعون لإلقاء التحية علي المتعافي مثلا، وهم يمقتونه في سرهم، بل إن أحدهم قال لي بعد أن ألقي التحية عليه وعطف راجعا "لم أزل أشتم رائحة الطايوق فيه." هو إذ يقول ذلك إنما يريد إن يهمز المتعافي في صنعة والده، علما بأن الجزارة بسالة، بل هي أرقي محطة في حياة المتعافي لأن مقصود والده (واي والد هميم) أن يعلم ابنه شرف التكسب وعدم الاعتماد علي الاخرين. ليس العلة في الاب البيولوجي، علة الإنقاذيين في "الاب الروحي" الذي حل لجنة المشتريات في المالية في اليوم الاول من الانقاذ، الغي هيئة الاشغال والنقل الميكانيكي كجهات ضبط مهني ومالي ومن حينها والاخوان يتفننون في أكل المال العام.
إن الانقاذ لم تستحدث هذه العلل لأنها كانت وما زالت متأصلة سلوكيا ومؤسسيا وبنويا، لكنها لربما استعجلت ولادة الجنين الذي كان مشوها. وإذ تسب النخب الحاكم فهي تسبه لأنه لم يشركها في المغنم، لكنها لا تعبأ بمشروعية الاكتساب. كثير ممن يسبون الإنقاذ لا يسبونها منطلقين من موقف أخلاقي، إنما من واقع انتهازي: ليه ماخليتونا ناكل معاكم؟ فبعضا من أبناء العاصمة المثلثة كانوا يستخرجون تصاديق -- بحكم صلاتهم الحميمة بالشلل الحاكمة آنذاك -- تغنيهم عن الكد والجهد لشهور، جاءت الإنقاذ فاستحوذت على الغلة ولم تترك لهم بصلة. فهم إذن عندما ينتقدونها لا يفعلون ذلك كرها لنموذج الدولة الكولونيالية الريعية، إنما بغضا لسياسة الإقصاء التي حرمت "أولاد البيوت" وميزت "أولاد الشوارع" وكلاهما عاطل ليس له مساهمة تجاه المجتمع والإنسانية، إنما استغلالاً للغلابة في الريف، والذين من عجب يتعالون عليهم.
حتي هؤلاء "الغلابة" لا يعرفون تعيين مصلحتهم إلا انتهازيا، لأن ثقافة المغنم عندهم أرسخ. لم تستنكر "القبائل العربية" يوم أن اجتمعت في نيالا وذلك قبل سنوات مضت فكرة "الدعم السريع" مبدئيا إنما انتهازيا لزعمهم أن الدولة حابت الرزيقات أو أنها أعطتهم نصيب الاسد. فقال قائلهم أنه يلزم عقد تحالف قبلي عربي يرد القبيلة الاخيرة الي صوابها (واي صواب هذا فالقبيلة مختطفة مثلها مثل السودان واحزابه ودينه وكينونته وإسلامه وتاريخه وتراثه ومجده وإبائه!). كادت الفكرة أن تنجح لولا حصافة أحد الاعيان الذي رأي في ذلك إضعاف لمكون أساسي، كما أن إتباع هذه الخطوة وإن كتب لها النجاح لا يرجي منها تحقيق الغاية المنشودة الا وهي الشركة في الغنيمة وليس إضاعتها. لا أستبعد استبقاء هذه الفكرة كخطة يملك جهاز الامن حق تفعيلها -- وعبر نفس الاليات -- في الوقت المناسب. لأنهم وإن كانوا لا يرون أن قيم البادية قيم منافسة للمدنية (فجلهم رعاة وبدو من الطبقة السفلي)، فإنهم يوقنون بأنها قيم منافسة نشأت في وحل غير محمي فيمكن لها أن تنطلق مظهرة وحشية غريزية اذا ما سنح لها في اي وقت العيش خارج إكراهات القانون.
