الراحل السفير رحمة الله عبد الله …. ذاك الجيل الذهبي
إن كانت مجالسة كبار السن هواية فيمكنني الجزم بأنها واحدة من هواياتي المحببة، فهؤلاء الكبار – علا شأنهم أو صُغر – مثل كتاب مفتوح نطالع فيه دقائق الحياة السياسية والاجتماعية لزمن لم نشهده . الصدفة السعيدة وحدها هي التي جمعتني بالراحل السفير المخضرم والدبلوماسي الحاذق والوزير السابق السيد رحمة الله عبد الله قبل بضع سنوات فاستطالت الجلسة إلى ثلاث ساعات وأنا أتابع حديثه الشيق ، والذي طوينا فيه ما يقارب النصف قرن من تاريخنا المعاصر.
حكى السيد رحمة الله عن تخرجه فى كلية غردون والتحاقه ببخت الرضا في أربعينات القرن الماضي ثم ذهابه في بعثة إلى جامعة كامبردج والتحاقه بكلية ترينيتي في تلك الجامعة العريقة في الفترة من 1947- 1950 . قلت له يومها : أيُ حظ رزقته في الكمال يا سيدي السفير؟ جامعة كامبردج ومدرستها ترينتي تلك المدرسة الارستقراطية التعليمية التي تختال على كل كليات العالم إلى يومنا هذا والتي تخرج منها كبار العلماء وأساطين السياسة أمثال اسحق نيوتن و نهرو ؟! ضحك سعادة السفير الراحل . ومضيت أقول له إنني أغبطك وربما أحسدك على هذا الترف والنعيم الأكاديمي الذي نلته في زمن كان أبناء اللوردات من الانجليز يتضورون جوعاً عشية خروج بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منتصرة ولكن ممزقة الأوصال.هنا أمسك السفير بخاطرة شاردة وهو يورد مفارقة يقول فيها إن هذه الكلية الأرستقراطية (ترينتي) نال شرف عمادتها لاحقاً اثنان من الأساتذة الذين ارتبط أبواهما بالسودان وهما : الدكتور مايكل إدوار عطية ابن إدوار عطية مسئول قلم المخابرات على عهد حكومة السودان البريطانية ، إلى جانب الدكتور سن إبن (سوكمار سن) الهندى الذي أشرف على أول انتخابات في تاريخ السودان في 1953.
بعد أن عاد العم رحمة الله من بعثته الظافرة والتي نال بموجبها درجة رفيعة في التاريخ والفلسفة السياسية التحق بمشروع الجزيرة في منتصف القرن الماضي وعمل في رئاسة المشروع قبل السودنة حين كان السيد مكي عباس يشغل وظيفة مرموقة يعاونه فيها السادة محمود محمد علي وعمر عبد الله الكارب ورحمة الله عبد الله. التحق بعدها الأستاذ رحمة الله مع فجر الاستقلال بالخارجية وكان يشكل مع رصفائه من ذاك الجيل الذهبي أول تيم من السفراء الوطنيين الذين قامت على أكتافهم الدبلوماسية السودانية الوليدة ، وكانت أولى محطاته الهند كأول سفير للسودان في ذلك البلد.
مضى الراحل السفير المخضرم يحكي عن تجربته في الهند ليقول إن القارة الأفريقية السوداء لم تكن تملك سوى سفارتين في الهند هما السودان وأثيوبيا ، وأن سفير أثيوبيا الذي زامله في تلك الفترة البعيدة كان(رأس إمراس) عم الإمبراطور هيلاسي لاسي والذي عرضوا عليه حكم إثيوبيا عشية انقلاب فاشل على الإمبراطور ، كما كان هناك بعض السفراء العرب ومن بينهم الشاعر الكبير عمر أبوريشه سفير سوريا للهند في ذلك الزمن.
والى جانب عمله في الهند كان سفيراً غير مقيم لليابان وبعض الدول الآسيوية ، وحكى عن زيارته مع وفد تجاري سوداني إلى الدول الأسيوية حيث التقى بـ(شوان لاي) رئيس الوزراء الصيني والرجل الثاني بعد ماوتسى تونج . كان السودان يومها تحت ظل الأيام الأولى لعهد عبود ولم يتم اعتراف السودان بحكومة الصين الشعبية بعد ، فراح( شوان لاي) يحثهم على هذا الاعتراف مغرياً لهم بقوله :(لو طلبت من كل سيدة صينية أن تزيد من طول فستانها بوصة واحدة لاشترينا كل أقطان السودان)! ولعل هذا ما دفع السفير رحمة الله لكتابة مذكرة إلى السيد أحمد خير وزير الخارجية يومها موصياً بهذا الأمر.
