بين فاروق حمد الله ومحجوب شريف: ما سر اللقاء بينهما في تلك الأمسية؟.

 


 

 


كان ذلك أوان ظهور بوادر خلاف القوى الثورية مع توجهات مايو نهايات العام 1970 ومنتصف العام 1971، كان محجوب شريف قد قدم مع وردي نشيديه اللذين حالما ذاع صيتهما "حارسنا وفارسنا و" في حكاياتنا مايو"، في أحد تلك الأيام جاء لمحجوب بمنزله مبعوث من شخصية نافذة في نظام مايو يطلب أن يقابل محجوب حسب رغبة تلك الشخصية وقد حدد له الزمان والمكان.
لم يكن محجوب شريف حتى ذلك الوقت عضواً بالحزب الشيوعي، كما لم يكن قد دلف بعد لمعترك السياسة ودروبها ـ رغم أنه كان صديقاً لعدد من الشيوعيين خاصة الأدباء والشعراء منهم ـ لقد حدث ذلك بعد اعتقاله الأول في أعقاب هزيمة انقلاب 19 يوليو 1971، حيث قُبل طلب ترشيحه الذي تقدم به ليكون عضواً بالحزب الشيوعي السوداني من داخل ذلك الاعتقال، فخرج من تجربة الاعتقال الأولى شيوعياً ناضجاً، كما في شعره الثوري الذي قدمه أثناء الاعتقال وبعده.
في أحدى أمسيات تلك الأيام كان محجوب ينتظر في الركن الجنوبي الشرقي من مبنى المجلس البلدي العتيق وقتها وقبالة سبيل سلاطين باشا تماماً كما بين له مبعوث الشخصية التي سيلتقيها، لم تمض دقائق معدودات على الوقت المتفق عليه حتى توقفت عربة رمادية اللون لم يستطع محجوب معرفة نوعها لعدم خبرته بأنواع السيارات، فتح سائق العربة الباب لمحجوب الذي دلف لداخلها فانطلقت بهما العربة، السائق ومحجوب، وعندما صافح محجوب السائق الجمته الدهشة والمفاجأة بعدما بانت له الملامح الكاملة للشهيد الرائد فاروق عثمان حمد الله بالقميص الأبيض ذو الأكمام الصغيرة والبنطال الأسود والحذاء البني اللامع، مد فاروق يده مصافحاً محجوب، وكان سلامه على محوب فيه حرارة ومودة وكانه يعرفه منذ زمن بعيد، كان فاروق وقتها وزيراً للداخلية وعضواً بمجلس قيادة "ثورة" مايو، ولم يكن قد أُطيح به بعد من المجلس مع رفيقيه الشهيدين الرائد هاشم العطا والمقدم بابكر النور.
سأله فاروق ما إن كان يدخن وعندما أجاب محجوب بالايجاب أشار فاروق لعلبة سيجائر بينسون موضوعة على طبلون العربة أمامهما وطلب منه أن يشعل سيجارة وأخرى لفاروق أيضاً، قال محجوب أنه يكتشف لأول مرة بأن الشهيد فاروق ليس أسوداً كما يظهر عادة في الصور الفوتوغرافية، بل أن لون بشرته أقرب للون زينب عند السودانيين، بعد السلام والدردشة البسيطة علق فاروق قائلاً لمحجوب أنه كان يعتقد بأنه سيلتقي برجل كبير في السن ولم يكن يعتقد أن محجوباً شاب في مقتبل العمر فضحكا، كانت العربة الرمادية اللون تجوب شوارع أم درمان دون توقف، وقد قصد فاروق ذلك لدواعي التأمين. فيما بعد استطاع محجوب وبواسطة الأصدقاء، تحديد نوع العربة التي كان يستقلها مع فاروق، حيث كانت ماركة هنتر والتي كثر استخدامها في تلك الفترة خاصة وسط المسؤوليين والمتنفذين في النظام المايوي.
دلف فاروق للموضوع الذي من أجله التقى محجوباً، قال له ربما تكون ملماً بالتطورات السياسية المتلاحقة التي تمر بالبلاد، وأن من المتوقع بأن الصراع سيحتدم في الفترة القادمة بين تيارين داخل السلطة، تيار تمثله القوى الثورية التقدمية والديمقراطية وتيار آخر يمثله القوميون العرب الذين من الواضح قد هيمنوا على الجيش ويزحفون حالياً لتولي مقاليد الأمور بالبلاد، وأن هذا التيار أصبح مدعوماً من الرئيس أنور السادات في مصر بعد هيمنته على مقليد الأمور في أعقاب تخلصه من إرث الزعيم جمال عبد الناصر الذي كان حكيماً في نظرته لأوضاع السودان التي تختلف تركيبته عن دول وشعوب المنطقة في ظل الصراع المحتدم بين التيار الثوري الديمقراطي وتيار القوميين العرب.