لا يختلف موقف النخب الريفية في هذا الصدد عن موقف النخب المركزية، فالكهنوت لم يعترض يوم أن اعترض علي "الدعم السريع" علي مبدأ "وجود ميليشيا تعمل خارج إطار الشرعية المؤسسية" (علي حد تعبيره)، فقد سبق له أن دخل الخرطوم في 1976 أو درَج أمامه جيش من ذات المكونات العرقية، لكنه اعترض كونه الوكيل المعتمد أو السمسار الذي من صميم مهامه المرافعة عن "قوى الريف السوداني." أما وقد ازاحوه وصاروا يتعاملون مباشرة مع ذوي الشأن فهذا الأمر مذموم لأنه حرمه من مورد محموم. من هاهنا نفهم الخلل الذي حدث في المعادلة الحكمية أو الخطل الذ أصاب "معادلة تقسيم الغنائم." لا يحسد الكهنوت (وأتباعه من النخب المركزية والريفية المتملقة والوقحة ممن كان قرنق يطلق عليهم كفاحا واستحقاقا لقب "مندكورو ……….. ")، لأنه منوط به أن يقف مع الزرقة (الجبهة الثورية)، يتكتم علي العرب (الدعم السريع) فهو لن يجرؤ علي التكلم عنهم بعد اليوم وقد عاين بنفسه وأحس، ويوهم النخب المركزية بأنه الدرقة التي يجب أن يحتموا بها حال غشيانهم بقوي منفلتة من الغرابة (زرقة وعرب).
لقد كان موقف النخب المركزية دوما وأبدا موقفا موقف انتهازيا لأنهم يحسون -- لمجرد الحديث عن أهمية الاصلاحات البنيوية للاقتصاد السوداني -- أن الأمر فيه شركة أو شراكة، فعبدالرحيم حمدي الذي تروج له S24 علي أنه عميد الاقتصاد السوداني هو عبارة عن محاسب غير محترف لكنه يجيد جدا مهمة التعليق الصحفي (وبلد ما فيها تمساح يقدل فيها الورل). لا ينفك هذا المحاسب الذي طبق سياسات البنك الدولي بحرفية أذهلت مبتكريها متسببا في إفقار أغلبية السكان يتحدث عن الاقتصاد إلا وهو يعني التجارة حاصرا إياها في خانة الخدمات. اليس من العجز أن يعتمد بلد مثل السودان فيه 400 الف فدان علي ما يجنيه من الاتصالات؟ هل من المعقول التعويل علي القطاع المروي في بلد يعتمد غالبية سكانه علي القطاع المطري التقليدي. يعقل، لأن حمدي وزمرته هم سماسرة وليس رجال دولة.
لو أن غلبنا منطق المؤسساتية القائل بأن الصفات البشرية تتساكن برمتها في المجتمع وتتقاطع عند الأشخاص حسب إكراهات المؤسسة ومحفزاتها لرأينا بأن المؤسسة الغربية رغم براعتها في انتخاب الراقي والحميد من الصفات قد فشلت في ثقل هذه الانسان مدنيا وحضاريا. لقد تعمقت فيه ثقافة المغنم حتي بات يشرب الخمر نهارا وفي إثناء الاسبوع (الامر الذي لا تفعله الفرنجة مطلقا)، فلا يكاد يستذوق الويسكي إلا بطعم العرقي علما بأن الفرق في نسبة تركيز الكحول تقريبا 20% (الويسكي 47% والعرقي 67%)، ولا يستلذ إلا إذا تفل علي شماله طاردا للشيطان ومستعيذا من أفعاله!
لعل السودانيين قد وجدوا فرصتهم مؤخرا للنيل من الكيزان عندما برزت حادثة الدبلوماسي، لكنهم لم يكلفوا انفسهم مشقة البحث في مشكلاتنا مع الجنس. إنهم يخشون المكاشفة خاصة تلك التي تفضح الذات. المشكلة ليس مشكلة الدبلوماسي (راجع مقالتي "ثلاثية الجنس" في سودانيل)؛ المشكلة مشكلتنا جميعا لأننا قدمنا من مجتمعات لا يوجد فيه مجال لأنسنة العلاقة بين الجنسين. حتي في هذا الفضاء الامريكي المؤنسن تتعرض امرأة في كل 6 دقائق لتحرش من النوع الثقيل ومن كل الفئات، سائق طالب دبلوماسي، رجل دولة، بيد أن الغربيين يقرون بإشكالاتهم ويعملون على معالجتها علميا، أمَّا نحن فنكتفي بمجرد الإنكار -- ننكر أو نرمي باللائمة على الضحية. سئل أحد رجال الدول الفاشلة عن حادثة نيويورك فقال لهم، "تلقاها كانت لابسة قصير." وهو لا يدري أن الغربيين يعتبرون أن مجرد إطالة النظر فيه خرق للفضاء المعنوي للسيدة ولا ينتظرون أن تتعدي عليها حسيا أو "تكابسها" بلغة الشماسة. وإذا قبلنا هذا الافتراض علي مضض، ماذا عن الأطفال الذين يتعرضون للتحرش في السودان –طفل في كل 6 دقائق، هذا إذا استثنينا الاغتصاب باعتباره سلوك إجرامي أكثر من كونه انحرافي؟
بمثل هذه البلاهة رفضت الدولة قبل سنوات دعم المنظمات الدولية التي حذرت من انتشار الإيدز في السودان لادعائها أننا مجتمع عفيف (الواقع أننا نمارس الأخيرة بدافع السترة -- درجة من درجات العافية -- وليس الفضيلة كما يقول الأستاذ محمود محمد طه). إشكال الدولة الدينية أنها ترفض مثل هذا الإقرار لأنه يطعن في شرعيتها، أما الدولة العلمانية/العقلانية فتتعامل بموضوعية وعلمية مع هذه الأمور -- موضوعية تجعلها تبرع في خدمة المواطن الذي تتولى أمره في الدنيا، ولا تملك له خلاصا في الأخرة. النتيجة أن الدعم المرصود وجه لأوغندا ولبعض الدول المجاورة فانخفضت نسبة الإيدز فيها وهي لم تفتأ ترتفع في السودان.