وعن علاقته الوطيدة برئيس وزراء الهند وزعيمها الأشهر يوم ذاك نهرو يرجع السيد رحمة الله هذه العلاقة إلى عدة أسباب من بينها أن الهند كانت أكبر مشتر لأقطان السودان ، إلى جانب جذبه لانتباه نهرو عبر الثوب السوداني الذي ترتديه السيدة زوجته في الحفلات الدبلوماسية، والذي يشبه إلى حد كبير( الساري) الهندي مما أثار فضول الرئيس الهندي . وتوثقت العلاقة عندما عرف نهرو أن السفير السوداني تخرج فى ذات الكلية العريقة( ترينيتي- كامبردج) التي تخرج منها الرئيس نهرو نفسه . ويمضي السفير رحمة الله في حديثه الشيق عن تلك العلاقة عندما رُزق بأول أبنائه في الهند عام 1957 وأطلق عليه اسم(مهند)، وفي نظر السفير أن هذا أول ( مهند) في السودان فيومها لم يكن الاسم مألوفاً ، ويحكى في هذا الشأن أن نهرو سأله عن دلالة هذا الاسم فأوضح له أن( المهند) هو السيف الهندي وراح يترجم له بعض أشعار كعب بن زهير في مدح المصطفى(ص) حين يقول:
إن النبي لنور يستضاء به (مهند) من سيوف الله مسلول
مما أطرب نهرو ووطد العلاقة بينهما .
كانت المحطة التالية له سفارة السودان بنيجريا فكان له الشرف ايضاً أن يكون أول سفير بذلك البلد الأفريقي الذي يشابه السودان في تاريخه وأزماته السياسية المزمنة. انتقل بعد ذلك إلى فرنسا سفيراً للسودان بها وسفيراً غير مقيم لدى هولندا وبلجيكا وسويسرا واسبانيا. ومضيت معه في حديث طويل عن انطباعاته الشخصية عن الرئيس الفرنسي شارل ديجول ، إلا أنه طوي هذه الصفحة وهو يدلف إلى اختياره وزيراً للتربية والتعليم في حكومة ثورة أكتوبر الأولى(1964) برئاسة الأستاذ سر الختم الخليفة رحمه الله . سألته عن ملابسات ترشيحه للوزارة فأجابني بصدق أنه لا يعرف من رشحه ولكن عرف فيما بعد أن دكتور حسن الترابي ربما يكون هو من رشحه لهذا المنصب.
عاد السفير الحاذق بعد خروجه من الوزارة إلى ساحة الدبلوماسية مرة ثانية ليصبح مندوب السودان في الأمم المتحدة وعضو مجلس الأمن الدولي بعد أن تم ترشيح السودان لهذه العضوية في العام 1972، حيث كانت هناك ثلاثة مقاعد للدول الأفريقية ومقعد آخر للدول العربية . كانت رئاسة المجلس تتم بصورة دورية إذ يترأس كل عضو المجلس لمدة شهر وعليه أصبح السيد السفير رحمة الله عبد الله رئيساً لمجلس الأمن. هنا تحضر الطرفة عمنا رحمة الله فمضى يقول إن بعض معارفه راحوا يداعبونه بأنه أصبح( حاكم عام العالم). وكان يزامله في عضوية مجلس الأمن في تلك الفترة الرئيس الأسبق جورج بوش( الأب) ممثلاً للولايات المتحدة . إلى جانب هذا المنصب الرفيع كان السفير رحمة الله يشغل منصب رئيس لجنة العقوبات بمجلس الأمن – أهم لجان المجلس- والتي أوكلت له رئاستها بشكل دائم بعد أن كانت ترأس بشكل دوري تقديراً لكفائته المهنية.
أي جيل من ذهب ذاك الذي انضوى في صفوفه المرحوم السفير رحمة الله عبد الله عليه رحمة الله ؟! رجل تخرج فى كلية ترينيتي بجامعة كامبردج بعد الحرب العالمية الثانية وربطته صداقة شخصية بنهرو وشوان لاي وديجول وبوش الأب، وترأس مجلس الأمن الدولي. رجل إذا ماصادفته في(برندات) شارع الجمهورية - كما التقيته أنا تلك الأيام - لحسبته من غمار الناس من فرط التواضع ، فقد اختار بعد كل هذا المجد أن يعمل مزارعاً بسيطاً في سهول القضارف قبل أن يتقاعد فى منزله .
رحمك الله سيدى السفير.
fadilview@yahoo.com