boulkea@gmail.com
جاء في معجم لسان العرب أنَّ "الغش" في أحد معانيه يُفيدُ "الرواية بالمهملة", وجاء كذلك أنَّ "الغين والشين أصولٌ تدلُّ على ضعفٍ في الشيء واستعجالٍ فيه", وفي القانون يُعرَّف الغش بأنه "خداعٌ مقرونٌ بسوء النيَّة", ويتجلى الغش في خلط الأشياء وتغيير طبيعتها وتحريف واقعها عن طريق "التحايل والتزييف والتدليس", وهو فعلٌ مذموم يتخذُ من التزوير مطية لتحقيق أغراض غير مشروعة وبدون وجه حق.
وقد إنتشرت في الآونة الأخيرة الكثير من الكتابات "المغشوشة" سواءٌ كان ذلك "بسوء نية" أو "بالإستعجال والإهمال" وكلا الأمرين لا يليقُ بأصحاب الأقلام الجادة والرصينة, فالكتابة أمانةٌ وأخلاق قبل أن تكون مجالاً للشرح والتحليل وتوصيل المعلومة ونشر الأفكار, والعلاقة بين الكاتب والقارىء تنبني على "الثقة" التي لا يجب أن تهتز للحظة واحدة.
وقعتُ على مقالٍ بعنوان ( الخرطوم.. موسم الهجرة إلى أديس أبابا ) منشور بموقع "الجزيرة نت" بقلم " د. ياسر محجوب الحسين", وقد جاء في صفة الكاتب أنه (كاتب صحفي وأكاديمي سوداني), والمقال في مجمله محاولة للنظر فيما يجري بين الخرطوم وأديس أبابا والقاهرة في ضوء التطورات التي تشهدهاعلاقات البلدان الثلاثة منذ ظهور قضية "سد النهضة" وحتى زيارة الشيخة "موزا" للسودان, والحملات الإعلامية المستعرة بين الأخير ومصر.
حاول الكاتب توضيح أن التقارب الأخير بين السودان وأثيوبيا لن يكون خصماً على علاقة السودان بمصر, وجاء على ذكرعددٍ من الأسباب التي ساهمت في توتر العلاقة بين القاهرة والخرطوم من وجهة نظره, ولكنه وضع في خاتمة المقال "قنبلة" نسفت مصداقية كل سطرٍ من سُطوره.
أورد كاتب المقال, خارج السياق, المعلومة التالية منسوبة لصحيفة "يديعوت أحرنوت" (عبرية وتعني آخر الأخبار ) الإسرائيلية وقال :
( وتقول صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية -في تقرير عن حضور ملف السودان في لقاء الرئيس المصري السيسي بالرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخير- إن مُستشاراً لترمب سلَّم المسؤولين في البيت الأبيض تقريراً أعدته جهات مصرية حول رعاية السودان للإرهاب.
( وأكدت الصحيفة الإسرائيلية كذلك أن المصريين ظلوا يمارسون سياسة "الكبح الإستراتيجي" ضد السودان لعشرات السنين، وأعاقوا كثيراً من مشروعاته ونشطوا في تنفير المستثمرين منه ). إنتهى
المفاجأة هى أنَّ التقرير الذي نسبه كاتب المقال لصحيفة "يديعوت أحرنوت" هو تقرير مفبرك ولا وجود له ولا يستطيع الكاتب أن يأتينا بما يُثبت نشره في الصحيفة الإسرائيلية و "لو خبط رأسه بالسماء", ولكن المدهش في الأمر هو أنَّ صاحبنا إعتمد على تقرير "مضروب" متداول في "الفيسبوك" و "الواتساب", دون الرجوع للمصدر الأصلي والتأكد من صدقيته خصوصاً وأنه يتناول موضوعاً هاماً مثل علاقة السودان بمصر, وما يشوبها من توتر في هذه الأيام.
إذا افترضنا حسن النيَّة, وقلنا أنَّ الغش الذي إستخدمه كاتب المقال كان نتيجة "الإستعجال والإهمال", فإننا لن نجد له عذراً في هذا الخصوص, ذلك لأنه قد تعمَّد أن ينشر لنا مع مقاله المعني صفته "ككاتب صحفي وأكاديمي", وهذه الصفة لها إشتراطات مُتعلقة بالقدرات وأساليب البحث والتقصِّي العلمي للمعلومات, ولا يُمكنُ لشخصٍ يحمل هذه الصفة عن جدارة وإستحقاق أن يقع في خطأ كبير وخطير مثل الذي إرتكبه الكاتب.
لا يخفى على القارىء الكريم أننا نعيشُ في عصرٍ لم يعُد فيه التحقق من "المعلومة" أمراً عسيراً أو مستحيلاً, خصوصاً, في حالتنا هذه, حيث توجد مواقع إليكترونية للصحف تحتوي على أرشيف يضم كل ما ينشر, إضافة للعديد من وسائل التحقق الأخرى المتاحة, وهو أمرٌ لا نظنهُ غائباً عن كاتب المقال الذي تعمَّد تزيين إسمه بحرف "الدال" (دكتور), وهى صفة بات يحملها كل من هبَّ ودبَّ (مِنْ جميع أصناف الناس) في هذا البلد المنكوب !