وإذ يبرح المرء (دبلوماسي كان أو سائق تاكسي) ساحة بلاده البئيسة التي تحتل الدولة فيها الفضاء العمومي بأكمله، يتوسع فيها المجتمع بنفاقه متمثلا في فقهائه -- واذا شئت بلهائه -- ويتنزل الابوين بتعاليمهم الجامدة، فإنه لا يكاد يوقظ الرقيب الداخلي (أو يكبته) حتي يلجأ "للمداقرة" إذ لا تروغ له "المناورة" رغم إنها أجدى إذا كانت رغبة الشخص الامتاع ومؤانسة. وهل هناك إمتاع ومؤانسة مع سيدات يحسبهنّ جاهلات، فجل ما يتفكرون فيه هو الملايات والذهب والموبايلات وكآفة أنواع السخافات (فهو لم يلتق بعد بالنابهات واذا التقي بهنّ فتعوذه الملكات)؟
دعنا ننتقل من خانة الاخلاق الخاصة الي الاخلاق العامة وإن كان ثمة تلازم بينهما نود أن نستكشفه من خلال تقصينا لحالة السودانيين في المهجر. يعيش الإنسان السوداني في المهجر حالة ضياع، وهو إذ يسعى للنهوض دون أن يكلف نفسه مشقة التفكر في العلة، فإنه يتعثر مرة ومرات ثم يقع، هذه المرة لاهثا التراب. إن القيم التي جئنا بها هي قيم مناقضة للحداثة، بل إنها تسبب كارثة حالة عجزنا عن تفهم الواقع الجديد الذي يقوم علي مبدأ الحقوق والواجبات ولا يقبل بل لا يحتمل مفهوم المغنم. فالمجتمع يتوقع منك عطاءا يوافي منحته. إن بعضا ممن يحصلون على إقامة في أوروبا أو في أمريكا لا تكاد تفارقهم علة الضيافة في المجتمعات السودانية. فالضيف ينظر على أنه غنم مكانا في المضيفة ولا ينظر على أنه أضاع زمانا في الاعتماد على الأخرين، قد يكلفه ضياع هويته وشخصيته الاعتبارية. إذا استكشفت حال السودانيين في المهجر، خاصة أوروبا، فتراهم يتعاملون مع دولة الرعاية الاجتماعية كمغنم، ولا يسعون لتطوير وضعهم المهني والثقافي والإنساني، ومن ثم تحسين أوضاعهم المعيشية، اكتسابا لقيم لولاها لما استطاع الإنسان الأوروبي الحفاظ على هذه المنظومة الاشتراكية العظيمة. إذا كثرت مثل هذه النماذج فإن النظام الرأسمالي نفسه سيتعطل، وستصدق نبوءة ترامب وأمثاله في أننا عاله وليس عونا للمجتمعات الإنسانية.