سأله محجوب ما إن كانوا جزءاً من التيار العريض للقوى الثورية، فرد فاروق قائلاً له أن هذا من المفترض ولكنهم بتوجهاتهم العامة عربياً يفارقون الجماعة، خاصة أن التركيبة الغالبة داخل مجلس قيادة الثورة تفتقر لميكانيزمات القيادة الطليعية المثقفة والواعية بالمرحلة على المستوى الفكري والنظري، وأضاف موضحاً لمحجوب بأن ما أصبح ملاحظاً في سلوكهم من قبل ضباط الجيش وضباط الصف والجنود، هو الاندفاع نحو بريق السلطة والظهور في أجهزة الاعلام أكثر من المطربين أنفسهم والانعزال عن قواعدهم، فضلاً عن فرضهم لقرارات غير متجانسة أو موضوعية دون دراسة وتعمق، وأضاف قائلاً لمحجوب، سيبك منهم، فهم في نهاية الأمر تيار إنتهازي عاجز ولا يحملون أي فكر يضيف لمسيرة الثوار شيئاً.
ثم مضى موضحاً لمحجوب سبب لقاءه به بشكل أكثر دقة، عندما أبان له أنه يلاحظ اندفاعه بقصائده مع الفنان محمد وردي لتأييد النظام المايوي، وأن هذا يعد حماساً ثورياً زائداً عن اللزوم وعليهما ـ محجوب ووردي ـ أن يكبحا جماح عاطفتيهما لأنه حماس يصب في صالح هذا التيار، بل ويعبئ الشارع ليصطف دون تبصر خلفه داخل سلطة مايو، وأن عليه ألا يكثر من تدبيج القصائد الممجدة لمايو وأن يكون واعياً أكثر بالمرحلة وضروراتها حتى تتضح الأمور، ثم أبان له أنه يقول له ما قال من موقع حبه لشعره الذي يتابعه وجزالة نظمه والمضامين التي يحملها، وأنه لم يشأ أن يلتقيه هكذا دون سابق معرفة إلا بعد تأكده من أصالة معدنه ورجاحة عقله وطبيعته المنفتحة، شكره محجوب وعلق قائلاً له، أنه ورغم حداثة سنه في العمل السياسي ولكنه بالفعل يلاحظ بعض التصرفات غير المريحة للنظام، خاصة تعجله في ما يخص تطبيق السلم التعليمي وأنه كمعلم يرى بأن ما تم ويتم سيلحق ضرراً بالغاً بكامل العملية التعليمية والتربوية بالبلاد، وأن ما كان مأمولاً وما كانت تنتظره جموع المعلمين في كافة المراحل الدراسية هو إشراكهم بالاستماع لآراءهم ووجهات نظرهم كمتخصصين في هذه القضية الحساسة، فضلاً عن توجه النظام لاحلال بعض منظمات الشباب والنساء كبديل لمنظمات تاريخية عريقة كأتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي، وتوجهات بعض رموز مايو العسكريين لتلميع أنفسهم، خاصة بالنسبة للنميري الذي بدأ يظهر كزعيم في مقام عبد الناصر. فعلق فاروق قائلاً بأن ذلك بالضبط ما كان يقصده ولذا فإن عليه توخي الحذر الواجب، يقول محجوب أن اللقاء انتهى عند هذه النقطة بعد أن اتفقا على لقاء آخر يتم الاتفاق على زمانه ومكانه بينهما فيما بعد ويكون ضمنه الفنان محمد وردي. ثم دلفا لدردشة عامة وتعارف أعمق كما يحدث عادة بين السودانيين،
تشاء الأقدار ألا يتم هذا اللقاء مطلقاً، وأن يكون اللقاء السابق الذي تم بينهما أول وآخر اللقاءات، حيث بعدها بأشهر قلائل " وهي الفترة التي كتب فيها محجوب قصيدته الناسخة للأولى والتي يقول فيها والله لا حارسنا لا فارسنا لا مايو الخلاص" تلاحقت الأحداث تماماً كما توقع فاروق، لتتفجر أكثر دموية في 22 يوليو 1971 ، فيساق الشهيد الباسل الرائد فاروق عثمان حمد الله للدروة ليعدم فيها مع رفيقه الشهيد المقدم بابكر النور ويزج بمحجوب مع وردي وألاف الشيوعييين والديمقراطيين والتقدميين في معتقلات مايو، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل سيطرة تيار القوميين العرب على مقاليد الأمور بالبلاد!، يكون فيها محجوب ضمن آخرين، الزائر رقم واحد لمعتقلات النميري ومايو طيلة ستة عشر عاماً حتى لحظة سقوط النظام المايوي في السادس من أبريل 1985 ، عندما هجمت جماهير الانتفاضة على سجن كوبر لتدك أبوابه المغلقة وتطلق سراح المعتقلين السياسيين والذين كان الراحل العزيز محجوب شريف من بينهم.
" ضمن كتاب جديد قيد الطبع عن الشاعر الراحل محجوب شريف بعنوان محجوب شريف ،، حكايات بلا حدود ".
ـــــــــــــــــــــــــــ
* عن صحيفة الميدان Sudancp.com

helgizuli@gmail.com

 

آراء