كما أنَّ التقرير المفبرك الذي نقل عنه الكاتب معلومته مكتوب "بسذاجة" شديدة وملىء بالثقوب التي لا يُمكن أن تُخطئها العين, بدءاً من إسم مترجمه "الشبح" (أسامة الدهامشة – غزة) الذي لا وجود له في دنيا الناس, ومروراً بالخلط في الموضوعات, بحيث يستطيع القارىء أن يكتشف بسهولة ويُسر أن الأيادي التي كتبت التقرير كانت تعمل بتوجيهات ضمن إطار الحملة الإعلامية المستمرة منذ فترة بين القاهرة والخرطوم.
أمَّا إذا إفترضنا أنَّ غش الكاتب كان "مقترناً بسوء نية" كما جاء في التعريف القانوني للكلمة, فإننا لا يمكن أن نغفل عن الحقائق التي بين أيدينا, والتي يأتي في مقدمتها أنَّ "ياسر محجوب الحسين" كان حتى سنوات قريبة أحد أبناء الحكومة المُدللين, وقد شغل منصب رئيس تحرير صحيفة "الرائد" الناطقة بإسم حزب المؤتمر الوطني الحاكم لفترة, قبل أن يُقرر الهجرة لبريطانيا, هذا من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى, فإنَّ الطريقة التي أورد بها الكاتب معلومته تُنبىءُ عن أنه لم يستخدمها بحسن نية , فالقارىء لمقاله يستشعرُ أنَّ الكاتب إجتهد في إقناعه بأنه يتناول الموضوع بشىء من العقلانية , ولكنه قفز في نهاية المقال دون ربط موضوعي إلى وضع الإقتباس المنسوب زوراً لصحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية, وهى حيلة معروفة في الكتابة يدَّعي أصحابها أنّ خاتمة المقال ترسخ في ذهن القارىء أكثر من أية جزء آخر فيه.
وبالتالي فكأنَّ صاحبنا هدف لإبلاغنا أنَّ الحكومة المصرية قد سعت لإبقاء إسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب, وأنها كذلك وقفت في وجه تدفق الإستثمارات نحوه, وبما أنَّ هذه الإتهامات قد وردت في أكبر الصحف الإسرائيلية "يديعوت أحرنوت" فلا مجال لتكذيبها لأنَّ "تل أبيب" ليست لها مصلحة في الوقوف إلى جانب السودان ضد مصر !
وإذا نظرنا في محتوى المعلومات الواردة في التقرير "المضروب" سنجد أنَّها في غاية السذاجة وأنَّ كاتبها لم يراع مقدرة القارىء على التحليل والنظر في مصداقيتها, فمن المعروف أنَّ واشنطون ظلت تتعاون مع الحكومة السودانية في مجال الإرهاب منذ ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001, وأنها ليست في حاجة لأن تُعد لها جهات مصرية تقريراً "حول رعاية السودان للإرهاب", فهى تعرف كل شاردة وواردة تدور في السودان, وحتى إذا كانت ترغب في التواصل مع دول أخرى للحصول على معلومات في هذا الخصوص فإنَّ هذا الأمر يتم في إطار التعاون الإستخباراتي وليس عن طريق مستشار للرئيس ترامب !
أمَّا موضوع "الكبح الإستراتيجي" فهو أمرٌ مثيرٌ للضحك والبكاء في آنٍ واحد, فمن المعلوم بداهةً أنَّ المستثمرين تُحرِّكهم مصالحهم الإقتصادية و التجارية والأرباح التي يُمكنهم تحقيقها من وراء الإستثمار المُعيَّن, ولا تستطيع جهةٍ ما منعهم من الذهاب بأموالهم حيث يشاؤون وفقاً لتقديرات الربح والخسارة.
ومن ناحية أخرى فإنّ الكل يعلم أنَّ إحجام المستثمرين عن الدخول للسودان "لعشرات السنين" كما جاء في التقرير المفبرك تسببت فيه عوامل موضوعية أخرى مثل حالة عدم الإستقرار السياسي والحروب الأهلية والبيروقراطية والفساد المالي والإداري المستشري والعقوبات الإقتصادية التي فرضتها واشنطون منذ عام 1997.
لا يخفى على القارىء الكريم أنَّه ليس من أغراض هذا المقال مناقشة موقف الكاتب من قضية العلاقات السودانية المصرية, إذ أنَّ لكل شخص الحق في تبني أية موقف يراه والدفاع عنه بالحجة والدليل والبرهان, وليس بالتلفيق والتزوير وغش المصادر, فهذه الأساليب لا تُضعف حجَّة الكاتب فحسب وإنما تنسف مصداقيتها من الأساس, خصوصاً وأنه قد إمتلك الجرأة لنشر مقاله في واحد من المواقع الكبيرة والمقروءة بكثافة (الجزيرة.نت).
وأخيراً يجدرُ بنا التذكير بأنَّ الإعلام السوداني في مجمله ظلَّ يقول أنَّ الحملة التي شنَّها بعض الإعلاميين المصريين ضد مواقف الحكومة السودانية هى حملة مُجحفة, قائمة على التلفيق, ولا تنبني على الحقائق التي تسببت في توتر العالقة بين البلدين مؤخراً, وبالتالي كان من الأوفق لمن يتناول هذا الموضوع أن يسعى لتفنيد الحُجج وتوضيح الحقائق بشفافية ومصداقية ودون حاجة للإستناد على معلومات مفبركة ومصادر مغشوشة.