لا يمكن أن نستخدم الفارق الحضاري سببا وإن كان موجودا لتبرير عللنا الثقافية والمجتمعية، لأن جيراننا من اليوغنديين والكينيين يبدون أفضل هنداما وأعظم التزاما بضوابط الحياة المدنية ونحن يظهر بعضنا بهندام النوم في الاماكن العامة ولا يحسن البعض الاخر الوقوف في الصف. أما الاثيوبيين والإرتيريين فقد انصهروا في المجتمعات الغربية وبرعوا كجاليات ليس فقط كأفراد وأسهموا تطوير اقتصاداتهم من خلال التكوين لجمعيات علمية وطوعية. يكفي أن السودانيون الذين لا يملكون تأمين صحي يذهبون الي العيادات التي يقيمها طوعا الاطباء الاثيوبيين المقيمين في مدينة واشنطن للنظر في شأن ذويهم المرضي أخر الاسبوع. هل هذا من نقص الاطباء السودانيين في واشنطن أم بؤس إرادتهم؟ هل نجح السودانيون يوما في استدامة اي عمل طوعي باستثناء تنظيم الحفلات أو الحوليات في دول المهجر؟ هذا حال من يقيمون في الدول المتحضرة ما بال اولئك الذين يقيمون في الخليج؟ كل ما تعلمه السودانيون في هذه النواحي هو التفاخر والتناحر، جالية تدعمها السفارة وأخري تدعمها المعارضة واخري تائهة في مجالات المجهول. ما هو الهدف الاستراتيجي الأعلى لهذا الدعم؟ لم ادر حتي الان، بيد أنني لم أستجب لأيهم ليقيني أن القوم اذا كانوا خارج البلاد فمهمتهم تقتصر علي تطوير ذواتهم حتي اذا ما رجعوا استفادت منهم بلادهم. لا معني لإضاعة المهنيين وقتهم في الزيارات والتنقل "بأعمدتهم" (محملة بالملاحات والطبايخ المدهنات) وقد كان حري بهم أن يجتمعوا لتصميم مرشد يعينهم في إيصال المعلومة الي زملائهم الذين حبسهم حابس الفيل في السودان.
في مرة من المرات تقدم أخونا ابو القيس (عمدة شيكاغو وأحد أهم أعيانها علي وقتنا في التسعينات) بمقترح لسائقي التاكسي في شيكاغو لكي ينشئوا ورشة ميكانيكية خاص به يصلحوا فيهم سياراتهم فتخفف عليهم الأعباء المالية الباهظة وتدير عليهم ارباحاً قد يجنونها من استثمارهم لعلاقتهم الطيبة مع سائقي السيارات من سائر الجاليات العربية والأفريقية وحتى الإسلامية.
كان أول مقترحا وصله هو عبارة عن رد فعل منفسا للفكرة من أصلها قال له زميلة: "هو انحنا قاعدين هنا لم متين، ما كلها يوم أو يومين." صدق أو لا تصدق، اليومين أصبحت عقدين من ذاك التاريخ. أرمي بهذه القصة إلى الإشارة إلى أن السودانيين -- تأثرا بما لحقهم من أرباك مرحلي ومفاهيمي أعاق إمكانية تجاوزهم الرابطة القبلية -- يمكنهم أن يبرعوا كأفراد، لكنهم لا يفلحوا أن يديروا أمرا يتطلب نجاحه تعزيز الرابطة المدنية. ولذا فهم قد ينجحوا في إدارة واستدامة رابطة قبلية لأبناء المحس أو الزغاوة مثلا، لكنهم لن ينجحوا دون تخطيط في تجاوز الرابطة الأولية (ذات القيم الحميمية التي تغرسها القبيلة) الي الرابطة الأساسية (ذات الأسس المبدئية التي تغتضيها المدنية)؛ فرق بين التلاحم المبدئي والانفعال العاطفي. ذلك كله لا يتعلق بجيناتهم قدر ما يتعلق بحالة التشظي المعنوي الذي أصابهم والأدهى تعويل أنظمتهم كآفة (اجتماعية وسياسية) عليه.
أما ما ندعيه من سبق نقابي فحقيقة يمكن دحضها بأن أعضاء النقابة (القبيلة المهنية) طاردتهم اللعنة فلم يستطيعوا ان يعاينوا الأفق فانخفضوا إلى مستوى صراعاتهم الشخصية التي انحصرت في منافسة الشخصية المركزية أو المحورية وليس تبين الأسس الموضوعية (أو المؤسسية) التي لربما أعانتهم على تحقيق أهدافهم الاستراتيجية. وإذا كان المسيد لا يحل فيه وجود شيخين فلا استبعد أن يكون الحزب الشيوعي هو أول المتآمرين على الشهيد/ عبد الخالق محجوب وغيره من الأفذاذ مثل التيجاني يوسف بشير والمجذوب في شتي مناحي الحياة التي لم تحتمل ثقافة القطيع تفردهم أو خروجهم عن المألوف. نحن امّة تغتال أنبل من فيها وتبقي علي أخسهم. وكلما جاءنا أحد الأنبياء الكذبة بكذبة تبعناه.، فمال بالنا نتحسر؟
auwaab@gmail.com